Home»International»« ليلة القدرة ومبدأ تقييم الأعمال في خصوصية الزمن »

« ليلة القدرة ومبدأ تقييم الأعمال في خصوصية الزمن »

0
Shares
PinterestGoogle+
 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه

« ليلة القدرة ومبدأ تقييم الأعمال في خصوصية الزمن »

الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

أولا: أحوال الزمن و اعتبار القيمة العددية
من الأمور التي ركز عليها الإسلام في تقييم الأعمال هو ربطها ربطا متلازما بأحوال الزمن بحيث سيكون الزمن الإنساني ملتصقا بالزمن الكوني التصاقا عضويا ووظيفيا متكاملا لا متناقضا أو متقاطعا.
فالزمن بالمعنى والتحديد الفلسفي هو :مدة بقاء الجرم ساكنا أو متحركا، وفي معنى آخر هو :مرور مستمر وانقضاء دائم ومضي لا ينقلب ولا يرجع.هذا في تحديد الزمن الكوني ،أما الزمن الإنساني فهو :مدة بقاء الإنسان حيا متحركا ثم ميتا ساكنا.
لكن ارتباط الزمن الكوني بالإنساني سوف لن ينحصر على الوصف الجامد والتحديد الصامت للزمن وإنما سيكون ذا بعد وظيفي وقيمي يشرف بشرف التناسب القائم بين حال الزمن وحال الإنسان وحال الأعمال المنوطة به.
كما أن الزمن ليس له وجه واحد ودوران آلي غثياني،أي بمعنى أنه يعرف دورات متكافئة في كل الحالات وعند كل الأجرام ومع كل الوظائف،وهنا تطرح نسبية الزمن في القرآن الكريم من خلال ليلة القدر نفسها.
فقد جاء الإسلام ليقسم الزمن بحسب قيمته واحتوائه واشتماله .وذلك حينما فصل بين الزمن الشمسي والزمن القمري عند اعتبار الوظائف ونتائجها وثمراتها.فكان أعظم تجلي لهذا التقسيم بدقة متناهية في ليلة القدر،والتي ستربط بين الزمن الكوني المنضوي في مجموعتنا الشمسية، حيث الأرض محورها ومركزيتها، والزمن الغيبي حيث الفضاء اللامتناهي واللامحدد طبيعة ودورانا وامتدادا.
يقول الله تعالى عن هذه الليلة وما تحمله من قيمة معرفية وتنظيمية وترتيبية للوجود ووظائفه: » حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »سورة الدخان.
و » إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ،تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ».
فالقرآن الكريم قد أعطى للزمن قيمته حينما ركز على ليلة من لياليه سماها بليلة القدر.فاستعمل النزول ،الذي يقتضي في الأصل أن يكون في مكان، بأن نسبه إلى الزمان ولم يقل: أنزلناه في الأرض أو عليها وما يقتضيه الخطاب من ظروف مكانية بحسب حروف الجر ومقتضات الحركة والنزول.
وفي تفسير ليلة القدر نجد الأقوال التالي »فهي :ليلة الحكم،وهي ليلة التقدير،سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة؛ومن أمر الموت والأجل وغيره.وقيل إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها ،من قولهم :لفلان قدر ؛أي شرف .قاله الزهري وغيره.وقيل :سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما ،وثوابا جزيلا.وقال أبو بكر الوراق:سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصر في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها .وقيل :سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر،على رسول ذي قدر،على أمة ذات قدر.
ثانيا: ليلة القدر وامتدادات الخيرية غير المحدودة
لا أريد الدخول في تفاصيل هذه التفسيرات لكن المجمع عليه هو أن الليلة ذات اعتبار خاص ليس لذاتها ولكن لما خصصت به من تجليات وفضائل ووظائف وقرارات ستكون هي المحددة لهذه القيمة واعتباراتها المعنوية وحتى المادية.
فالخيرية ستكون بتناسب مع القيمة الزمنية زيادة ونقصانا وهي غير محددة تحديدا عدديا رياضيا أو حسابا فلكيا فيزيائيا حتميا وإنما هي مفتوحة على مصراعيها وتتجاوز العدد الذي هو ألف شهر ،لأنها جاءت بصيغة « خير من ألف شهر » فحددت بداية القيمة ولم تحدد نهايتها ،لكي يبقى التطلع قائما إلى ما لانهاية ويكون الاجتهاد غير موقوف على الأجر المحدود .فالإسلام يريد منا أن نكون عبيدا لا أجراء ،والعبد يكون أجره بحسب رضا سيده لا بحسب ما يقوم به من أعمال ومجهودات.فإما أن تكون عبد المولى يتفضل عليك ولا يحاسبك أو عبد الأجر تحاسبه ويحاسبك فيكون حسابه عسيرا عليك ،لأنه هو المتفضل عليك ابتداء ولست تتحرك ولا تقوم إلا بفضله ،وهنا تتفاوت القيم والمبادئ وقواعد الصبر والثبات وصدق المحبة والأنس.يقول النبي صلى الله عليه ةوسلم: »من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه،ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه »رواه البخاري.
فالحديث فيه رمزية عميقة واشتمال في جزء من كل ،بمعنى أن رمضان كله ينبغي قيامه ومن ضمن لياليه ليلة القدر.لكن ليلة القدر وحدها قد عادلت رمضان كله من حيث الجزاء.فالعمل المفصل هنا يساوي العمل المجمل في ليلة واحدة وهو من نفس الجنس ونفس القيمة الوظيفية ،لكن اقتران الليلة بفضل أعظم من العمل والاجتهاد جعلها تستحوذ على هذا الخير كله باستحقاق نوعي لا يقدر بثمن وأجر.
ثالثا:الزمن الشمسي والزمن القمري وأفضلية الشمولية الدورية بليلة القدر:
كما أن الخيرية ستكون باعتبار ما يعطيه الزمن من تفاضل بين حركاته ودورانه مع هذه الليلة خاصة، فجاء تقسيمه إلى زمنين هما :الزمن الشمسي والزمن القمري.
فقد يظن الكثير أن الزمن الشمسي هو أولى وأكثر قيمة من الزمن القمري وذلك بالنظر إلى توهج شعاعها وانعكاسه على القمر نورا يحضر تدريجيا ثم يغيب كليا.فيكون الحكم بحسب الكم المادي للشعاع والطاقة وما إلى ذلك .أي اعتبار النظرة البدائية للشمس بأنها هي الممدة للحياة ،حتى قد توهم قوم فانزلقوا في عبادتها باعتبارها لديهم إلها وما هي بذلك : » وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ».
فالذي خلق هو الذي يقدر القيمة ،ومن هنا جاءت الشهور القمرية أكثر دلالة من الشهور الشمسية من حيث الفضل وما يؤول إليه الدوران وذلك بارتباطها بليلة القدر هاته التي تخطت قسمتها كل الشهور بل السنين.
فالليلة لا تكون عند وجود الشمس وإنما قد توافق القمر وهي رمز للغيب وما يقدر فيه من دون علم أهل النهار .ومن هنا فلا يستفيد منها إلا فرسان الليل الذين هم في طور المراقبة والتطلع والقيام .كما أن الشهر القمري هو شهر دوري وذو منازل ومقامات ومرتبط بحياة الإنسان وحمله وولادته والدورة الشهرية للمرأة وتنوع مخرجاته من وتر وشفع في أعداد أـيامه ولياليه، ومعه تدور ليلة القدر باعتبارها ليلة من ليالي رمضان وفي هذه الدورية ستتوافق مع جميع الشهور الشمسية وفصولها من ربيع وصيف وخريف وشتاء .أي أن ليلة القدر ستمد الكون وما يجري فيه بجميع الأحوال والظواهر المتنوعة والمؤهلة للاستمرارية وتجديد الوظائف والحركات ومن ثم الثمرات.على عكس الشهور الشمسية التي هي قارة وغير واضحة التغير إلا ما يكون بين الليل والنهار من تدافع وما بين البرودة لحرارة من تنازل أو تصاعد.
إذن ، فالشهور الشمسية هي التي تنال الفضل من الشهور القمرية وخاصة في رمضان وبالأخص في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر بالرغم من أن القمر قد يستمد نوره من انعكاس الشمس عليه.فما يقدر من خير في فصول السنة وفي شهورها إلا ويمر عبر التوافق مع ليلة القدر التي لها طابعها الدوري الشامل.ومن هنا ندرك ما هي قيمة التوقيت بالشهور القمرية وخاصة في المجال الديني الذي هو ذي مصدر غيبي بالدرجة الأولى ،والغيب مرتبط بالسرية التي لا تكون في وضح النهار وإنما هي غائبة كليا عن الأنظار.وكما قلنا فالحساب الشمسي لا يعطي لنا هذا المعنى لأنه مادي بامتياز ولا يقرر إلا ما هو ظاهر أما الباطن فلا دخل له فيه.
أما الحساب القمري فهو يجمع بين المادي والمعنوي وبين عالم الغيب والشهادة وبين الزمن الكوني والزمن الإنساني ،سواء في اعتبار حاله أو اعتبار وظائفه.وفي نفس الحساب سيكون التفاضل بين الشهور.فرمضان ليس هو شعبان والعشر الأوائل منه ليست هي العشر الأواخر.وثلث الليل الأخير ليس هو ثلث الليل الأول.وذلك باعتبار ما يلازم هذه الفترة الزمنية من خصوصية جعلها الله تعالى مرتهنة بأفعاله وأفضاله.فكان أعظم هذا الفضل هو نزول الوحي في تلك الليلة بالذات التي قد كانت لها نفس المواصفات من قبل ولكنها لم تكن لها ذات المناسبات.إذ ليلة القدر قبل نزول القرآن ليست هي ليلة القرآن بعد نزوله ،وبهذا فقد شرفت بهذا التجلي الإلهي الذي تمثل بالدرجة الأولى في وحيه وإسناد وظيفة تبليغه إلى الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كأعظم واسطة بين الخلق والخالق في اختزال الزمن وتقريب المكان ،حيث لم يعد هناك تحديد أفقي أو عمودي في الامتداد.حتى إن الليلة ستكون مركز السفر الوجودي وربط الشبكة العظمى بين العالم السماوي النوراني بالعالم الأرضي التحتاني الأرضي من خلال الملائكة والروح وإشاعة قيم السلام والطمأنينة على كامل أهل الأرض إلا من أبى.
والليل هو رمز للغيب ورمز للضمير الغائب عن المراقبة الخارجية كما أن له صفة المحو كما قال الله تعالى: » وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ».
فلولا هذا المحو لما عرف الصحو.ومن هنا سيبني على هذا الحكم بعض الصوفية بأن محو النفس وصرف نزوعها وشهواتها هو السبيل الأوحد لمعرفة الحق وإدراك التجليات، وذلك من خلال القاعدة الرئيسية في علم النفس الإسلامي: »من عرف نفسه عرف ربه ».والمعرفة لا تكون إلا بهذه الصورة أي محو ظلام النفس لكي يصل العبد إلى سطوع شمس المعرفة على القلب.
وعلى هذا فمن قام ليلة القدر من أجل الأجر فهو في ذلك يكون يسعى إلى حظ النفس فيكون من الأجراء ،والأجير نصيبه محدود بحسب عمله،لكن من قام ليلة القدر بما تعطيه الليلة من اسم ومعنى مرتبط بالفضل الأعظم وهو التجلي الإلهي كرما بالوحي وبنزول القرآن كلام الله تعالى على قلب نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو من صنف العبيد الذين كما قلنا يعطون بغير حساب ويقربون إلى المعطي من غير حجاب. » ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ».

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.