Home»International»بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا

بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا

0
Shares
PinterestGoogle+

في الحياة من حولنا، وفي المستجدات التي تمور بها الدنيا أمامنا،نرى آيات وآيات، تكون قبل وقوعها شبيهة بالمستحيلات، وتبدو بعد حدوثها قريبة من وقوع المعجزات، ولكن إلفَ الإنسان للشيء الباهر بعد وقوعه يقلل من الانبهار به،
ويحدُّ من وقع الشعور بأن المعجزة معجزة والآية آية، حتى تبدو الأمور التي كانت بالأمس أشبه بالخوارق، أموراً عادية، بل ربما تجد من يجادل في عظمتها وفي جليل دلالتها.
خذ مثلاً أصناف وأشكال المخترعات التي تموج بها الحياة في عصرنا.. إنها كانت قبل قرن واحد، أو عدة عقود، من الأحلام والأوهام التي ربما رُمي من زعم قدرة البشر على صنعها بالخرافة والدّجل، فلما وُجدت ورآها الناس وعايشوها خرجت عن وصف الإعجاز الخيالي إلى الإنجاز الاعتيادي، فالإنسان المعاصر صار يهيم في الهواء،ويطير على سطح الماء، ويتنقل صوته وصورته عبر الفضاء، وربما نسي هذا الإنسان أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي علم الإنسان ما لم يعلم. قسْ على ذلك المستجدات الحادثة على خريطة التاريخ المعاصر، وقارنْها بما كان عليه الحال، لا نقول قبل قرون، بل قبل عقود.. لا بل قبل سنين، ترَ عجباً!
·فمن كان يصدق أن تشهد السنون القلائل الماضية، عودة الاستعمار واستهداف العالم الإسلامي بغارات جديدة، تستهدف صراحةً أوطان المسلمين في عصر شعارات التعايش السلمي، والتفاهم الأممي والمنظمات الدولية المصنوعة من أجل (السلام العالمي) ؟
·من كان يتخيل أن تبدأ الجولة الاستعمارية الجديدة من الشرق، باجتياح الروس لأفغانستان، ليتّحد العالم الإسلامي بعدها ـ بلا قيادة واحدة ـ ضد الاتحاد السوفييتي حتى تكون ثمرة هذا الاتحاد الإسلامي إسقاط الاتحاد الإلحادي، الذي يُعدّ الكيان الأكبر في التاريخ الذي قام على فكرة إنكار وجود إله للكون؟!
ومن كان يظن أن تتزامن مع هذه الملحمة نهضة وصحوة إسلامية عالمية، ظلّت تتزايد وتتفاعل حتى أصبحت بالفعل تجديداً جديداً على رأس مئة عام، تصديقاً لخبر المعصوم ؟
·ومن كان يتصور أن دولة اليهود التي حازت ترسانات السلاح من كل نوع، تعجز عن قهر فتية فلسطين شبه العزّل، بعد أن هزم اليهود في حروب ثلاثة متوالية جيوش العرب مجتمعة؟
· ومن كان يخمِّن أن يبدأ مع ذلك مسلسل سقوط الأصنام القـومية، والزعـامـات الثورية والدمى العلمانية، شرقية كانت أو غربية، لتسلِّم الأمة قيادها من جديد لقادة غير متوّجين من الإسلاميين، في مجال الفكر والفقه،والنظر السياسي والتنظير الإستراتيجي والعسكري في كل ميادين المجابهة الكبيرة التي تولى العلمانيون عنها يوم الزحف؟
· ومن كان يحدث نفسه، أن يأتي الدور بهذه السرعة على القطب الثاني الذي أصبح قطباً وحيداً في قيادة العالم (أمريكا) لتدخل هي الأخرى في ركب الدول الاستعمارية بعدما ظن الناس أن عهود الاستعمار قد ولّت إلى غير رجعة، وليتحول (النظام الدولي الجديد) الذي دعا إليه بوش الأب، إلى استعمار عالمي جديد في عهد بوش الابن، ولتدخل الدنيا مع مجيئه بوتيرة متسارعة إلى مقدمات صراع الحضارات الذي يريدون له أن يفضي إلى نهاية التاريخ!
))إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً))
أطلْـتُ – نـوعاً ما – فيما سبق – في التعريج على الذكريات أو التذكيرات؛ لأنبِّه إلى أننا نمرُّ بحدث جلل، وكائنة عظيمة، أخشى أن تذهب كثرة الإمساس فيها بالإحساس بها، والتهيؤ لتبعاتها، ألا وهي: الهزيمة الجسمية التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق القريب لأعتى قوة في التاريخ، مدعومة بتحالف دولي، وتواطؤ عالمي، حيث تجيء مقدمات تلك الهزيمة ـويا للعجب! ـ على يد أناس لا يجمع بينهم – بعد الإسلام – إلا الحصار والإفقار والمطاردة والاستضعاف، في أرض طال أسرها في سجن البعث لتخرج منه إلى فضاء الفوضى بلا جيش ولا شرطة ولا سلطة. كل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة مقبلة على الإدبار من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري،من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم.
لقد تحدث العالم كثيراً عن تورط الولايات المتحدة في حرب «فيتنام»، وكيف أن شعب ذلك البلد الصغير الفقير، استطاع أن يجبر ثاني قوة في العالم على الانسحاب تحت وقع ضرباته ولسعاته. وقد سجلت الشعوب بطولات هذا الشعب الثائر ـ رغم وثنيته وشيوعيته ـ لا لشيء، إلا لأنه لم يخنع ولم يخضع، بل هبَّ لردِّ العدوان وصد الغارة، وعُدّ هذا في وقته من الكفاح المشروع الذي تكتلت بسببه قوى عالمية وإقليمية للوقوف مع المعتدى عليه ضد المعتدين، فالفيتاميون بخلاف العراقيين – كانت لهم حكومة معترف بها وثوار يدعمونها، ومعسكر شرقي كامل يقف خلفها يضم الاتحاد السوفييتي والصين والدول الشيوعية. لكن انظر إلى العراق اليوم: ما هو ذلك المعسكر الدولي الذي يقف مع المقاومين فيه..؟!
من هي تلك الكتلة الشرقية أو الغربية أو التحالف الذي يرمي بثقله معهم..؟!
من هي تلك المنظمات الدولية التي تنصفهم أو العربية التي تنصرهم؟ وما حجم الهيئات أو التجمعات أو حتى الجماعات الإسلامية التي تقف معهم، ولا تقف ضدهم..؟! إن المقاومين في العراق ـومنذ بدأ العدوان ـ بدؤوا وحدهم يقاتلون باسم الله من كفر بالله واعتدى على خلق الله، فلم يجـدوا نصيـراً أو معيناً سوى الله، ثم بعض الشرائح القليلة فــي الأمـة،ومـع هـذا.. نـرى الأعـداء المتجـبريـن يتـورطـون ثم يرتبكون ثم يتراجعون.. وها هم اليوم يتنادون بحتمية الخروج، ويتقاذفون التهم في التسبب بتلك الورطة الكبرى!!
إن هذا ـ وأيم اللهِ ـ آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعود الله الذي قال: ((كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ)) (البقرة: 249).
نعـم! إن الفـئة القلـيلة التـي لا يـزيـد عـددهـا عـن بضـعة عشـرات مـن الآلاف فـي مواجـهة مـئـة وسـتـين ألـفاً مـن الأمريكيين مع من معهم من الحلفاء، ونحو مئة ألف من العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيـش أو الشـرطة التـي ركبـها ودرّبها وخطط لها المحتل على عينه ولأجل مصـلحته، كل هـؤلاء فـي مـواجهة نُـزَّاغ مفـرقين، بلا صولة ولا دولة، ولا كيان سياسي ولا جيـش عسكري ولا مصدر اقتصادي… واللهِ ((إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)) ([النحل: 13).
ونحن نقول: إذا قدَّر الله للكيان القاهر (أمريكا) أن يُقهَر على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فستكون هذه هي المرة الثانية في أقل من عقد ونصف، التي يرى العالم فيها خيرية أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي العين، بعد أن يكون الله ـ تعالى ـ قد جعل على أيديها إذلال أكبر قوتين في التاريخ المعاصر، وهما: الاتحاد السوفييتي والاتحاد الأمريكي، دون أن يكون لأمتنا أي اتحاد، ليكون ذلك آية للمؤمنين، وليكون تجديداً لعهد الفخار والاقتدار الذي أسقط فيه المسلمون الأوائل إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من خمسة وعشرين عاماً، ليصدق بهذا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ((مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره)) .
ولكن دون ذلك وقبل اكتماله تضحيات وتحديات، فلم يكن انتصار المؤمنين يوماً بلا مقابل، ولم يكن اندحار الكافرين بلا ثمن باهظ من الدماء والأشلاء وجيش جرّار من الأسرى والسجناء والشهداء،ولكن مع الفارق العظيم بين من يضحون لأجل الله، ومن يصدون عن سبيل الله ويصبحون ويمسون في حرب مع الله ومع أولياء الله: ((وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) (النساء: 104).
وابتغاء القوم، وتتبع مكائدهم،والوقوف في وجه طوفانهم، لم يكـن بالأمـر السـهل أو اليـسير التـكاليف، فلنـكن على ذكر ـ حتى لا ننسى ـ كيف سار المجاهدون في مشوار (ابتغاء القـوم) دون وهـن، رغـما لألـم والتنكيل والتخذيل، حتى قام من وسط ركام الهزيمة أولئك القوم الذين يردون اليوم الهزيمة على من أراد أن يلحقها بعموم المسلمين.
أمريكا: نصر رخيص… وهزيمة باهظة:
بات معلوماً للعالم أن إزاحة صدام حسين لم تكن سبباً وحيداً في فكرة غزو العراق، بدليل أن الأمريكيين لم يصبهم ضرره قبل الحرب، ولم يؤرقهم خطره بعدها، وأصبح واضحاً أن أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصار الشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، لم تكن هي الأخرى سبباً حقيقياً لتلك الحرب،وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر، وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة، كان مجرد هراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك فويزلي كلارك))المرشح الديمقراطي السابق للرئـاسة الأمريكية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)،وقد كان كلارك)) قائداً عاماً لقوات الحلف الأطلسي الذي تسيطر عليه أمريكا.
ويدل أيضاً على أن قرار الغزو قد اتخذ قبل أحداث سبتمبر تصريحات وزير الخزانة الأمريكي الأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): إن قرار الغزو اتخذته الإدارة الأمريكية قبل ضربات القاعدة، وهو ما يذكر أيضاً بالتقارير المتعددة التي أشارت إلى أن قرار ضرب أفغانستـان قـد اتخذ قـبل هـذه الضـربات، بـل حـدث فعـلـياً أن استهدفت بصواريخ كروز في نهايات عهد بيل كلينتون)).
وقد تبين أن للغزو أهدافاً أخرى، لم تكن خافية على المراقبين والمهتمين، وعلى رأسها ضم النفط المخزون في العراق إلى جانب النفط في قزوين بالقرب من أفغانستان، إلى نفط الخليج، ريثما يتم بطريقة أو بأخرى الاستيلاء على مخزون نفط إيران، إضافة إلى هدف رئيس آخر وراء الغزو وهو تأمين مستقبل (إسرائيل) أو بالأحرى (نصف إسرائيل) من تهديدات على شاكلة توعدات صدام لها بالحرق عندما قال: سأحرق نصف إسرائيل))! ومن تهديداته بتحرير القدس، عندما أعدل تحريرها كما أشيع جيشاً باسمها يبلغ قوامه نصف مليون متطوع! أما الهدف الأبعد من وراء ذلك فهو ما تواتر عن عزم الإدارة الأمريكية الجديدة ذات القيادة المزدوجة من الإنجيليين النصارى والمحافظين اليهود الجدد، على البدء الفعلي في تنفيذ مشروع بوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) الذي اختاروا الشرق الأوسط ليكون ساحة ابتدائية لتنفيذه، واختاروا العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه، فيصبح ذلك المشروع الإمبراطوري على هذا هو الهدف الرئيسي الجامع في داخله لكل الأهداف الفرعية والجزئية. ومشروع بهذه الضخامة والجسامة، كان يستحق أن تحشد الولايات المتحدة لأجله الحشود، وترصد الميزانيات، وتستنفر الحلفاء، حتى تكشف أنها أنفقت للاستعداد للغزو قبل أن يبدأ أربعمائة وخمسين مليار دولار. وكتم العالم أنفاسه بانتظار أن ينتحر مغول العصر على أبواب بغداد ـ كما توعد صدام ـ ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث،وتسـببت عملـيات (الصـدمة والترويع) التي بدأت بها الحرب في إصابة العالم الإسلامي كله ـ لا العراق فحسب ـ بالصدمة والترويع، وجعلت الأنظمة والحكومات ـ بل الشعوب ـتتحسس الأرض من تحتها، وتتحسب للدور الآتي عليها، بعد أن أنجز الأمريكيون نصراً خاطفاً في حرب سريعة ضد ما كان يشكِّل أقوى قوة عربية في المنطقة، استطاعت أن تذلك برياء زعماء الثورة الإسلامية)) الإيرانية التي كانت تستعد للوثوب على دول الجوار!
وانفتحت شهية الأمريكيين،وانطلقوا مسارعين إلى تأمين الفريسة وإعدادها كوجبة شهية تتبعها وجبات، وإنجازٍ سهلٍ يقود إلى إنجازات، وتتابعت الخطوات:
·فور احتلال بغداد أصدر الأمريكيون المحتلون قرارات بتفكيك كل أجهزة الدولة العراقية البعثية، من جيش وشرطة ووزارات واستخبارات.
·شرعوا في تكوين أجهزة بديلة عميلة عبر مراحل متعددة، كان أولها الإعلان عن إنشاء مجلس الحكم الانتقالي برئاسة اليهودي الأمريكي (جاي جارنر)، ثم خلفه الاستخباراتي العريق (بولبريمر) الذي عمل على اجتذاب كل العناصر المأجورة ليشكل بها وضعاً جديداً.
·أُعلن عن تشكيل مجلس للوزراء دون وزارات، بحيث يُختار الأشخاص أولاً، لينشئ كل وزير وزارته بالتعاون مع مستشار أمريكي، هو الوزير الحقيقي الذي يؤسس سياسات الاحتلال في ))وزارة التحرير!
· نظراً لأهمية تأمين هذا المشروع التآمري الوليد، كان لا بد من إنشاء جهاز شرطة عميل، يسهر على أمن الأمريكيين مضحياً بمستقبل العراق وأهله.
· تزامن مع ذلك سعي آخر لإنشاء جيش جديد، قوامه مئتا ألف جندي، لا لحماية الثغور والدفاع عن الحدود من الخارج؛ بل لتنفيذ العمليات المشتركة مع الأمريكيين ضد المقاومة في الداخل.
· ولإضفاء الشرعية على هذه التمثيلية، أعلن الاحتلال تشـكيل لجـنة ))قـانونـية لصيـاغة دسـتور عراقي جديد، وضـع أسسـه وفـق التـصور الأمريـكي، اليهـودي العراقي (نوح فيلدمان) ذوالجنسية الإسرائيلية الأمريكية المشتركة ليضمن هذا الدستور ألا يكون العراق إسلامياً.. لا ولا عربياً، بل عراق عراك طائفي، ونزاع مذهبي يضمن بقاء بنائه هشّاً ومفتقراً للاحتلال، ومهيّأ لأعاصير ))الفوضى الخلاَّقة التي تريد أمريكا اللعب عليها.
· ثم عُين الرافضي العلماني الجاسوس، الجامع بين تلك الظلمات الثلاث )إياد علاوي(؛ ليكون أول رئيس لمجلس وزراء معيَّن من قِبَل الاحتلال، ثم عُين (غازي الياور)؛ ليكون أول رئيس للعراق )المستقل( في ظل الاحتلال!
·مع الوقت شرع الاحتلال في تجسيد التقسيم الطائفي، فأعلن عن تنظيم انتخابات على أسس طائفية، اضطر معها السُّنة أن يقاطعوا الانتخابات، لتكون النتيجة تشكيل وزارة جديدة، غالبيتها من الشيعة المشايعين للأمريكيين والرافضين لأي تعاون إلا معهم أو مع إيران. وفي ظل هذه القفزات المتسارعة لتثبيت الاحتلال بدعوى الاستـقلال، وجـد العراقيـون الشرفاء أن العدو ليس واحداً، بل هم مجموع من متحالف من الألداء، ومع أن مقاومة هذا الأخـطبوط بدأت مبكـرةً في أسـرع إفـاقة بعد أكـبر مصـيبة، إلا أن المجــاهدين المقـاومين بـدت أمـامهم تحديات وعقبات كان لا بد من مواجهتها جميعاً؛ لأن إهمال شيء منها سيعني إخفاق المشروع المقاوم برمّته.
لقد وجدوا أنفسهم أمام واجب مركَّب، يحوي داخله العديد من الواجبات التي لن ينتدب أحد لحلِّها، ما لم يقفوا هم بأنفسهم لأجلها، متوكلين محتسبين، فأمامهم قوى الاحتلال الذي قال قادته: إنهم جاؤوا ليبقوا، وضمن ذلك تحديا تكبيرة:
منها: الإصرار على محاولات إضفاء الشرعية على هذا الاحتلال من خلال حكومات عميلة تتكلم باسم العراقيين، وتتصرف لمصالح أجنبية أو شخصية أو طائفية.
ومنها: جهود إسباغ الشرعية عربياً وإسلامياً على حكومة الاحتلال عبر إقامة العلاقات وإنشاء السفارات.
ومنها: شبح التقسيم الذي وضعت بذوره في ثنايا الدستور الذي أصرت أمريكا وعملاؤها على تمريره.
ومنها: إشكالية التنسيق بين الخطط العسكرية والمشاريع السياسية، والتصدي لمحاولة الاحتلال وعزل كل منهما عن الآخر.
ومنها: إيجاد مواطئ أقدام ونقاط ارتكاز تنطلق منها المقاومة وتفيء إليها، مع ما يحتاجه ذلك من جهود مطلوبة لإدارة هذه النقاط أو المناطق التي يمكن السيطرة عليها.
وقد جابهت المقاومة هذه التحديات بتحركات، تطورت عبر مراحل، سلمت كل منها إلى الأخرى،فبدأت بُعيد الغزو بمناوشة المحتلين؛ لتكوين الخبرات وتنشئة العناصر القادرة على المواجهة، ثم بدأت بتنظيم هجومات تكتيكية ضمن حالة الدفع العام للصائل المعتدي،ورتبت بعدها للانتقال إلى خطة الهجوم الإستراتيجي الذي يحوّل الخصم إلى موقع الدفاع، ثم جرى العمل وفق سياسة استنزاف العدو وإفقاده القدرة على الدفاع، لينتقل المجاهدون بعد ذلك إلى تكثيف المطاردة والإنهاك؛ لحرمان المعتدي مستقبلاً من الظهور بمظهر المنتصر، أو حتى المنسحب انسحاباً آمناً، أما المتعاونون مع الأعداء فقد اعتمد المجاهدون سياسة إفقادهم التوازن، ببثِّ الخوف في أوساط كل من يتعاون مع الأمريكيين في الداخل، مع إرباك مخططات إسباغ الشرعية من الخارج، وفوق كل هذا نجح المجاهدون في نقل جزء من المعركة إلى الداخل الأمريكي، عن طريق اتِّباع سياسة إعلامية تركز على إعادة تصدير إستراتيجية (الصدمة والترويع) ـ التي عانى منها الشعب العراقي في أول الحرب ـ إلى الشعب الأمريكي نفسه، وذلك بإصدار البيانات وبثّ الأفلام الحية عن العمليات الناجحة، وهو ما أوجد انقساماً في الرأي العام الأمريكي تجاه جدوى الحرب، سرعان ما تحول إلى شقاق حول مشروعية تلك الحرب ومسوّغاتها. ومع هـذا النجاح في تشكيك الأمريكيين في قدراتهم وقوتهم، ظـهـرت أيضاً بوادر تفـكـيك التحالف الـدولـي المتـعاون مـع الأمـريـكيين، بإجـبار العـديـد من الدول على سحب قواتها أو الشروع في ذلك، فحتى الآن؛ انسحبت أكثر من 15 دولة من التحالف،وأعلنت كلٌّ من إيطاليا وبولندا وهندوراس وغيرها عن نيتها على الانسحاب، وهو ما تسبب في ردع دول أخرى كانت ترتب لإرسال قوات مساعدة. ليس معنى ما ذكرناه عن إنجازات المقاومة أن يُظن أن أهل السنة في العراق يملكون قدرات خارقة، أو إمكانات خرافية، بل على العكس، فسقوط النظام البعثي جعل الطائفة السنية في العراق هي الأكثر تضرراً، بفعل الأحقاد الطائفية الرافضية من جهة، والعنصرية العلمانية الكردية من جهة أخرى، والاستغلال الأمريكي لهذين الطرفين الكارهين من جهة ثالثة، إضافة إلى أن حلّ مؤسسات الدولة كان في غير مصلحة السنة الذين كانوا يمثلون ـ كطائفة ـ غالبية الحكومة العراقية، وهذه الأسباب مجتمعة دفعت المقاومة إلى العمل السري، فكان هذا عاملاً إضـافياً فـي صعـوبة مهمـتهم، والمقـصود هـنا أن هـذه المقاومة عمـلت فـي ظـروف استـثنائية غيـر طبيـعية، ومـع هـذا أحرزت ـ بفضل الله ـ نجاحات قياسية في حجمها وفي وقتها وفي أثرها القريب والبعيد، فحقاً
إن في ذلك لآية.
·إن المقاومة ـ مع هذا ـ ليست كياناً واحداً، ولا حتى فصائل متحدة ذات سياسات واحدة واجتهادات واحدة في كل الأحوال، فهي وإن كان قوامها أهل الدين والالتزام من العراقيين الذين أحيا الله فيهم روحاً جديدة بعد الغزو، إلا أن فيهم فئات من الجيش العراقي المنحل وكذا رجال من الاستخبارات السابقة وأبناء العشائر، وبعض الحزبيين البعثيين، مع بعض العناصر القومية والوطنية المستقلة، إضافة إلى شريحة ليست بالهينة من العرب القادمين من خارج العراق؛ فكيف تناسق أداء هذا الفريق المتنوع ليوصل إلى هذه النتائج المبهرة في أقل من ثلاث سنوات، بل كيف انبعث بعد كابوس البعث عشرات الآلاف من الأحرار المجاهدين، بعد أن كنا لا نسمع خلال سني صدام عن صوت معارض أو رمز مجاهد. لقد تكاثَرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن حتمية الانسحاب الأمريكي من العراق، وعندما يذكر (الانسحاب) فلا بد أن يُعلم أن هذا هو مجرد تلطيف في العبارة لحقيقة الاعتراف بالهزيمة، سواء كان هذا الانسحاب آجلاً أو عاجلاً؛ لأن خطة الغزو أصلاً كانت موضوعة لبقاء دائم في العراق، وهو ما كشفت عنه صحيفة الجمهورية التركية في أوائل عام (2004م)، حيث ذكرت أن الولايات المتحدة بنتسبع قواعد عسكرية دائمة في العراق لوجود دائم.
أبعاد الهزيمة : شواهد ومشاهد
هناك عدد من الملامح المتفرقة، تصنع بمجموعها الصورة الكاملة لما وصل إليه الوضع في العراق، على المستوى القريب والمتوسء ومن أبرزها:
· المستوى الذي وصل إليه حجم الخسائر البشرية الأمريكية في الحرب، وهو الأمر الذي يجيء في مقدمة الأسباب التي تذهب بصبر الأمريكيين [1] حكومة وشعباً على الاستمرار الطويل في تلك الحرب، فالإعلام الأمريكي ـ رغم عدم دقّته وحياده في نقل الأنباء المتعلقة بالحرب في العراق ـ يبث على الشعب الأمريكي كل يوم أنباء القتلى والجرحى والمخطوفين والمفقودين والهاربين وصرعى الأمراض البيئية والنفسية والعقلية على ساحة الصراع في العراق، وقد وصل حجم الخسائر البشرية المعلن عنها نحو (2500) من الجنود الأمريكيين، وأصيب نحو عشرة آلاف جندي، هذا مع تأكيد الملاحظة بأن الإعلام الرسمي الأمريكي لا يذكر من الضحايا إلا من يحملون الجنسية الأمريكية، دون ذكر الراغبين في الحصول عليها من المرتزقة والمتطوعين.
· الاقتصاد الأمريكي المنهك بعد أحداث سبتمبر، زادته حرب العراق إنهاكاً، بحيث لم يعد يحتمل إطالة أمد هذه الحرب، فالمقاومة كلّفت المحتل تكاليف باهظة بلغت حتى شهر سبتمبر 2005م (700) مليار دولار في أقل من ثلاث سنوات فقء في حين أن حرب فيتنام بكاملها التي استمرت 18 سنة كلفت الاقتصاد الأمريكي (600) مليار دولار، وهذه التكاليف أثّرت سلباً على انتعاش الاقتصاد الأمريكي الذي سيصـبح العجـز فـيه مضاعفاً على امتداد السنوات العشر القادمة، بحسب توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس في أغسطس (2005م)، وقد بلغ عجز الميزانية (442) مليار دولار،وهو مستوى قياسي ستضطر الحكومة معه إلى إلغاء الكثير من برامج التنمية المجتمعية والاقتصادية والإسكان.
· أما الخسارة (الحضارية) فلا يمكن أن تُقّدر بثمن، حيث تستنفد أمريكا رصيدها من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، كلما طارت الأنباء بفظائع الممارسات الأمريكية في احتلالها العراق، فإضافة إلى ما سرّبته صحيفة «لانسيت الطبية» البريطانية منذ عدة شهور عن وصول عدد القتلى من المدنيين العراقيين أثناء الغزو إلى (120) ألف قتيل بخلاف العسكريين، وإضافة إلى ما سمعه العالم ورآه عن فظائع سجن ((أبو غريب )) والسجون العراقية التابعة للاحتلال، وكذلك ما سبق الاحتلال من موت ما لا يقل عن مليون و نصف من أطفال العراق بسبب الحصار الاقتصادي، فإن الفضائح لا تزال تتوالى عن «الانتصار»الأمريكي لحقوق الإنسان في العراق، حيث تواترت الأنباء عن أن الولايات المتحدة استعملت بعد الغزو القنابل العنقودية، والأسلحة المزودة باليورانيوم والفسفور الأبيض، والقنابل الثقيلة التي تُعدّ قنابل نووية صغيرة، والأسلحة الكيماوية، وهو ما يعني باختصار أن الولايات المتحدة استعملت في العراق (من أجل تحريره من صدام حسين) أسلحة الدمار الشامل، وهو أصبح يمثل كارثة على ذلك الشعب، بحيث أصبحت حالات الإصابة بالسرطان تتفشى بشكل مخيف، وصل إلى (40) ألف حالة إصابة بسرطان الدم أو الجلد، وأكثرها بين الأطفال.
· وقد أوقعت هذه الفظائع الإعلام الأمريكي في ربكة، جعلته في حيرة بين الإصرار على ما اشتهر عنه من الشفافية والحيادية؛ لتأكيد قيم الحرية وحقوق الإنسان، وبين أن يكذب ويتحرى الكذب ـعلى مذهب رامسفيلد ـ فتكون النتيجة هزيمة إعلامية أمريكية تضاف إلى الهزيمة العسكرية والاقتصادية والحضارية! لكن المأزق يبدو أنه أصعب مما نتصور، إلى درجة أن جورج بوش فكَّر جدياً ـ كما كشف مؤخراً ـ في محاولة قصف مقرّ قناة الجزيرة فيقطر، كعمل يائس مجنون، يحكي عمق الأزمة الإعلامية الأمريكية، وجاء لجوء وزارة الدفاع إلى إعادة تشغيل جهاز «التضليل الإعلامي» في البنتاجون بتكلفة (300) مليون دولار، تأكيداً جديداً على أن الإعلام الأمريكي أصبح غير قادر على حجب الحقيقة التي تحكي أبعاد الهزيمة.
· مع اهتزاز الأوضاع بسبب الحرب في العراق، عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً؛ فقد كان لزاماً أن ينعكس ذلك على الداخل الأمريكي من الناحية الأمنية، فالإدارة الأمريكية التي استنفرت نحـو مليون جنـدي أمريكي؛ لإدارة مـا تسـميه أمـريـكا «الحـرب العالمية علـى الإرهـاب»فـي العراق وأفغـانسـتان والعـديـد من القواعد في بلدان العالم، أوجدت ضغطاً أمنياً يمكن أن يتحـول إلى ضعف في مواجهة أي طارئ حادّ، وهـو ما صرح به مؤخراً وزير الأمن الأمريكي عندما قال: إن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل ضربات أخرى على شاكلة أحداث سبتمبر.
· كلما ازداد التورط الأمريكي في العراق، شعر حلفاء أمريكا بأنها ستغرقهم معها في المستنقع العراقي،وهذا يعمِّق هوة خلاف الأحلاف، ويؤدي إلى تسارع وتيرة تفكيك التحالف الدولي معأ مريكا، لا على مستوى العراق فحسب، بل على المسـتوى العـالمي، فـي ما يسـمى بـ«الحرب على الإرهاب»، حيث صارت عمليات الانتقام تطال حلفاء أمريكا داخل أراضيهم، لا على أرض العراق فحسب، كما حدث في لندن وإسبانيا وتركيا، وهو ما كان سبباً مباشراً في انسحاب جيوش دول عديدة من التحالف، واستعداد أخرى للانسحاب.
· بل إن تخالف التحالف بدأ يسري داخل أوروبا، بل داخل البلد الأوروبي الواحد، كما حدث في بريطانيا، عندما اتهم عمدة لندن رئيس الوزراء «توني بلير» بأنه هو السبب الحقيقي في تفجيرات لندن.
· ومما يزيد في أرق الجميع ـ أمريكا وحلفائها في العراق وخارجه ـ ما تبثّه التحليلات عن تضاعف قدرات المقاومة، وزيادة إمكاناتها كمّاً وكيفاً، وهو ما ينعكس زيادة في نوعية العمليات وتأثيرها؛ فالتقارير تؤكد أن المقاومة ستزداد قوتها بفـعـل عـوامـل كثـيـرة، علـى عكس ما يـراهن عـليه بعـضهم من انحسارها وانكسارها، وقد ذكرت بعض الدراسات أن المقاومة ستصـل أعـدادها إلى الضعف، في الفترة الممتدة من شهر يناير (2006م)، إلى سبتمبر من العام نفسه، وهو الوقت الذي ستتهيأ فيه القوات الأمريكية للانسحاب، وهذا ما جعل الباحث الاستراتيجي «إنتوني كوردسمان» يحدد السقف الزمـني للوجـود العسكري الأمريكي في العراق بعام ونصف، إن لم يكن أقل!
· هذه المخاوف المستقبلية لها ما يسوغها من الوقائع السابقة واللاحقة على أرض الصراع في العراق، فالقوات الأمريكية ومن يتحالف معها،تتعرض في العراق إلى ما يقارب (2100) عملية كل شهر، كما صرح دونالد رامسفيلد وزير الدفـاع الأمريكي، أي: ما يعادل (70) عملية كل يوم، ينفّذها ما يقارب خمسين ألفاً من المقاومين، منهم نحو عشرين ألفاً من المتطوعين العرب، وهو ما جعل العراق في نظر الاستخبارات الأمريكية والدولية؛ أخطر من أفغانستان أيام طالبان، لاتِّساع حدوده،وتعدد الدول المجاورة له.
·التقارير تثبت في المقابل ضعف أو عجز الشرطة والجيش العراقيين المكلفين بمقاومة المقاومة عن أداء مها مهما، فبحسب صحيفة «النيويورك تايمز» الصادرة في 21 يوليو 2005م، فإن (50%) من قوى الأمن العراقي، لا تزال تحت التدريب، والنسبة الباقية لا تستطيع وحدها إنجاز أي مهمة دون مساندة أمريكية.
· يراقب الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون بتوجس بالغ، تأثّر قطاعات شعبية في بلدان عربية،بانتصارات المقاومة وإنجازاتها، وهو ما قد يزيد من حالات التوتر التي بدأت بالفعل تشكـل هـاجسـاً أمنـياً خطـيراً، وبخـاصة فـي الدول المحـيطة بـ «إسرائيل» التي كانت أمينها هدفاً رئيساً من أسباب غزو العراق، وهذا عامل محيّر للأمريكيين، لا يدرون ما الحل فيه: أيظـلون في المنـطقة ليـدافعوا بالنـيابة عن «أمـن إسـرائـيل»؟ أم يغادرونها ويتركون اليهود يلاقون مصيرهم وحدهم؟
· كان طبيعياً أن يقود كل ما سبق إلى زيادة خصوم الحكومة الأمريكية في الداخل، وقد استغلال ديمقراطيون بوجه خاص ورطات بوش في العراق، كي يضغطوا باتجاه المطالبة بانسحاب سريع، وهو ما يزيد من حالة الحرج التي يتعرض لها بوش وإدارتـه، حـتى أصبـح يخـرج إلى الإعلام بكثرة مدافعاً أو محذراً أو مبرراً أو رافضاً أو مصدراً للقرارات والتصريحات التي يحاول أن يدفع بها الحملة عليه وعلى إدارته، وهناك الكثير ممن كانوا يؤيدون قرار الحرب سحبوا موافقتهم، منهم المرشح الديمقراطي للرئاسة في الانتخابات السابقة (جون كيري)، والرئيس السابق (بيل كلينتون)، وقد اتهم جورج بوش زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب في شهادة أمام الكونجرس بأنه يعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، فقال: «مستقبل جيشنا في خطر… إن جنودنا وعائلاتهم يحمّلون فوق طاقاتهم، وأصبح الناس يتحدثون أن الجيش الأمريكي هزم»!
· وقد تضافرت كل هذه العوامل في إيصال إنذار مبكر إلى «جورج بوش»، بأن هزيمة أمريكا قد تكون كارثية على يديه، وهو الذي كان يتفاخر مع أنصاره من الإنجيليين والمحافظين الجدد بإطلاق مشروعات على امتداد العالم مكانياً، وعلى امتداد القرن زمانياً،انطلاقاً من الشرق الأوسط «الكبير»! هبطت شعبية «بوش» بشكل كبير في الشهور الأخيرة، فنزلت إلى معدل (42%) بحسب الاستطلاع الذي أجرته صحيفة (نيويورك تايمز) وشبكة C.B.S نيوز، ولم يكن هناك تفسير لهذا الهبوط الحاد، إلا الارتفاع الحاد في معدل خسائر أمريكا بشرياً واقتصادياً وإعلامياً. كل هذه الأمور وغيرها من مظاهر ودلائل الهزيمة، جعلت المشروع الأمريكي برمّته في العراق في مهب الريح، وقد بدا هذا باعتراف «جورج بوش» الصريح مؤخراً في 17/12/2005م بأن: «قرار الحرب قد اتخذ بناء على معلومات استخباراتية خاطئة»! وهو اعتراف يعني بلفظ آخر، أن هناك خطأ ما تسبب في خسارة الحرب! ويحاول الأمريكيون التغطية على بوادر الهزيمة، بالإعلان عن إجراء(حوارات) مع بعض رموز المقاومة. وفي محاولة لحفظ ماء الوجه؛ يركزون على ما يعدونه«نجاح» التجربة الديمقراطية العراق عبر الانتخابات، وهي تلك التجربة التي فاضت رائحتها من بلاغات الشكوى المتبادلة من التزوير والتزييف التي يحاول بها الفرقاء في العراق إثبات أن الشعب يقف معهم. وفي شكل آخر من أشكال التغطية على النتائج المخيبة لآمال الأمريكيين، جُرّت الجامعة العربية للتحرك ضمن ما سُمي بـ «مؤتمر الوفاق الوطني» الذي يحاول الأمريكيون من خلاله إسباغ شرعية عربية على العملاء العائدين إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، مع أن هؤلاء أنفسهم يستشعرون الخطر كلما علت الأصوات بضرورة الانسحاب، إلى درجة المطالبة ببقاء الاحتلال والتحذير من تعريض العراق للخطر إذا وقع هذا الانسحاب في وقت قريب. والعجيب أن هذا نفسه ما يحس بها لأمريكيون، حيث يصرحون بأن هذا الانسحاب لو تم مبكراً لكان هزيمة مشتركة للأمريكيين، ولحلفائهم العراقيين في وقت واحد. وقد كرّر جورج بوش ذلك في الفترة الأخيرة، وقال ردّاً على من يطالبونه بالانسحاب السريع: «إن الانسحاب الفوري خطأ جسيم، وسيؤدي إلى انتصار الإرهاب، وهزيمة أمريكا»! والمعنى نفسه صرَّح به «جيفريوايت» المحلل السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، حيث قال: «لا نستطيع أن نسيطر سوى على الأرض التي نقف عليها، وإذا غادرنا العراق، فسوف تسقط في أيدي المسلحين»،وكذلك قال «رامسفيلد» في زيارته الأخيرة للعراق في 12/12/2005م: «الانسحاب السريع من العراق، هو أقصر الطرق إلى الهزيمة،»! ولكن الأعجب في استعمال لفظ «الهزيمة» على ألسنة «جورج بوش» و«رامسفيلد» وغيرهما من المسؤولين الأمريكيين أن التصريح بها وباحتمالات وقوعها؛ يجيء بعد أن كان «جورج بوش» قد أعلن من فوق بارجة أمريكية في 2/5/2003 ـ أي بعد انتهاء العمليات العسكرية بشهرين، انتصار أمريكا في حربها ضد العراق! ولكن بعد مرور ما يزيد على عامين ـ وبالتحديد في أول شهر ديسمبر من عام 2005 ـ تصدر حكومة بوش ما أسمته: «إستراتيجية صنع النصر في العراق»!!، وقد جاء فيهاـ كما نشر على موقع الخارجية الأمريكية ـ: «إن الهزيمة في العراق، ستشجع الإرهابيين على توسعة رقعة نشاطهم، والنجاح في العراق سيوجه ضربة حاسمة إلى الإرهابيين تشلّ قواهم، إن مصير الشرق الأوسط الكبير، الذي سيكون له تأثير عميق ودائم على الأمن الأمريكي؛ هو الآن في كفة الميزان»!
· الانسحاب أو بالأصح: (الهزيمة) بدأت فعالياتها من الآن، فقد صرح موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني العراقي، بأن ما يقرب من (25%)، أي نحو ثلاثين ألفاً من القوات الأمريكية بالعراق، ستنسحب في أوائل عام 2006م. هناك حالة من الإحباط واليأس، لم يستطع الأمريكيون كتمها، حتى «دونالد رامسفيلد» الذي تعوَّد الناس على ظهوره متبختراً مازحاً أمام الشاشات في أعقاب حرب أفغانستان، وأثناء حرب العراق، لا يُرى الآن إلا متجهماً عابساً، وقد اعترف في تصريح له في شهر يونيو (2005م) بأن المقاومة في العراق عندها من الإمكانيات أن تستمر لاثني عشر عاماً في محاربة أمريكا، وقد كرر قائده الميداني ورئيس الأركان السابق في العراق «مايرز» الكلامَ نفسه، إلا أن أحد الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين ـ وهو «باري ماكفراي» ـ قد فاجأ الجميع بكلام أخـطر مـن تصــريحات «رامسفليد» وقائده «مايرز»، حيث قال ـ بحسـب موقع الجزيرة على الإنترنت في 19/7/2005م ـ: «إن الأعمال المسلحة ستبلغ ذروتها في العراق خلال الشهور التسعة الأولى من عام (2006م)، وبعدها سيكون الانسحاب الأمريكي أمراً لا مفرّ منه»! هناك من السيناريوهات ما هو أكثر خطورة عند الأمريكيين من كل ما سبق، وهو أن لا يستطيع الأمريكيون الانسحاب من العراق في الوقت الذي يريدون، وذلك عندما يثبت عجزه معن تثبـيت الأقـدام الخشبيـة لـ «جيــش الدفاع» العراقي المكون مـن الميـلشـيات الكــردية العلمـانية والشيعية الرافضية، وعنـدها قـد تضطـر أمريـكا اضطـراراً للبـقاء القســري، متلقية الضربات الموجـعة التـي يـختار المجـاهـدون زمـانها ومكـانها، وعنـدهـا لـن يسـتطـيع «جـيـش الأشـباح» ـ كمـا وصفـه الكـاتب «باتـريككـوك» ـ أن يـدافع عـن الأمريكيين، كما لا يستطيع الأمريكيون أن يـدافـعوا عنـه؛لأن قسـماً كبيـراً مـن ضبـاط هذا الجيش ـ كما يقول الكاتب ـ يتسلمون رواتب جنـود وهميـيين، جالسـين في البيوت، أو غير موجودين أصلاً، فإحدى الوحدات التي يفترض أن يكون فيها عشرون ألف رجل، لا يعدو العدد الحقيقي فيها (300) رجل فقء والولايات المتحدة التي تتحدث عما يقرب من (150) ألـف عراقـي فـي قـوات الأمـن، لا يزيـد عـددهم في الحقيقة عن (40) ألفاً فقط!
ماذا تعني هزيمة أمريكا؟
سيكون لهذه الهزيمة عندما تحدث ـ وهي لا بد أن تحدث بإذن الله ـ ستعني أموراً كثيرة وكبيرة:
· ستعني أن المشاريع ذات الطبيعة الكونية العالمية، مثل: «مشروع الإمبراطورية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين» للإنجيليين الأمريكيين النصارى، ومشروع «القرن الأمريكي الجديد»للمحافظين اليـهود الجـدد في أمـريكا، قـد توقـفا أو تعرقلا إلى أجل غير مسمّى،وربما أُلغيا بالمرة، بعد أن أنسى المجاهدون في العراق عصابة «الأبواش» وساوس الشيطان.
· ستعني أن أحلام اليهود ـ من المحافظين الجدد أنفسهم ـ في تسلّم دفة الحكم في أمريكا، في مهب الأعاصير؛ نظراً للإحباط الذريع في العراق أولى محطات التآمر العالمي ليهود أمريكا في القرن الجديد.
· ستعني أيضاً، أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» سوف يرفع إلى رفٍّ صغير في البنتاجون أو البيت الأسود؛لأن منصة إطلاق هذا المشروع في العراق قد احترقت.
· ستعني أن دولة اليهود التي لا يغيب ظلّها عن كل تلك المؤامرات الدولية ستصبح عما قريب في مواجهة حقيقية مع خطر حقيقي، يختلف مع المخاطر الوهمية الماضية، مثل: الناصرية، والقومية، والبعث العراقي، والبعث السوري، والثورة الإيرانية.
· ستعني أن حاجز الرعب الغربي قد أنهدم، وسيف الإرهاب الأمريكي قد انخرم، وبكسر هذين الحاجزين سيكون ما دونهما أهون منهما بإذن الله.
· ستعني أن خيرية الأمة الإسلامية ستتجلى من الآنف صاعداً، في شعوبها، لا في دولها وأنظمتها، فالشعب في العراق هو الذي يدافع عن العراق وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في فلسطين هو الذي يدافع عن فلسطين وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في أفغانستان هو الذي يدافع عن أفغانستان وعن كرامة الأمة كلها،وكذا يقال، وسيقال عن بقية الأمة بشعوبها في أكثر أوطانها.
· ستعني أن عصر القطبية الواحدة آيل للأفول، وسوف تبرز أقطاب أخرى قريباً ـ بإذن الله ـ سيكون منها: القطب الإسلامي العالمي، مُسقِط القطبين قبله، وما ذلك على الله بعزيز؛ فسنن الله الكونية ماضية إلى غاياتها الحكيمة، وفق محكمات السنن الشرعية الدينية؛ لأن امتثال أحكام الله الشرعية، هو الطريق الوحيد لتحقيق أحكام الله القدرية، حتى لو ظنها الناس معجزات أو خوارق لا يمكن أن تتحقق {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. تحدثت عن الآيات… وتبقى بقية عن التحديات: فإلى عدد قادم بإذن الله.
تحديات ما بعد أمريكا

·يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقء وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين : أولهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق ؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى أي دوله .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

  1. امين
    13/08/2006 at 11:41

    ثقافة الإنتصار وبشائر الإنهزام وإسقاطات الهواجس الدينية على الواقع ، تلكم هي التحاليل التي ظلت وستبقى تتكرر بتفشي الجهل والتخلف . وليكن ما وصفته بمعجزة المقاومة فعن أي مقاومة تتحدث ؛ مقاومة الشيعة ، أم مقاومة ( إرهاب ) بن لادن . مقاومة الطائفة التي تصادر كل شيء حتى الحياة ؛ وعن أي مشروع إجتماعي تتحدث إن كانت جميع الأنظمة القائمة خانعة متقوقعة ، هل نظام طالبان الذي صادر كل شيء حتى التنفس ، أم نظام الجماعات الدينية التي تقسم العالم الى مؤمنين وكفار وتعتبر دار الإسلام دار حرب . بمعنى عن أي مشروع إجتماعي تدافع ؟
    هزيمتنا جائت من الفراغ الذي نعاني منه ومن الجهل المتفشي ومن انعدام أدنى رؤيا مستقبلية للوجود وللمستقبل هزيمتنا جائت لأن هناك من يسعى الى بناء الإنسان النمطي يسيرها أهل الكرامات والرؤى ( هناك من وعد بالنصر وخرج الى المعركة وهناك من راى رؤيا فعقد العزم على تحقيقها ) . هزيمتنا جائت لأن هناك من حول الصراع الى صراع ديني وليس صراع حقوقي . هزيمة أخرى نضيفها الى باقي الهزائم ولنراكم ما شئنا من الوهم والهزائم .

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *