Home»Correspondants»المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

3
Shares
PinterestGoogle+
 

كانت المدينة و كانت الأسوار، الأبواب والدروب العتيقة ، دور  وجدران بعضها من طين  لونها أحمر ، يسكنها أناس طيبون ، تختلف  أنسابهم وأسماؤهم،  لكنهم يؤلفون عائلة واحدة. رغم التعدد والاختلاف كانت  الوحدة ،حرارة ودفء يسريان في شرايين الجيران، اعتزاز بالانتماء إلى كتلة وإلى كيان، تنوع  يفضي إلى الإغناء والإثراء لم يكن بمقدورك أن تفكر منعزلا ،ولا أن تتصرف كذلك، كانت تجمعنا  الأفراح والمآتم و »الرجلة »، ننهض لنصرة الضعيف، والوقوف في وجه الظالم. القيم كانت حاضرة في كل تصرف وفي كل سلوك، في المنزل وفي الحي وفي المدرسة، « فتوات » كانوا من « أولاد الحومة » عاشوا بيننا، كبرنا وترعرعنا  بينهم، لم يكونوا ليؤذونا في يوم من الأيام، لم نكن نهابهم أو نخاف منهم، بل كنا ونحن صغارا  نستقوي بهم، في طريقنا إلى المدرسة تراهم بجانب شجرة منزل أو عند مفترق الطرق مجتمعين يحتسون خمرا أو يدخنون لفائف حشيش .. نمر أمامهم آمنين سالمين .. حين تظهر إحدى فتيات الحي أمامهم يغضون أبصارهم  ويسهرون على انتقالها الآمن إلى حيث تريد .. رغم السكر الطافح والعربدة كانوا على قدر كبير من الطيبوبة والشهامة والنخوة .. لم تخل مرة جلساتهم من عراك، تلاسن، ضرب وعراك، لكنها تنتهي دائما بالصلح والعناق والبكاء والندم .. أولاد الحومة  » المستقيمون » كانت لهم أنشطة أخرى، متعة اللعب في الحومة « والراس هاني » لم تكن تضاهيها أية متعة « سبسبوت، دينيفري، كامة، النيبلي » وغيرها من أشكال اللعب، كان يجمعنا سمر الليالي الهادئة خلال عطلة فصل  الصيف .. كرة القدم كانت لعبتنا المفضلة .. احتفالات المولد النبوي كانت بطعم الفرحة الجماعية  .. فرصة لنا لتجربة أسلحة الحرب: مفرقعات وقنابل وصواريخ  و »دربوكة » وفتيات يغنين .. تجمعات عند عتبة كل بيت .. أما صغار الحي فكانوا يلهون ب « النجوم » والشهب الخفيفة ..
ظلت أوكار »الشيوخ » معاهد ننهل من معينها الحروف الأولى للموسيقى ،الشيخ الجيلالي أو الشادلي تتلمذ على يديهما الكثيرون من أبناء الحومة، يتمرنون  على الآلات والغناء في فصل الشتاء لإحياء الحفلات والأعراس في فصل الصيف، كان الشيخ الشادلي رحمه الله حين تكثر الأعراس في شهر غشت يوزع مجموعته إلى ثلاث أو أربع فرق، يوزع العازفين والمغنين حسب عدد الأعراس ثم يضيف إليهم بعض أولاد الحومة وبعض المعارف الذين لا تربطهم أية علاقة بالموسيقى يمدهم بآلات موسيقية يمسكونها فقط حتى يبدو « الجوق » أكبر عددا.. لا زلت أذكر عمي عبد السلام، ذي الجثة الضخمة، والذي كان يشتغل ممرضا آنذاك ببذلته الأنيقة، يمسك الكمان فيوهم الحاضرين أنه عازف ماهر دون أنت تكون له أدنى دراية بالعزف والموسيقى مقابل دريهمات يمنحه إياها « الشيخ « الشادلي رحمه الله، نظير جلوسه بين العازفين الحقيقيين ..
كل هذه المشاهد نستحضرها بنوستالجيا رائعة بعد أن كبرنا وسار كل منا في درب الحياة الطويل .. خاصة في فصل الصيف كلما عاد المهاجرون من خارج الوطن، نروي قصصنا القديمة، ومنها واقعة حصلت لعمي عبد السلام  حين طلب منه القيام بعزف منفرد على آلة الكمان في أحد الأعراس وكيف بدأ يفتعل الأعذار ويطلب تأجيل اللحظة إلى آخر الليلة، لكن  إلحاح الحضور على قيامه بالعزف فضح أمره فاضطر للهرب قبل نهاية الحفل مدعيا أن مغصا  حادا ألم به منعه من تلبية طلب الحضور، فكان ذلك اليوم آخر عهد له بحفلات الأعراس والعزف المخادع  ولم يعد له ذكر في الحومة.
كان  « الشيوخ « يضعون « الروج » في إبريق القهوة على طاولة توضع أمامهم، يحتسون الكأس تلو الآخر، وكنا نظن ونحن صغارا أنها كؤوس قهوة، لكن مع مضي الأيام عرفنا أن الأمر كان يتعلق بخمر.
لم يكن أبناء الحومة محتاجين لدعوة لحضور عرس فالناس كلهم مدعوون ،كبار السن يحضرون لوجبة عشاء ولسماع الذكر والأمداح، ثم ينصرفون للنوم، ليتركوا الشباب يستمتعون بليلة كاملة من الرقص والغناء .. الفتيات والنساء  مكانهن على سطح المنزل يتابعن أطوار الحفل ولا يمكن لهن  النزول إلى البهو إلا بعد سماع أغنية « أبقوا على خير راحنا مشينا  » وهي الأغنية الشهيرة التي لم يكن يخلو منها عرس، وتكون بطلب من أهل الدار إيذانا بنهاية الحفل صباحا وهي فرصة لنساء العائلة والجيران المقربين لمصاحبة العروس في رقصة جماعية ببهو البيت.
الجيران في « الحومة » يسند بعضهم بعضا، الجار هو الساعد والعضد، الجار يربي مثل الفقيه والمعلم والعم والخال والأخ الأكبر .. كان أمرا عاديا أن تتناول وجبة غذاء أو عشاء أو تقضي الليلة كاملة في بيت الجيران دون مناسبة .. خالات وأخوال  وعمات وأعمام حقيقيون عرفناهم في الحومة لم يكونوا من العائلة البيولوجية.
لا زلت أذكر يوم هل علينا لأول مرة صندوق العجب « التلفزيون »، الحومة كانت « مقربلة » عن آخرها، ما هذا الاختراع العجيب؟ دار عمي الطاهر رحمه الله  دخلت التاريخ من بابه الواسع، أول منزل في الحومة يدخله هذا الاختراع، خالتي فاطنة زوجة عمي الطاهر مبتهجة، طوابير وأفواج من المتفرجين تغزو المكان، الصينية والبراد و »الكعك الوجدي » على الطاولة، مشاهدة بالأبيض والأسود فقط، ولفترة وجيزة لا تتعدى ساعين يوميا، كانت كافية لأن تخلق الحدث…
كانت المدرسة مدرسة بحق، مؤسسة حقيقية للتنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والشارع، نتعلم فيها أبجديات القراءة والكتابة والحساب والقيـــــــم .. وقار المعلم أمر مسلم به .. كنا نلعب في فريق واحد، لم تكن هناك فوارق اجتماعية، نعزف سيمفونية واحدة، لا  يهم من المايسترو بل المهم هو الفريق، روح الفريق، كنا نجد الوقت الكافي للدراسة، للعب وللإبداع، برز لاعبون مرموقون في كرة القدم من بين أولاد الحومة أضحوا يشكلون العمود الفقري لفرق وجدة آنذاك بما فيها فريق المولودية .. فنانون مبدعون أصبح لهم صيت فيما بعد .. أطر بلغت مراتب عليا في سلم المسؤولية بهياكل الإدارة والدولة .. « أصحاب دعاوي لبلا » أيضا كان لهم دور في الحومة.
رموز وأعلام عشنا بينهم ومعه، منهم العالم والفنان والرياضي والأديب  والسياسي كلهم ترعرعوا في الحومة في تآلف وتآخي، ما أجمل الأيام التي عشناها ونفتقدها الآن .. تركنا الحومة وهجرناها ،فتركنا ذاكرتنا وماضينا ولم نستثمرهما في تربية أبنائنا،  مهدنا لهم الطريق  للتشرذم والانشطار ،انصرفنا لمشاغل الحياة وسكنا أحياء بعيدة عن وسط المدينة  ،بدور وبنايات أوسع لكن ما أضيق العيش  فيها .. رحلت عنا شخصيات لم نستغل كاميراتنا وتقنياتنا الحديثة للتوثيق لهم والتعريف بهم، أدوات تواصل جديدة أصبحت في متناول أيدينا لم نستعملها في الاعتراف بمساراتهم .. الكثير من نجوم المدينة ورموزها والذين عشقناهم وألفنا وجودهم بيننا غادروا إلى دار البقاء، قصرنا في حقهم رغم أننا مدينون لهم بالسعادة التي منحونا إياها لزمن طويل .. بعض هؤلاء لا زالوا على قيد الحياة  لم نبادل جميلهم  بالجميل، هم في حاجة ملحة لنا ومنهم من طواه النسيان وطاله الحرمان، صار لنا أصدقاء جدد على شبكات التواصل الاجتماعي هي أيضا جديدة لكنها بدون تواصل ولا حرارة .. أيمكن أن  يهتز شعور الإنسان  ويعبر عن أحاسيسه  باستعمال لوحة مفاتيح جامدة أوبتبادل رسوم متحركة عبر الفايسبوك أو الواتساب…؟ أيمكن أن تحس بعطف إنسان عليك، أو حبه لك وتنسج معه علاقة قوية دون أن تلتقي عيناك بعينيه، تلمس يده أو تتمعن في حالته وشكله؟ بإمكانك اليوم أن تشاهد وتتكلم مع أي كان على المباشر من مكان بعيد في العالم، لكن بدون حرارة، موجة الصقيع اجتاحت المدينة، لم تتوغل في الجدران فحسب  بل أصابت أحاسيس ساكنة المدينة بأكملها .. فمن يعيد الحرارة؟ أطفأت مدينتي قنديلها فمن يشعل الأنوار فينير هذه العتمة؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.