Home»Régional»مقدمة أطروحــــــة للدكتوراه

مقدمة أطروحــــــة للدكتوراه

6
Shares
PinterestGoogle+

عنوان الأطروحة هو "المقامات اللزومية للسرقسطي: دراسة في البنية ـ مقامة الفرس نموذجاـ"، وكما هو واضح من العنوان؛ فإن مادة البحث هي من صميم الأدب الأندلسي المغربي الذي تشرفتُ بالانخراط في الوحدة المنسوبة إليه "وحدة التراث التراث الأدبي الأندلسي المغربي: دراسة وتحقيق".

أسباب اختيار الموضوع:

ـ لقد كان لانخراطي في وحدة التراث الأندلسي المغربي أثر كبير في اختيار كتاب "المقامات اللزومية" لأبي الطاهر السرقسطي الأندلسي واتخاذه مادة أدبية ينصب عليها بحثي، وإذا كان هذا الانخراط/القيد ذا طبيعة مهنية وعلمية محضة، فإنه لم يكن؛ أبدا؛ القيد القاهر المعطل للحركة والانطلاق، ولم يكن قط نظيرا للقيد الذي وصفه المعتمد في منفاه بقوله "أبيت أن تشفق أو ترحما"، لكنه كان من جنس القيد الذي ارتضاه شاعر العربية المتنبي "ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا". وأما إحسان هذه الوحدة وفضلها فلا يقدر بثمن، فقد تفيأنا من الأدب الأندلسي شعره ونثره وموشحاته؛ ظلالا غناء، وتقلبنا منه في أحضان بديعة الصنع فريدة النسج. وقد رجوت أن يكون هذا البحث بعضا من الاعتراف بالجميل لهذه الخميلة اليانعة وذكرى لحضارة سامقة لم يقيض لها الله بنين وذرية يحفظون لها الحياة ويمدون في عمرها ويغنونها.

ـ ومن جهة ثانية كان لارتباطي بالمقامات اللزومية وعملي على رصد جوانبها الموضوعية والفنية؛ خلال إعدادي رسالة نيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة؛ أثر كبير في توطيد علاقتي مع هذا العمل الإبداعي، فصادف اقتراح أستاذي المشرف د. محمد وراوي متابعة البحث والاستقصاء ضمن جوانب هذا العمل الفني؛ في نفسي رغبة ملحة واستعدادا كبيرا.

ـ وأما السبب الثالث فيتمثل في ارتباط "فن المقامات" بالفنون السردية، وهي فنون أحرزت لدى الدارسين الغربيين موقعا متميزا جدا، فنالت من دراساتهم وأبحاثهم قسطا وافرا. ولم أجد، فيما قرأت من الدراسات والمؤلفات؛ دراسة توفي هذا التراث العربي السردي الأصيل حقه من الدرس ما عدا دراسات قليلة ً انتهجت كلُها أنماط البحث المألوف مثلَ تتبع تاريخ هذا الفن: نشأتِه وتطوره وأعلامه، أو إلقاء ِ نظرات عابرة على قضاياه ومضامينه وخصائصه الفنية.

ـ وكان مما أغراني؛ أيضا؛ بخوض تجربة هذه الدراسة تجانس نصوص المقامات فيما بينها حتى لتكون مجموعة سردية واحدة، وهي بهذه الصفة تناظر مجموعة "الحكايات الشعبية" التي شكلت معينا فياضا للدراسات والأبحاث لدى الغربيين. ورغم ما بين الفنين من تباين يتمثل في كون الحكايات الشعبية موروثا شفهيا شعبيا في مقابل الفن المقامي الذي يمثل موروثا أدبيا فرديا، فقد اتخذتها موضوعا للدراسة لا سيما وقد أخضع الغربيون نصوصا دينية وحتى علمية للدراسة السيميائية.

ـ ومن هذه الأسباب أن غالبية الأبحاث التي تناولت الفن المقامي كانت منصبة على المقامات المشرقية، أما المقامات الأندلسية عامة فلم يتنبه الدارسون إلى وجودها وقيمتها إلا نفر قليل، ومن بين هؤلاء أذكر د.إحسان عباس في مؤلفه: "تاريخ الأدب الأندلسي:عصر الطوائف والمرابطين" وعلي بنمحمد في "النثر الأدبي الأندلسي في ق5: مضامينه وأشكاله"، ود.حازم ع الله خضر في مؤلفه "النثر الأندلسي في عصر الطوائف والمرابطين". وأما حظ مقامات أبي الطاهر السرقسطي لدى هؤلاء الدارسين وغيرهم فكان زهيدا. لذلك رغبت في أن أجعل من مقامات السرقسطي موضوعا لأطروحتي ودراستي، ولعلني بهذا أفتح آفاقا جديدة أو أضع لبنة أولى يقيض الله لها من الطلبة الباحثين من يواصل البناء عليها والبحث في الزوايا الأخرى غير الزوايا التي استأثرتْ باهتمامي في هذه الأطروحة.

منهج الدراسة :

لقد نصصت على المنهج الذي تبنيته في هذه الدراسة بالجزء الثاني في عنوان الأطروحة وهو "دراسة في البنية"، فهو إذا منهج بنيوي يقارب بنيات النصوص الدروسة، وضمن إطار هذا المنهج البينوي تتبعتُ؛ في المرحلة الأولى؛ البنيات الشكلية الكبرى في نصوص المقامات، والذي لا ريب فيه أن المنهج المناسب لهذه الغاية هو المنهج الذي تبناه الناقد الروسي فلاديمير بروب في دراسته الموسومة "مورفولوجيا الخرافة". وقد توخى منه وضع نموذج للخرافات حسب الأجزاء المكونة لها والعلاقات الرابطة فيما بينها. وكان حافزه لهذا النمط من المناهج نزوعه إلى "علمنة الأدب" والعملُ على رصد العناصر الثابثة فيه والإعراض عن العناصر المتغيرة. وقد كانت مفهوم "الوظيفة" عنصرا مركزيا في عمله التحليلي. وأما نتائجه فكان أهمُها تعريفَ الحكايات الشعبية تعريفا شكليا كالتالي: إنها تطور ينطلق من إساءة أو نقص، ويمر بالوظائف الوسيطة لكي يصل إلى عقد الزواج أو إلى وظائف أخرى تستعمل كحل. كما حدد عدد الوظائف في إحدى وثلاثين وظيفة، تخضع لنظام تتابعي واحد حتى وإن اختفى بعضها من مواقعه. ولقد كان منهج بروب هذا مثار انتقادات شتى ابتداء من كلود ليفي ستراوس ومرورا برولان بارت وكلود بريمون وغريماس وغيرهم. لكن الثابت أن عمل فلاديمير بروب هذا كان نقطة الانطلاق لبناء نظريات مختلفة للسردية.

وإذا كنت قد استعنتُ في المرحلة الأولى بالمنهج الشكلي، فإنني كنت على بينة من الاختلافات الكبيرة بين الخرافات الشعبية الروسية وبين الفن المقامي عامة والمقامات اللزومية خاصة. ومن هنا فقد أضربت إضرابا كاملا عن الوظائف التي حددها بروب لخرافاته، وعملت على أن تكون وظائف المقامات اللزومية مستمدة من متونها دون النظر إلى غيرها، مستندة إلى القوانين الداخلية التي كانت تحكم عمل أبي الطاهر السرقسطي نسجا على منوال المبدعين العرب وهم ينسجون مقاماتهم نسجا خاضعا لقواعد معينة يستبطنونها مثلما كان الشعراء يستبطنون قواعد الشعر: أوزانه وأعاريضه وزحافاته وعلله وغيرها.

وفي المرحلة الثانية تطرقت إلى البنيات الدلالية في "مقامة الفرس"؛ بمكوناتها الثلاثة: السردية والخطابية والعميقة. ومن الواضح أن المنهج الذي يتحتم علي تبنيه هنا هو منهج السيميائيات السردية، وقد آثرت أن استقي معالم هذا المنهج كما وردت عند رائد مدرسة باريس ألخرداس جوليان غريماس. وبخاصة في كتبه التالية:"السيميائيات البنيوية" المنشور سنة 1966 و كتاب "في المعنى" الصادر سنة 1970، وكتابه:"سيميوطيقا: المعجم العقلاني لنظرية اللغة" الذي ألفه ونشره رفقة الباحث الإسباني جوزيف كورتيس سنة 1979م.
وإذا كنت أعترف بصعوبة الإلمام بالنظرية السيميوطيقية كما رسم غريماس حدودها وأبعادها بسبب تشعب أبعاد هذا البحث وتعدد المؤلفات التي خلفها هذا الباحث، فإن ذلك لم يمنعني من محاولة تحسس البناء العام لهذه النظرية وتتبع خطوطها الكبرى. ويمكن حصر القواعد الكبرى لهذه النظرية في أنها تعمل على إرجاع مسألة الدلالة بأكملها إلى مجموعة من العناصر البسيطة، وأن الفكر الإنساني إذا كان يتوصل إلى بناء موضوعات ثقافية كبرى مثل ِ الأدب والأسطورة والرسم وغيرها؛ فإنه إنما ينطلق من عناصر أولية بسيطة ومحدودة جدا هي الوحدات الدلالية الصغرى المماثلة للوحدات الصوتية في مجال اللسانيات، ومن ثم يتبع هذا الفكر مسارا توليديا معينا ينطلق من المحايثة إلى التجلي، ومن التجريد إلى المحسوس، ويتضمن عددا معينا من المستويات والمكونات.

ـ أبواب البحث وفصوله :

إن ما سبق كان إطارا نظريا عاما أطَّـر حركتي أثناء البحث، أما الخطوط التفصيلية لأطروحتي فقد صممتها بحيث تشتمل على بابين كبيرين: أولـُهما نظري والثاني تطبيقي. وجعلتُ؛ ضمن كل من البابين؛ أربعة فصول متتالية كالتالي: البنية المورفولوجية، البية السردية، البنية الخطابية، والبنية المنطقية.
ـ البـاب الأول : وقد خصّصتُه للجوانب النظرية فقء وقسمت التنظير إلى أربعة فصول هي:

ـ الفصل الأول: وتطرقت فيه إلى الجانب النظري المتعلق بالبنية المورفولوجية، وركزت فيه على المنهج الشكلي وما حمله من إضافات في المجال النقدي وما استتبعه من انتقادات، كما حاولت فيه أن أتتبع تعامل النقاد العرب مع الفن المقامي وصولا إلى تأكيد عدم اهتمام أولئك النقاد برصد الوحدات الداخلة في بناء المقامات، ومن هنا عملت على تحديد تلك الوحدات الشكلية التي تميز هذا الفن، وحصرتها؛ تبعا لمذهب بروب؛ في الوظائف، واشترطتُ أن تتوفر في هذه الوظائف معاييرُ ثلاثة هي: أن تكون شكلية ً، متحكمة في بناء الحكاية، لها قدرُ كبير من التردد.

ـ الفصل الثاني: وقد جعلتُ عنوانَه: البنية َ السردية في الحكاية؛ حاولتُ أن أتتبع نظرية الدلالة عند غريماس في خطوطها الكبرى، كما تطرقت للبنية الدلالية السردية في مستوييها: العميق والسطحي. وتعرضت كذلك للمكون السردي، وركزت على استجلاء وتحديد مفاهيم ثلاثة هي: السردية، والحالة والتحول، والبرنامج السردي. وضمن هذه العناوين تناولت عناصر فرعية متعددة.
ـ

الفصل الثالث: وتعرضت فيه إلى البنية الخطابية، وركزتُ في المبحث الأول؛ على استجلاء دور المكون الخطابي في بناء الدلالة، وتناولت؛ في المبحث الثاني؛ الدلالةَ الخطابية بمكوناته التالية: الموضوعة بجزئياتها: الصياغة والمسار الموضوعاتي والدور الموضوعاتي. وفي المبحث الثالث؛ تناولتُ الصورةَ بأنواعها والمسارَ الصوري والتشكيلَ الخطابي. وفي المبحث الرابع تناولت التركيب الخطابي بعناصره التالية: المستوى التركيبي وصياغة الممثل والزمان والمكان.

ـ الفصل الرابع: تناولت البنية العميقة، من خلال عناصر كبرى أربعة هي: المفردة المعجمية، والوحدات الدلالية الدنيا:المعانم، ومفهوم التناظر، والبنية الدلالية الأولية. وينبغي لي هنا أن أؤكد الطابع الاختزالي للمباحث النظرية عامة، فقد كان هاجسي الأول هو تقديم التعريفات والتصنيفات والترابطات ضمن بنية واضحة المعالم بعيدا عن الاختلافات التي أملاها تعدد التيارات السيميائية. كما أشير إلى أنني كنت أضطر أحيانا إلى تقريب المفاهيم والتتصنيفات والعلاقات من خلال أمثلة آثرت أن أستمدها من الفن المقامي عامة ومن المقامات اللزومية خاصة.
ـ البـاب الثـاني : وقد وقفته على الدراسة التطبيقية، أي محاولة دراسة نصوص المقامات اللزومية في ضوء المفاهيم والبنيات السيمائية كما سطرتها خلال الباب الأول. وقد ضمنتُ هذا الباب أربعة فصول مثلما سبق أن ذكرت.

ـ الفصل الأول: وخصصته لدراسة البنية المورفولوجية في المقامات اللزومية، وجعلته في خمسة مباحث كالتالي:
* المبحث الأول: وتتبعتُ فيه الوظائفَ التي تنبني عليها المقامات اللزومية وقد حددتها في ثلاث وعشرين وظيفة تبتدئ بالرحلة والجولة والإثارة وغيرها لتنتهي بالعتاب والدرس والانفصال والعتاب.
* المبحث الثاني: وحددت فيه الوظائف التي اعتبرتها ثانوية لأنها تفتقد أحد الشروط التي تتميز بها الوظائف الرئيسة.
* المبحث الثالث: قدمت فيه تصنيفا للحكايات المقامية بحسب كونها بسيطة أومركبة، كما تتبعتُ طرق ترابط الحكايات في المقامات المركبة.
* المبحث الرابع: قصرته على دراسة علاقة الفن المقامي؛ مثلما حددتُ بنيته الشكلية؛ بمجموعة من النصوص التي ارتبطت لدى المؤرخين والدارسين بالمقامات.
* المبحث الخامس: حددتُ فيه معايير تصنيف البنيات الحكائية في المقامات اللزومية؛ ثم عملت على رصد تلك البنيات واقترحت لذلك أربع بنيات هي: البنية العاطل وبنية السرقة وبنية العطاء وبنية العطاء والسرقة معا. واختتمت ذلك بمحاولة اقتراح بنية عامة تختزل البينات السابقة كلها.
ـ الفصل الثاني: وتناولت فيه البنية السردية في مقامة الفرس، فعملت على تقطيع النص إلى استهلال ومتن حكائي، ودرست الاستهلال من خلال مكونات الوصل الخطابي والحالة والتحول والبرنامج السردي، واختتمته برصد البنية العاملية فيه. ثم تتبعت المؤشرات التي تخضع لها البنية السردية في المتن الحكائي، وصنفتها إلى ثلاثة مؤشرات هي: الزمان والمكان والممثلون، وتتبعتُ مقاطع النص مستجليا بنيته السردية في تتابع تلك المقاطع.
ـ الفصل الثالث: وخصصته لدراسة البنية الخطابية في مقامة الفرس، وكانت الغاية منها رصد الصور الواردة في الحكاية، ومن ثم نظمُها في مسارات صورية، مع محاولة استجلاء التشكيلات المنبثقة عنها، والعلاقات المتحكمة فيها على امتداد المقامة بأكملها، ابتداء بالعنوان ومرورا بالاستهلال وانتهاء بمتن الحكاية. وخلصت إلى تحديد الأدوار الموضوعاتية التي أداها الممثلون وذلك في تعالقها بالأدوار العاملية، وبناء عليها اقترحت التركيبة الموضوعاتية لكل ممثل على حدة. ثم قدمت تركيبة تجمع بين كل برامج سردي على حدة ومجموعة من المسارات الصورية التي شكلت إهابه الخارجي.
ـ الفصل الرابع: وحاولت فيه مقاربة البنية المنطقية في مقامة الفرس، فتوسلت إلى ذلك باستخلاص التناظرات السيميولوجية المتحكمة في عملية تنظيم الصور الخطابية داخل المسارات الصورية الواردة في المستوى السطحي، وقد حصرتها في ثلاثة تناظرات تبسط ظلالها على مشاهد متعددة من الحكاية، وقد اقترحت لها العناوين التالية:
1

ـ عالم العلاقات : وأقصد به عالم العلاقات العائلية والقرابة الدموية الذي يتجلى في مجموعة من المتقابلات المعنمية مثل: بنوة/ربيب، أصيل/هجين، وقد بينت كيف ينتظم هذا العالمُ مساراتٍ صورية ً كثيرة تؤثث متن الحكاية، وتوصلت إلى أن عالم العلاقات هذا؛ باعتباره نظاما من القيم؛ كان سببا في تجريد الراوي من ماله واكتماله المزعوم. واستخلصت منه المعانم التالية:
/رفعة/ م /انحطاط/
/امتلاء/ م /فـراغ/
2

ـ عالم الاقتصاد : وتحضر سيماته في النص من خلال مسارات صورية مثل صفقة البيع وتربية الخيل ومسار الضيافة. وقد اختزلته إلى معانم حددتها في التقابلات التالية:
/إثراء/ م /عـوز/
/أصالة/ م /هجنة/
3

ـ العالم النفسي: ونجده حاضرا في تصوير الاضطراب النفسي الذي اتسم الراوي في بداية الحكاية حينما حدثنا عن شبابه وبطالته، كما يحضر في مسار "سباقات الخيل"، ولقد اختزلت المعانم المتحكمة في هذا العالم في التقابل المعنمي التالي: /تقدم/ م /تخلف/.
وفي ختام دراستي البنيات السيميولوجية َ اقترحتُ تركيبة ً تجمع كلَ تناظرٍ سيميولوجي بالمسارات الصورية المنضوية تحته، وبالتقابلات المعنمية التي تمثل بنيته العميقة.
وانطلاقا من هذا التناظر السيميولوجي توصلت إلى بناء التناظر السيميائي الذي يحكم علاقات النص وذلك اعتمادا على تحديد ما يضمن توافق المسارات الصورية وترابط َ التناظرات السيميولوجية فيما بينها. ولقد اعتبرت أن التقابل المعنمي: /أصالة/ م /هجنة/؛ يمثل المرجع الذي يمكن أن تؤول إليه كلُ التقابلات السابقة. وبذلك اعتبرته ممثلا للتناظر السيميائي المتحكم في الحكاية. وبالنسبة للعمليات الآولية(النفي والإثبات) التي انصبت على مكونات المستوى العميق فقد تبين لي أنها تختلف اختلافا يفرضه تباين الركن الذي تنطلق منه العمليات. فبينما ينطلق الراوي من قيمة /هجنة/ باحثا عن /أصالة/ يفشل برنامجه السردي في تحقيق غايته ليجد نفسه في الأخير موصولا مرة ثانية بالقيمة ذاتها التي انطلق منها، وفي مقابله نجد أن البطل ينطلق من قيمة /أصالة/ في سلسلة من العمليات التي تقود إلى الـ/هجنة/ لكنه لا يلبث أن يعود إلى الاقتران بالقيمة المنطلق /أصالة/.
ولقد كان هذا بالنسبة لمتن الحكاية، أما بالنسبة للمنطوق السردي/الاستهلال، فقد أوضحتُ أنه يتضمن تناظرا سيميولوجيا يجسد بنية من القيم المرتبطة بـ"عالم التعليم"، وقد حصرت هذه القيم في المتقابلات التالية:
شيخ م مريد
عالم م متعلم
رفعة م انحطاط

ومن الواضح أنه يمكن رد هذه القيم كلها إلى المتقابلة التي رأينا أنها تحكم متن الحكاية، أعني متقابلة: /أصالة/م/هجنة/، وتظهر أصالة هذا العالـَم التعليمي في تلقي العلم عن الشيوخ العلماء وأخذه عنهم أخذا مباشرا، وذلك في مقابل الهجنة التي تقترن بالابتعاد عن العلم أو بطلبه من غير الشيوخ والعلماء.
وإذا اعتبرت أن قيمتي /أصالة/ و/هجنة/ يمثلان البنية العميقة في المقامة اللزومية بجزأيها: الاستهلال والمتن الحكائي، فإن ذلك لا يعني أبدا أنها عناصر مضمونية قادرة على تلخيص معنى النص، بل المراد منها أنها تسمية لعلاقة تتحكم في التوزيعات الدالة الواردة في اللوائح السيميولوجية المختلفة للنص.

وأحب في ختام عرضي لتصميم البحث أن أشير إلى أن الفصل الذي اصطنعته بين دراسة المكونات السردية والخطابية والمنطقية؛ إنما هو فصل نظري اقتضته الدراسة تبعا لاختلاف وسائل التحليل في كل مستوى. وإلا فإن النماذج السردية لايمكن صياغتها إلا في اقترانها بالمكون الخطابي، كما أن المضامين المراد استثمارها لا يمكن تعرفها إلا من خلال خطاطات تركيبية. ومن هنا كان تشبيه العلاقة بين السردي والخطابي بالعلاقة بين النحو والمعجم، بحيث يصعب تصور قيام أحدهما دون الآخر.

ـ النتـائـج :

ـ كشفت دراستي البنية المورفولوجية أن المقامة اللزومية تتشكل من ثلاث وعشرين وظيفة تتوالى على نمط معين بحسب البنية الكبرى التي تنتمي إليها: بنية العطاء أو السرقة أوهما معا. وليس معنى تشكلها من 23 وظيقة أن هذه الوظائف كلها ينبغي أن تحضر في كل مقامة، بل إن بعضها يتعرض للحذف أو الاختزال الشديد، ويمثل هذا الحذف طريقة من طرائق التنويع والتباين في الإبداع المقامي عامة.

ـ وكانت حصيلة دراسة المكون السردي أن محور البنية السردية يتمثل في تقاطع برنامجين سرديين متقابلين، كل منهما يدور حول عملية متميزة، وأنهما معا يتركزان في بؤرة واحدة يمثلها ارتباط الراوي بموضوعه/الاكتمال، علما بأن هذه البؤرة هي التي تجسد ذاكرة الحكاية بأكملها لأن كل الأفعال التحويلية تستهدفها أو تمر بها، كما أنها تدل في الوقت نفسه على تطور الحكي انطلاقا من ادعاء الراوي الاتصال بموضوعه المتمثل في "تحقيق الاكتمال" في البداية وانتهاء باعتراف هذا الراوي بالانفصال عن موضوعه.
وإذا كانت سلبية برنامج الاحتفاظ بالاكتمال لدى الراوي لا تحتاج إلى برهنة وذلك بالنظر إلى خسارته مالَه وفقدانه ما كان يعتبره اكتمالا في ذاته وأعني بذلك معرفته بعالم الخيول وتبريزه في سباقاتها، فإن إيجابية البرنامج السردي الخاص بالبطل/الشيخ لا يؤكدها المال الذي سلب الراوي إياه، كيف لا ونحن نجد الشيخ لا يبدي أي اغتباط بالمال المسلوب ولا يحدثنا إطلاقا عن مقداره أو عن الغايات التي يتوخى تحصيلها من ورائه، ومن هنا اعتبرتُ موضوع المال مجردَ صورة خارجية تغلف الموضوع الحقيقي للشيخ، وقد حددتُ هذا الموضوع الحقيقي في إسناد الشيخ الاكتمالَ إلى ذاته وسلبِه من الراوي، ووقوف الشيخ موقف المعلم الذي يقدم حكمته وعلمه إلى غيره. واستنتجتُ من كون "الاكتمال" موضوعا للصراع أنه لا يمكن أبدا أن يكون موضوعا للتشارك بين البطلين.
ـ ولقد عملت؛ في مجال البنية الخطابية؛ على رصد الصور والمسارات الصورية والتشكيلات الخطابية، وإذا كنت لا أدعي استقصاء كل عناصر هذا المكون في "مقامة الفرس". فإنني أعتقد أن العناصر المرصودة قد ساعدتني في تبين الأشكال الخطابية التي غلفت عناصر المكون السردي وحولتها من التجريد إلى المحسوس.
كما عملت على كشف تعالق المستويين السردي والخطابي من خلال مكونات حصرتها في:

أ ـ عنصر الممثل: باعتباره رابطا بين الدورين العاملي والموضوعاتي.
ب ـ التركيبة الموضوعاتية للشخصيات.
ج ـ تحديد علاقة البرامج السردية بالمسارات الصورية.
فاقترحت أدوارا موضوعاتية خاصة بكل ممثل سواء باعتباره بطلا في برنامجه الخاص به، أو باعتباره معارضا في البرنامج الخاص بالبطل المقابل له. كما تتبعت التطور الذي عرفه الممثلون ورصدتُ تحولهم من أدوار موضوعاتية إلى أدوار أخرى، وبناء على ذلك اقترحت التركيبة الموضوعاتية الخاصة بكل شخصية من شخصيات "مقامة الفرس". وسجلت ضمن الأدوار الموضوعاتية؛ حضورَ موضوعة "الفعل الأدبي" إبداعا وتلقيا؛ تأثيرا وتأثرا، وكذا موضوعة "الولع بالخيول العربية الأصيلة".

ولما كانت المسارات الصورية والتشكيلات الخطابية تشكل جزء من المكونات التي تغلف البرامج السردية وتمنحها طابعها الثقافي والاجتماعي المتميز المرتبط بمجموعة بشرية معينة، فقد حاولت رصد مجموعة من المسارات التي أثثت البرنامجين السرديين في الحكاية المقامية. وتبينتُ منها اشتراك الممثلَين الرئيسيَيْن في برنامج سردي واحد هو "تحقيق الاكتمال"، لكن مع تباين في المسارات المشكلة لكل برنامج على حدة، وذلك تبعا لاختلاف الوسائل التي يأخذ بها كل منهما. كما اتضح أنه إذا كانت للبرنامج السردي الخاص بالراوي هيمنة في المشاهد الأولى من النص، واستدللت على تلك الهيمنة بالمسارات التي منحته وجوده المادي المحسوس، فإن الغلبة تحققت للبرنامج السردي الخاص بالشيخ في المشاهد المتوسطة والأخيرة مقترنةً بالمسارات الصورية الخاصة به. كما لاحظت هيمنة الفشل على البرنامج السردي للراوي أيا كان المجال الذي يتحرك فيه: سفاهة أو لهوا، أو تجارة (اقتناء الفرس)، ولم يشذ عن هذا إلا مسار سباقات الخيول التي كان يفلح فيها. وفي مقابل تعدد تجارب الراوي؛ فإننا نجد الشيخ لا يخوض أمامنا إلا تجربة واحدة يحقق فيها الفوز.
ـ

ولقد تطلبت مني دراسة ُ البنية المنطقية تحديدَ العلاقات الرابطة بين المسارات الصورية، واستنتجت أنها تترابط ضمن "تناظرات سيميولوجية" حصرتها في /العلائقي/ و/الاقتصادي/ و/النفسي/. ثم اختزلت هذه التناظرات السيميولوجية في سمات معنمية حصرتها في تقابلات معينة، ثم اقترحت أن يكون التقابل المعنمي: /أصالة/ (م) /هجنة/ جوهرها المتحكم في إخضاعها للتجانس وبث التوافق بينها.
يمكن القول؛ إذن؛ إن المقولة الدلالية (أصالة/هجنة)؛ تمثل البنية العميقة لنص "مقامة الفرس"، فالشيخ حتى وإن بدا؛ في أول ظهوره؛ أنه /هجين/، إلا أنه يتمكن في نهاية الحكاية من إثبات /أصالته/، وبالمقابل؛ فإن الراوي؛ حتى وإن بدا في أول الحكاية متسما بـ/الأصالة/ في مختلف المسارات؛ إلا أنه يتكشف في الأخير عن مفتقر إليها.

صعوبات البحث:

مما لا ريب فيه أن إنجاز هذا البحث على الوجه الذي أردته قد اعترضته عوائق جمة، لعل أهمها ندرة المؤلفات العربية في ميدان السيميوطيقا. وإذا تحدثنا عن الندرة في مجال التنظير؛ فإنها في مجال الدراسة التطبيقية غاية في الندرة. وتدل لائحة المراجع العربية الملحقة بهذا البحث على هذه الندرة.
وقد فرضت علي؛ هذه الندرة في المؤلفات العربية في مجال السيميائيات؛ الاتصالَ بالمراجع والمصادر المكتوبة باللغة الفرنسية، وهو ما دفعني دفعا إلى الاتكال على نفسي في ترجمة النصوص، وإذا كان من إيجابيات ذلك الوقوفُ على النصوص في مصادرها الأصلية، فإن الأمر لا يخلو من مشاكل أخرى تقتضيها ترجمة النصوص.

أما العائق الأكبر فقد تمثل في إيجاد مقابلات للمصطلحات السيميائية، وسبب ذلك هو اختلاف الباحثين العرب في اقتراح مصطلحات عربية لهذا العلم. وقد أشرتُ؛ خلال إيرادي المصطلحات في ثنايا هذا البحث؛ إلى بعض تلك الاختلافات، بل إن كثيرا من الباحثين العرب وقفوا عند حد نقل المصطلح السيميائي نقلا حرفيا كما وضع في لغته الأصل (ومثال ذلك: السيم، السيميم، اللكسيم، الكلاسيم ..)، وتجاوز الأمر ذلك في حالات كثيرة إلى الإضراب عن إيراد جملة من مقابلات المصطلحات الأعجمية تجنبا لمشاكل الترجمة.
كما كان اتساع مجال السيميائيات واختلاف مذاهب الدارسين ومدارسهم عاملا معرقلا، بل إن تتبع نظرية الدلالة عند غريماس وحده في مختلف مؤلفاته تتبعا دقيقا يتطلب مجهودا ضخما تنوء به العصبة من الدارسين. لذلك قصرت دراستي النظرية على ما يرسم الخطوط العريضة لهذا العلم، متجنبا الدخول في متاهاته وسراديبه، وراغبا عن التصدي للاختلافات.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

6 Comments

  1. عبد العزيز قريش
    24/01/2008 at 21:51

    بالتوفيق وتبقى الرسالة قيمة مضافة في الحقل الأدبي وشكرا. والسلام

  2. azzou samir
    25/01/2008 at 18:41

    Je vous souhait le bon courage, et bonne chance.

  3. ابو سارة
    28/01/2008 at 12:10

    بالتوفيق انشاء الله اتمنى ان يكون العمل اضافةنوعيةفي مجل الادب

  4. محمد ودغيري
    28/01/2008 at 12:10

    تمنياتي لكم التوفيق والنجاح ، ووفقكم الله فيما أنتم سائرون فيه .

  5. djenas
    11/03/2008 at 23:43

    c’est un tres bon sujet vs devez reussir : ablakoubou@hotmail.com

  6. أحمد الحسني
    02/01/2013 at 14:48

    تمنياتي لك بالتوفيق الدائم يا دكتور، ولكن هل بالأمكان الأستفادة من جهودك المبذولة، وذلك بنشر هذه الاطروحة لك مني شكرا واصلا.

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *