نوستالجيا: هل يكون أخنّوش أَمَرُّ عِقْداً وأحكمُ أمرًا من صاحبه أحمد عُصمان؟
بقلم: ادريس الواغيش
ما بين تأسيس حزب « الأحرار » في عهد أحمد عصمان وتمكنه من رئاسة الحكومة في عهد عزيز أخنوش، وبين معارضة الاتحاد الاشتراكي في عهد عبد الرحيم بوعبيد والعودة إليها في عهدة إدريس لشكر أو من سيخلفه بعده في المؤتمر الوطني المقبل، تكون قد جرت أمور كثيرة ومرّ على انتظاراتنا أكثر من أربعة عقود من الزمن، أشخاص عديدون تاهوا بين دروب السياسة وآخرون غابوا عنها في زحمة الحياة، وبين هذا وذاك، يحضرني زمن ذلك التلميذ الشقي والمراهق الطائش بين حارات تازة ودروبها في جزئها القديم، وأزقتها وشوارعها وحدائقها الجميلة في جزئها العصري
حين رأيت الطريقة التي استقبل بها عزيز أخنوش المكلف من طرف الملك محمد السادس بتشكيل الحكومة المغربية الجديدة إدريس لشكر، وكيف تفاعل معها بصفته رئيسا لحزب الاتحاد الاشتراكي ومعه الحبيب المالكي، بعد أفول حكومة الإسلاميين، بما لها وما عليها، في انتخابات 2021 الأخيرة عن طريق ديمقراطية الصناديق التي أدارتها الأحزاب المشاركة كل على طريقتها، حتى لا يفلق رأسنا أي حزب بشكاواه، وهو عكس ما وقع في مصر أو تونس والجزائر. عادت بي الذاكرة هنا فجأة إلى حملات أحمد عصمان في الأقاليم سنة 1979 بعد مرحلة التأسيس في 1978، قصد الترويج لحزبه الجديد الذي اختار له أن يحمل اسم « الأحرار » في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ووزير داخليته البصري، و »الأحرار » صفة كانت تطلق على المترشحين غير المنتمين الذين لا يحملون رمزا سياسيا معينا في الانتخابات، وهو ما يعادله « اللامنتمون » في الخريطة السياسية المغربية الحالية. كنت لا أزال يومها تلميذا طائشا بداخلية ثانوية علي بن بري، ومراهقا دائخا بين متاهات كتب الإيديولوجيا ومنظريها الكبار بدءا من طيّب التيزيني وكارل ماركس وصديقه فريديريك إنجلز وغيرهم، وسياسيا صغيرا حديث العهد بالانخراط في العمل السياسي داخل الشبيبة الاتحادية، بعد قضائي موسما لم أجدّده مع شبيبة التقدم والاشتراكية. كان كل همّنا وانشغالنا كتلاميذ محصورا على الدراسة وزيارة مقر الحزب في تازة العليا العتيقة من حين لآخر، متى طلب منا ذلك، والدخول إلى السينما إن وجدنا إليها سبيلا، وكان حزب « الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية » كوكبنا الذي نعيش فيه أحلامنا وجريدة « المحرر » الناطقة باسمه عالمنا السيبراني الذي نستمد منه أخبارنا.
وكانت ثانوية علي بن بري، أكبر الثانويات بمدينة تازة وإحدى مثيلاتها في المغرب، تعج كغيرها من الثانويات الرائدة في مدن المغرب بخلايا حزبية شبابية يسارية، ولكن أغلبها كان مرتبطا عضويا بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بحكم انتماء أغلب الأساتذة إلى نفس الحزب ولهم نفس الانتماء السياسي، وكان على رأسهم هؤلاء أستاذ اللغة العربية عبد الكريم الأمراني الذي طرد من العمل بعد إضرابات 79 مع آخرين، وأصبح بعد ذلك صحافيا شهيرا في جريدة « الاتحاد الاشتراكي » ثم في جريدة « الصباح » المستقلة، وطبيعي جدا أن يتأثر في مثل هذه الحالات التلاميذ بأساتذتهم.
في إحدى الصباحات الربيعية أخبرني أحد الأصدقاء همسا، وكان ينتمي مثلنا إلى خلية من الخلايا الحزبية الكثيرة التي كانت منتشرة بيننا كالفطر في الثانوية، ورغم ذلك لم يكن أعضاؤها يعرفون باقي أعضاء الخلايا الأخريات بالنظر إلى تشابكها وتعقد تنظيماتها السرية، إلى أن هناك نية لإفساد حفل خطاب أحمد عصمان السفير والوزير ورئيس الوزراء السابق ورئيس حزب « الأحرار » الجديد أمام التجمهر البشري الذي سيكون قريبا بالمدينة، باعتباره حزبا إداريا غير مرغوب فيه وحزبا دخيلا على السياسة، كما كانت تنظر إليه باقي الأحزاب يومها. التقطنا الإشارة بسرعة واعتبرناها في الشبيبة الاتحادية مهمة نضالية يجب تنفيذها مهما حصل، بالرغم من أننا لم نكن نعلم شيئا عن توقيتها ولا عن طبيعتها، وحين كنت أسأل صاحبي، كان يصمت ولا يرد عليّ بشيء. أحسست بالفطرة أن المهمة قد أسندت إلى خلية أخرى متمركزة في تنظيمات الصفوف الأمامية، إن داخل الثانوية أو خارجها، وأن الخبر قد وصلني عن طريق الخطأ. انتشر الخبر بيننا بسرعة وكنا متحمسين إلى تنفيذ المهمة رغم خطورتها، كما كان الحدث فرصة بالنسبة إلينا كي نعرف بأننا لا زلنا مرتبين في الصفوف الخلفية من حيث التراتبية، ولذلك لم تصلنا الكثير من التفاصيل، لا اليوم الذي ستتم فيه ولا المكان الذي سيقام فيه الحفل، ومع ذلك، بقينا ننتظر ونترقب الحدث على أحر من الجمر وبحماسة بالغة، وحتى بنوع من الاندفاع وكثير من المبالغة في الحماسة والتهور أحيانا. وفي إحدى الصباحات الهادئة من فصل الربيع، استفقنا على منبهات شاحنات « فورد » و »بيدفورد » وأخرى من نوع « بيرلي 6 » تحمل الناس أفواجا على دفعات من المراكز القريبة، والتي كانت تابعة إداريا يومها إلى عمالة إقليم تازة مثل: كرسيف، تاهلة، واد أمليل، أكنول وغيرها. وبقينا كشبيبة ننتظر الأوامر لتنفذها، ولكن ماذا؟ ومع من؟، لا شيء، ومع لا أحد…!!
وهكذا بدأنا ندخل ونخرج تائهين من أبواب الملعب البلدي لكرة القدم الرئيسية والفرعية، نسأل هنا ونجري هناك، ونتحرك في كل الاتجاهات، ننتظر ماذا سيجري…؟، وحدث أن انقطع الصوت فجأة ولم يعد خطاب زعيم الحزب الجديد يصل إلى مكبرات الصوت المنتشرة في كل اتجاه، تم إصلاح العطب بعد أن أخذ الأمر قليلا من الوقت وترك وراءه كثيرا من الهمس والدهشة والأسئلة. وجهت الدوائر الأمنية والسياسية أصابع الاتهام رأسا إلى الشبيبة الاتحادية، وراج الاتهام بيننا كما بين كل الناس كما تنتشر النار في الهشيم. فرحنا نحن بما حدث، واعتبرناه نصرا مبينا وإنجازا مهما، وإن لم نكن طرفا فيه، ولكن فيما بعد بدأت تتواتر الأخبار المخيفة، خصوصا بعد أن وصلنا أن الأمن الوطني استدعى بعض التلاميذ من الشبيبة الاتحادية الأكثر نضجا وخبرة ومراسا في السياسة بالثانوية وخارجها، وأخبرنا أنهم حققوا مع بغضهم في الأمر. وحدث مباشرة بعد ذلك، أن بدأنا نصنع أوهاما في عقولنا، وبدأ الخوف يدب إلى مفاصلنا ومسام جلودنا تدريجيا، كلما قمنا بجولة مجتمعين أو منفردين في أحياء تازة بجزأيها العلوي والسفلي، كنا نعتقد جازمين أن الأجهزة الأمنية تتربص بنا، وقد تلقي علينا القبض في كل منعطف وزقاق أو شارع من الشوارع الخلفية، وتحول الحماس الذي اعترانا من قبل إلى خوف ورعب حقيقين، حتى جاءنا اليقين وتبين لنا أن الأجهزة الأمنية كانت على علم مسبق بما كنا نعتقد أنه دُبّر بليل وفي الخفاء، وأن انقطاع وصول صوت خطاب أحمد عصمان زعيم الحزب الجديد إلى مكبرات الصوت ومسامع الناس لم يكن مكيدة سياسية ولا عملا مُدبّرا، وإنما قدما رجل بدوي طائشتان عثرتا بين الأسلاك المدفونة تحت الرمل، فوقع الذي كنا ننتظر تنفيذه. تم إصلاح الوضع في حينه من طرف تقنيين مهرة، ومع ذلك بقيت تلك الـ « حتى » تسكننا، وتمنينا لو أن الفاعل كان منا أو من الشبيبة التي كان يمثلها يومئذ عبد الرحيم بوعبيد رحمه الله.
وها نحن اليوم، بعد 43 سنة على مرور الحادث، نجد أنفسنا أمام صدق نبوءة من قال: الزمن دوّار و »الدنيا يومان، يوم لك ويوم عليك »، ولا يسعنا جميعا، والمناسبة شرط، إلا أن نتمنى مسارا موفقا لرئيس حزب الاتحاد الاشتراكي إدريس لشكر أو من سيخلفه بعد المؤتمر الوطني القادم في المعارضة الحكومية، تلك التي بدأها بشرف الراحل عبد الرحيم بوعبيد ومن صاحبه في المهمة من رفاق دربه، ونهنئ في نفس الوقت عزيز أخنوش رئيس الحكومة ورئيس حزب « الأحرار » الجديد الذي أمطرنا بوعوده علانية في حملاته الانتخابية، وهو الحزب الذي لم يعد، بعد كل هذا المسار الطويل، حزبا وافدا أو جديدا على المشهد السياسي المغربي، ونحن في انتظار تحقيق الوعود القديمة التي قدمها لنا البارحة أحمد عصمان مؤسس حزب « الأحرار » في الملعب البلدي بتازة السفلى، ونحن لا زلنا بعدُ نعيش أحلام المراهقة، ونظيراتها التي قدمها لنا اليوم الزعيم الجديد للحزب عزيز أخنوش ورددها على مسامعنا في كل وسائل الإعلام، وقد تقلصت مساحة العمر في زمن الكهولة.
فهل يكون عزيز أخنّوش أَمَرُّ عِقْدا من صاحِبِه أحمد عُصمان، وأَحكمُ أَمْراً مِنه وَأَوفى ذِمَّة، ويحقق لنا بعضا من ملامح « المغرب الجديد » الذي لا زلنا نتمناه كما نادى به عصمان المنظر لفلسفة حزب »الأحورا »…؟. على العموم نرجو خيرا لما فيه خيرا لهذا المغربنا الجميل.
Aucun commentaire