Home»International»الثقافة الصوفية والمشترك الإنساني: نظرية السلم عند أبي يعقوب البادسي

الثقافة الصوفية والمشترك الإنساني: نظرية السلم عند أبي يعقوب البادسي

2
Shares
PinterestGoogle+

بقلم: بلقاسم الجطاري – جامعة محمد الأول وجدة

الثقافة الصوفية والمشترك الإنساني: نظرية السلم عند أبي يعقوب البادسي

أضحى الرأسمال الروحي، في ظل التحديات العالمية الراهنة، مفتاحا رئيسيا لنشر وترسيخ القيم في نفوس الأفراد والمجتمعات، ووسيلة من أشد الوسائل قدرة على إذابة الخصومات والصراعات، وتكريس الحوار والتعايش. فبالرغم مما راكمته البشرية في العقود الأخيرة من معارفَ وخبراتٍ وعلومٍ وتجاربَ ووسائلَ تكنولوجيةٍ، إلا أنها لم تستطع أن تَحُدَّ، بعد، من مظاهر النزاع والحروب، أو توقف أشكال سوء التفاهم وانعدام التواصل والحوار.
لقد ارتبطت أرض الريف بشمال المغرب الأقصى منذ وقت باكر بالصلحاء والمرابطين والفقهاء الزهاد، الذين نشروا الإسلام وعلومه على أساس التلازم بين المعرفة والسلوك العملي، إذ عرفت المنطقة انبثاق تجربة آل صالح بنكور، وهي التجربة المؤسسة. ثم وفدت خلال القرن السادس الهجري / 12م المدارس الصوفية الكبرى من المشرق والأندلس وبلاد المغرب، وحظيت تعاليم أبي حامد الغزالي وأبي مدين شعيب بالانتشار والتأثير في المنطقة.
وبخصوص الشخصية المحورية لهذه المساهمة، أبي يعقوب البادسي (ت. 734هـ/ 1334م) فهي شخصية تنهل من معين مدونة التعاليم الصوفية الغزالية – المدينية نظرا وعملا. وتقوم هذه التعاليم على منهج بناء سلوك سلمي تصالحي مع الذات ومع الآخر ومع المجتمع ومع العصر ومع الطبيعة، وتتأسس على جهد تربوي تؤطره مبادئ ومفاهيم وقيم المدرسة الصوفية السنية.
تمثل تجربة أبي يعقوب البادسي بالريف قدرا كبيرا من الأهمية؛ فمن زاوية تاريخية كانت المنطقة بحواضرها وبواديها تمر بانعطاف تاريخي مفصلي سواء على مستوى إعادة بناء التشكيلات القبلية وتحالفاتها ومكوناتها السكانية، أو في علاقاتها بالسلطة المرينية التي كانت تخوض تجربة الإحياء الامبراطوري وما تسلتزمه من تعزيز رصيد المشروعية وضبط الأمن الداخلي، أو في تأثير أحداث الحوض المتوسطي عليها وبخاصة قضية الأندلس والقرصنة الأوربية. ومن زاوية تربوية ومعرفية حيث تغلغلت المكونات النظرية للتصوف في ثقافة أهل المنطقة، وامتدت أدبياته إلى التأثير العميق على السلوك الفردي والجماعي.
وبناء على المكانة والهيبة التي حازها الصوفية والصلحاء وسلطتهم الرمزية الهائلة، فقد استثمروا هذا الولاء والصيت العام والمتعاظم لترسيخ معاني وقيم السلوك السلمي المتصالح والتمكين له اجتماعيا. وعليه نتساءل: كيف استطاع أبو يعقوب البادسي تحويل مبادئ التصوف ومفاهميه عن السلوك السلمي التصالحي إلى مواقف وقناعات حاصلة تربويا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا ان على المستوى الوطني او الدولي؟
ومن هذا الإشكال الكبير تنبثق أسئلة فرعية؛ ما هي معالم نظرية السلم التصالحي في تصوف البادسي؟ وكيف استثمر قيمها ومعانيها على صعيد التربية الصوفية؟ وكيف مكن لها اجتماعيا وحولها إلى سلوكات وتقاليد ضابطة للسلوك الفردي والجماعي؟
يعتمد هذا المقال على المتون المناقبية المتعلقة بسيرة البادسي وعلى رأسها المناقب التي خصصها له أبو محمد الأوربي، وما ورد في المقصد الشريف، ونتف واردة في مصادر أخرى، تتبنى مقاربة التاريخ الاجتماعي والثقافي لاستخلاص المعطيات التاريخية من ركام المقاصد الأخرى للنص المناقبي، بغية إعادة بناء ظواهر ومفاهيم تهم القيم والثقافة والفعل الاجتماعي.
نعني بمنهج السلوك السلمي التصالحي ذلك النهج الذي سلكه الصوفية ومنهم البادسي للتحكم في محيطه اعتمادا على نفوذه الروحي والرمزي، وإعادة صياغة السلوك الفردي والجماعي وفق قيم الذوق الصوفي المركزة على السلم والتسامح ونبذ العنف.
لقد عملت نظرية السلم في تصوف البادسي على تجسيد المبادئ الصوفية في تربية مريديها وفي تأثيرها على علاقة أتباعها بباقي أطراف المجتمع المحلي والوطني والدولي، وتشكل منهجية البادسي في التربية الدينية بمليلية المحتلة نموذجا ماثلا على خيارات هذا المنهج وتوجهاته نحو تبني سبل التعايش والتسامح مع الآخر، فهذا السلوك السلمي التصالحي بالرغم من شدة انتمائه وارتباطه بوطنه الأم ، فهو منفتح على باقي مكونات المجتمع المليلي وسلطاته. بالإضافة إلى دور أفراد الجالية المغربية من أهالي المنطقة المنتشرين في مختلف الديار الأوربية على تفعيل هذه المبادئ، مما أثمر تدينا إسلاميا معتدلا ومتسامحا لدى أفراد الجالية عكس باقي أنماط التدين الوافدة من المشرق المتسمة بالتشدد والتعصب.
ان الزاوية العليوية بالرغم من وجودها تحت سلطة الاحتلال الاسباني لمدينة مليلية، فهي بقيت وفية لجذورها وأصولها المغربية وتسعى إلى تعزيز هذا الارتباط من خلال العمل المشترك مع المؤسسات الدينية الرسمية المغربية كالمجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور ومندوبية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في تأطير المغاربة القاطنين بمليلية دينيا وروحيا وثقافيا، وذلك في مسعى للحفاظ على أصالة التدين المغربي لهذه الفئة من المغاربة ووقايتها من نزوعات أنماط التدين الوافدة على المنطقة من المشرق، حيث تعد مليلية ممر عبور لكثير من التيارات المتطرفة والتكفيرية مستغلة تساهل السلطات الاسبانية مع الأنشطة الدينية لبعض الجماعات الأصولية والسلفية، وتقف الزوايا الصوفية بالمدينة المحتلة في وجه تسرب هذه التيارات إلى تدين المغاربة المقيمين بالمنطقة، ومن جهة أخرى تواجه الزوايا مساعي اسبانيا لفصل المغاربة القاطنين بالمدينة عن وطنهم الأم ورابطهم الروحية بثوابت الإسلام المغربي، بحيث تستغل الورقة الدينية من خلال السماح لمختلف التيارات الدينية بالنشاط والدعوة والتضييق على أنشطة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تقوم بنشر مبادئ الإسلام المغربي القائمة على الاعتدال والتسامح.
وفي ظل هذه الظروف، تعمل الزوايا الصوفية على رعاية المصالح الدينية للمغاربة القاطنين بالمدينة المحتلة بالاستناد إلى روابطهم الروحية بوطنهم الأم ، وتكرس لهذا الارتباط من خلال العمل المشترك مع المؤسسات الدينية ، وتضع أنشطتها تحت مظلة السياسة الدينية الرسمية للمغرب، مما أكسبها ثقة ودعم هذه المؤسسات كوسيلة لربط تدين المغاربة بمليلية المحتلة بأسس الإسلام المغربي. ومن جهة أخرى تبقي على حسن العلاقات والتواصل مع السلطات الاسبانية، وتعمل بوفاق مع الهيئات الرسمية لخدمة أهداف المغاربة المحلية والوطنية بدون إثارة النزاعات والمشاكل أو طرح قضايا بعيدة عن نطاق عملها الديني والاجتماعي، لذلك تبدي السلطات الاسبانية معها أقصى درجات التسامح والتساهل. وتعمل الزوايا على ترسيخ أسس المحبة والإخاء والمساواة بين كافة مكونات المجتمع المليلي، وفي هذا الإطار تلقى احتفالاتها وأنشطتها حضورا ودعما من مختلف المكونات الدينية والثقافية بالمدينة المحتلة. وتميل الزوايا إلى نهج المصالحة والتسامح مع غيرها من الديانات والمذاهب حرصا على الاستقرار الروحي والأمن الثقافي لساكنة المدينة المحتلة، مما فوت الفرصة على الكثير من التيارات الداعية للتعصب والانغلاق الديني لنفث سموم التكفير والتطرف بين مغاربة مليلية.
ولتجسيد هذا التقارب تنظم الزوايا منتصف شهر يوليوز من كل عام تجمعات صوفية يحج إليها الآلاف من المريدين والأتباع من مختلف الطرق الصوفية والتوجهات الدينية من أجل احياء ليالي صوفية يختم فيها القرآن الكريم، وترفع فيها أصوات الذاكرين بالأمداح النبوية، مركزين في ذلك على ديوان الشيخ العلاوي ودواوين شعر المديح للامام البصيري، بالاضافة الى قصائد أخرى لبعض رجال التصوف والتزكية. واتخذت هذه التجمعات في السنوات الأخيرة شكل ملتقيات صوفية علمية لتدارس الفكر الصوفي من مختلف جوانبه، ينشطها ويؤطرها باحثون من مليلية المحتلة ومن خارجها سواء من داخل المغرب أو من اسبانيا وباقي بلدان أوربا بمختلف اللغات الاسبانية والعربية والأمازيغية.
ويأتي تنظيم موسم التصوف بالزوايا الصوفية بمليلية تكريسا للدور الذي تلعبه في تنزيل قيم السلام والتسامح، وفي التربية على الاخلاق المحمدية الحميدة، إضافة إلى التربية على تقويم السلوك وتغيير الواقع الإجتماعي.
في المجمل؛ تُعتبر الطرق الصوفية إحدى أهم أدوات نشر الخطاب الإسلامي الوسطي وسط الجالية الإسلامية بالقارة العجوز ، ورغم عدم خضوعها للاهتمام والدراسة الكافية، فإن الحركة الصوفية في أوروبا حاليًّا تمارس تأثيرًا كبيرًا وملموسًا في أوساط المهاجرين الأوروبيين، خصوصًا في أوساط الشباب؛ وذلك من خلال ما تقوم به الحركة الصوفية من عمليات حشد لرفض الأفكار المتطرفة، ونشر الخطاب الإسلامي الوسطي في المجتمع الأوروبي، وبين أبناء الجاليات الإسلامية. ولعل هذه المحاولات قد لفتت الأنظار داخل وخارج أوروبا، خاصة في ظلِّ التخوف من انتقال الأفكار المتطرفة لشباب المسلمين في أوروبا.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *