Home»Enseignement»أسس ومرتكزات إصلاح المدرسة المغربية

أسس ومرتكزات إصلاح المدرسة المغربية

4
Shares
PinterestGoogle+
 

أسس ومرتكزات إصلاح المدرسة المغربية

بقلم: نهاري امبارك٭؛

مقدمة:

لقد عرف قطاع التعليم بالمغرب، ومنذ فجر الاستقلال إلى اليوم، أي على امتداد أكثر من نصف قرن، عدة إصلاحات، تعاقبت بتعاقب الحقب الزمانية والأجيال المتوالية.

فقد شكلت عدة مجموعات لجان، وانكبت على النظر في قضايا التعليم، فاتخذت قرارات واختيارات وفق تصورات وغايات مرسومة لمنظومة التربية والتكوين، أدت إلى فشل هذه الإصلاحات دون تحقيق المنتظر منها على الساحة التربوية والتكوينية، الأمر الذي انعكس سلبا على جميع الأصعدة، منها الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها.

وحيث، في اعتقادنا، أن أي إصلاح تعليمي يتناول، فقط، بالمعالجة والدرس والتحليل البرامج والمناهج والمقررات الدراسية والكتب المدرسية، ويرفع شعارات، ويقدم إنشاءات شمولية وفضفاضة، لن يجدي نفعا، ولن يتجاوب مع الغايات المرسومة وطموحات المواطن المغربي، ولن يحقق الأهداف المرجوة، ما دام لم تصاحبه، أو على الأصح، لم تسبقه إصلاحات جذرية وعميقة، على جميع الأصعدة، ولجميع المؤسسات، بكل أنواعها ومجالاتها، التي ينهض عليها المجتمع وتعمل على تصريف السياسة المنتهجة في تدبير شؤون الحياة المجتمعية برمتها.

حيث إن أي متتبع أو متفحص لهذه الإصلاحات، يلمس بكل بساطة مجموعة من الاختلالات، تطال المؤسسات التي تنهض عليها سياسة تدبير شؤون الدولة، والتي تعتبر، في نظر المتتبعين والفاعلين التربويين، الأسس والمرتكزات الحقيقية للإصلاح التعليمي ومنها الأسرة وواقعها الاجتماعي والاقتصادي والطفل والأوساط الاجتماعية والتربوية والتعليمية والمدرسية والتكوينية على اختلافها وتنوعها بمجتمعنا.

الجزء الأول: المؤسسة الأسرية

فأي مؤهلات مادية ومعنوية تمتلك الأسر المغربية لضمان مدرسة أبنائها؟ وكيف تسهم المؤسسة الأسرية في الإصلاح التعليمي؟ ومتى تسهم المؤسسة الأسرية في الإصلاح التعليمي بالشكل المطلوب من أجل تأهيل الأطفال والشباب للاندماج في الحياة العملية والنسيج الاجتماعي؟

وحتى نجيب قدر الإمكان على سؤال إشكالية هذا الجزء من نظرة شمولية لإصلاح المدرسة المغربية الجارية بشأنها مشاورات على جميع الأصعدة، سوف نعرض، واقع المؤسسة الأسرية المغربية  المحتضنة لجوانب هامة لدعامات وأسس ومرتكزات حقيقية لإصلاح التعليم، والخدمات المنتظرة منها والأدوار الحقيقية الموكولة إليها، مع مراعاة أهميتها البالغة في المجتمع، وتحديد العناية الفائقة التي يجب إيلاؤها إياها، حتى تضطلع بمهامها، وتؤدي رسالتها السامية تجاه تربية الأجيال المتعاقبة وتكوينهم وإعدادهم للحياة المهنية، إلى جانب خدمات مضامين المقررات الدراسية والبرامج والمناهج، وبموازاة لها، أو في تكامل معها، وتعاون متبادل، أخذا وعطاء.

هذه المؤسسة، التي تشكل، النواة الصلبة، وحجر الزاوية الحقيقي لإصلاح المدرسة المغربية، المتمثلة في المؤسسة الأسرية: فما هي المؤسسة الأسرية؟ ومتى تشكل مرتكزات أساسية للإصلاح التعليمي؟ وما هي الأدوار المنوطة بها للنهوض بأي إصلاح تعليمي؟

تعتبر الأسرة اللبنة الأولى لقيام جميع المجتمعات على وجه البسيطة، ومهد التنشئة الاجتماعية، حيث ينشأ الأطفال وينهلون من التربية الأبوية، من رعاية واهتمام، بهدف إعدادهم لمواجهة متطلبات الحياة المدرسية والمهنية والاجتماعية.

فاستنادا إلى تقارير رسمية، يستفاد منها معاناة الأسر المغربية، عموما، وبأشكال متفاوتة، من الفقر والتهميش والبطالة والأمية والأمراض والتخلف الاجتماعي، الشيء الذي يقف حجر عثرة أمام تمدرس أطفالها لعجزها البين عن توفير سكن لائق، تتوفر فيه كل أو بعض الشروط الصحية الضامنة لظروف الدراسة، حيث تكدس أفراد الأسرة الواحدة في بيت واحد، لا ماء ولا كهرباء ولا قنوات صرف المياه، كما يعجزون عن توفير الملبس والمأكل والمشرب واللوازم المدرسية، فماذا ينتظر تربويا ومدرسيا من العاري والجائع وغير المتوفر على الأدوات المدرسية؟ هذه العناصر التي تعتبر حافزا للأطفال على الدراسة والمواظبة والتحصيل الدراسي والإنتاج المدرسي.

إن الأسر الفقيرة والمعوزة تنشغل أساسا بمتطلبات العيش، وتشتغل لتوفير الحاجيات الأساسية للحياة اليومية من أكل وشرب ولباس، معتمدة على أطفالها ذكورا وإناثا، حيث منهم من يرعى بعض المواشي، ومنهم من يجلب الماء والحطب، ومنهم يجلب البرسيم والعلف، ومنهم من يعمل مقابل أجر هزيل في أي مجال كان، للتخفيف عن أبيهم وأمهم. هذه الأسر ليس في استطاعتها المادية تشغيل راع أو شخص آخر يعينها بمقابل مادي، لذلك تلتجئ لأطفالها الصغار والكبار، الذكور والإناث، وتصرفهم عن التمدرس، أو تضطر لتوقيفهم عن الدراسة في مستويات دراسية معينة.

ونظرا للمستوى الثقافي الهزيل للأمهات والآباء بأغلب الأسر، وعدم وعيهم بأهمية الدراسة والتعلم، وفقدان الثقة في المدرسة التي لم تعد وظيفية في نظرهم، فإنهم، من شدة معاناتهم الأمية والجهل، يتخذون مواقف سلبية من الدراسة، خصوصا لما لم يستطيعوا مساعدة أبنائهم مدرسيا على المراجعة وإنجاز الواجبات المنزلية التي يطلبها المدرسون من التلاميذ بالكم الهائل يوميا.

ومن ناحية أخرى، ونظرا لوطأة الأمية والجهل كذلك، ونظرا لغياب الوعي التربوي وعدم تمكن أغلب الأمهات والآباء من قواعد التربية السليمة، لغياب التأطير التربوي والاجتماعي، وغياب الأدوار الحقيقية التربوية والاجتماعية لوسائل الإعلام المكتوب، وخصوصا المسموع منه والمرئي، وعدم تحقيق برامج محو الأمية أهدافها، فإن الأطفال يعانون تصادم أساليب التربية الأسرية إلى حد التناقض والتعارض بين التربية الأبوية لمختلف الأسر من جهة، وبين التربية الأبوية لمختلف الأسر والتربية المدرسية من جهة أخرى، لنجدهم( الأطفال) تتجاذبهم ما يطلق عليه التربية التقليدية الأصيلة وما يسمى بالتربية الحديثة المعاصرة من ممارسات وتمظهرات متنافرة تؤثر سلبا في المسار التربوي والحياتي للطفل والمراهق والشاب والناضج على حد سواء، إلى درجة الحيرة والتشكيك والمعاناة النفسية. وفي السياق نفسه، يتخذ بعض الآباء والأمهات مواقف سلبية من تمدرس الفتاة، معللين ذلك بتخوفهم على شخصها من الانحراف والاعتداء، إما لبعد المدرسة عن السكن، أو المرور بمسالك وعرة ووديان بلا قناطر، وإما لكثرة الموبقات ومظاهر الانحلال الخلقي بالأزقة والشوارع، أو يعتمدون عليها للقيام بالأشغال المنزلية إلى غاية التحاقها ببيت الزوجية.  

كما يسجل، من ناحية أخرى، في الحواضر والبوادي، على حد سواء، ضعف الخدمات الطبية والاستشفائية العمومية، حيث مستشفى أو مركز صحي واحد لآلاف المواطنين لا يفي بأغراضهم ولا يستجيب لمطالبهم الصحية، ما يجعل الأسر المعوزة تعاني الأمراض ومواجهة تكاليف التطبيب والتداوي الباهضة، التي تثقل كاهلهم وتصرفهم عن توجيه اهتمامهم إلى تمدرس أطفالهم، الذين لا يلتحقون بالمدرسة بتاتا، أو قد يغادرون الأسلاك الدراسية بفعل أمراض عابرة أو مزمنة، تقعدهم وتفتك بهم.

كما يلاحظ أن استفادة، فقط، بعض التلاميذ، خصوصا في البوادي، من خدمات الدعم الاجتماعي والإطعام المدرسي، ما يشكل أحد العوامل المؤثرة سلبا في إقبال الأطفال على التمدرس ومتابعة الدراسة. وعلى العموم، فإن قلة المنح المدرسية والجامعية، ومحدودية الطاقة الاستيعابية للداخليات والأحياء الجامعية ودور الطلبة، تدفع الأمهات والآباء إلى توقيف أبنائهم خصوصا الفتيات، وعلى الأخص الوافدات من الوسط القروي إلى توقيفهم عن متابعة دراستهم، لعدم قدرتهم على توفير لهم الإيواء والأكل والنقل ومختلف لوازم الدراسة والتكوين.

كما يرى أرباب الأسر الفقيرة، خصوصا منهم، ذوي العدد المرتفع من الأطفال، أن تكلفة التمدرس تتجاوز طاقتهم المادية المحدودة، حيث يعجزون عن أداء واجبات التسجيل واقتناء الكتب المدرسية، في ظل عدم استفادتهم من إعانات مادية، المتمثلة في لوازم مدرسية كافية تخفف أعباءهم وتحفزهم على تمدرس أطفالهم.

إن الطبقة الاجتماعية المسحوقة التي تعاني الفقر والأمية والتهميش، والمحرومة من الخدمات الاجتماعية الأساسية، حيث لا تتوفر على عمل رسمي، ولا ضمان اجتماعي، ولا تأمين صحي، ولا تحصل على تعويضات أو مساعدات عائلية أو إعانات صحية، وليس لها نظام تقاعد، ولا تستفيد من دعم اجتماعي، والتي  مصيرها التسريح وإغلاق الضيعات والمقاولات والمعامل أبوابها دون سبب ودون حقوق، يعاني أطفالها الأمراض والحرمان، ليصبحوا عرضة للانحراف والانحلال الخلقي، من تسكع وتناول المخدرات والإدمان على التدخين، هذه الآفات تشكل العوامل الأساسية للفشل الدراسي ومغادرة الأسلاك الدراسية.

وعليه، وفي اعتقادنا وكما يرى كثير من المهتمين والفاعلين التربويين الممارسين ميدانيا، أن الإصلاح التعليمي يرتبط ارتباطا عضويا بإصلاح أحوال الأسر المغربية خصوصا المعوزة منها، وتنزيل الدستور وتنفيذ توصياته ومقتضياته وسيادة مبادئ تكافؤ الفرص التعليمية والتكوينية والعدالة والمساواة، والارتقاء بخدمات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، هذه مطالب آنية ومستعجلة تتردد على ألسن العديد من أرباب الأسر عموما وآباء وأولياء التلاميذ الذين يعانون الفقر والعوز على الخصوص، توازي الإصلاح التعليمي إن لم تكن قبله، وتعتبر مرتكزاته الأساسية الضامنة لنجاحه وتحقيقه الأهداف المنتظرة منه.

 

الجزء الثاني: الطفل/ المتعلم(ة)

من المعلوم أن الطفل / التلميذ(ة) يعتبر المحور الأساسي وقطب الرحى في العملية التربوية والتعليمية، فمن أجله تتشكل الأسر وتنشأ المدارس وتوضع المناهج والمقررات الدراسية، لهذا لابد من رفع التساؤلات التالية:

    ما موقع الطفل ضمن أسرته وبيته؟ وما هي التربية الأبوية والتنشئة الاجتماعية التي يتلقاها؟ وما دور التعليم الأولي؟ وما أثر ظواهر الطلاق واليتم والتشرد والإدمان على تمدرس الأطفال في ظل غياب رعاية حكومية واجتماعية؟ وما أثر مختلف الفضاءات خارج الأسرة والمدرسة على الطفل/ التلميذ؟ وما هي المخاطر المحدقة بالطفل أينما حل وارتحل؟

إنه في اعتقادنا، أن أي إصلاح تعليمي يجب أن يتناول، الاهتمام بالطفل والعناية بأوضاعه التربوية والاجتماعية والدراسية سواء داخل أسرته أو في طريقه من وإلى المؤسسة التعليمية أو داخل هذه المؤسسة نفسها بمرافقها وحجراتها ومكاتبها.

وحتى نسلط الأضواء على موقع الطفل أسريا وتربويا واجتماعيا، حيث يعتبر المحور الأساسي للعملية التربوية والتكوينية، كما يعتبر الاعتناء به إحدى الدعامات والأسس والمرتكزات الحقيقية التي ينهض عليها إصلاح المدرسة المغربية، ونجاعة الخدمات المنتظرة من المنظومة التربوية والتكوينية حتى تضطلع بمهامها، وتؤدي رسالتها السامية تجاه تربية الأجيال المتعاقبة وتكوينهم وإعدادهم للحياة المهنية، إلى جانب خدمات مضامين المقررات الدراسية والبرامج والمناهج، وبموازاة لها، أو في تكامل معها، وتعاون متبادل، أخذا وعطاء.

من هذه المنطلقات فالطفل/ التلميذ(ة) يشكل، دون منازع، النواة الصلبة، وحجر الزاوية الحقيقي لكل إصلاح تعليمي: فمن هو الطفل/ التلميذ(ة)؟ وما وضعياته التربوية والاجتماعية ؟ وما هي المشاكل والصعوبات التي تعترضه؟ وماذا ينتظر من أي إصلاح تعليمي؟ ومتى يساهم في أي إصلاح تعليمي مرتقب؟

سنحاول، ضمن الفقرات الموالية، مناولة هذه الأسئلة وغيرها، مع التركيز على الصعوبات والمشاكل التي تعترض الطفل/ المتعلم(ة) والتي يجب التصدي إليها لضمان نتائج إيجابية لأي إصلاح تعليمي.

من المعلوم أن الأسرة تعتبر اللبنة الأولى لقيام جميع المجتمعات على وجه البسيطة. وكلما كانت الأسرة متماسكة، كلما كان المجتمع قويا ومتلاحما، وكلما كان مؤهلا لأداء رسالته. والأسرة مهد التنشئة الاجتماعية، حيث ينشأ الأطفال بين أحضانها، يكبرون ويترعرعون، وينهلون من التربية ما يؤهلهم لمواجهة متطلبات الحياة الاجتماعية والثقافية. كما تعمل الأسرة على توفير المناخ المناسب للأبناء داخل البيت، من رعاية أبوية وعناية واهتمام، وتسهر على تحلي الأبناء بالسلوك القويم والمعاملات الحسنة، كما تعدهم لمواجهة متطلبات الحياة، حتى يكونوا رجالا ونساء غد صالحين لأنفسهم ولمجتمعهم، ويتحملوا الرسالة المستقبلية ويؤدوها أحسن أداء، حتى تسير الحياة المجتمعية والإنسانية سيرا صحيحا، يضمن الأمن والراحة والهدوء والاستمرار ويحافظ على حسن الأخلاق والمعاملات.

إنه لا أحد يجادل في تأثر التربية الأبوية بالبيئة الثقافية والاجتماعية الممتدة خارج البيت، وبالتربية التي تلقاها الأبوان وخبراتهما السابقة المتراكمة عبر السنوات حسب اهتماماتهما وتجاربهما في الحياة وقناعتهما بما هو سائد في الوسط القريب منهما ، في إطار تفاعل مجموعة من العوامل النفسية والعاطفية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمهنية. 

فما هي الظواهر والمعيقات التربوية والاجتماعية التي تعترض سبيل الطفل/التلميذ(ة) وتؤثر في حياته الشخصية  ومساره التعليمي أو تقف حجر عثرة أمام تمدرسه واستفادته من الخدمات التعليمية؟

سنحاول مناولة هذه الظواهر والمعيقات مبينين أدوار مختلف المؤسسات تجاه الأطفال لضمان تمدرسهم ولإنجاح أي إصلاح تعليمي وتؤدي المدرسة أدوارها على أحسن وجه، وذلك ضمن الفقرات التالية:

 1- الطلاق:

  « إن أبغض الحلال عند الله الطلاق ». والطلاق انفصال الزوجين عن بعضهما وفق أحكام الشريعة الإسلامية، لكن مخلفات الطلاق ثقيلة جدا، حيث من أكبر ضحاياه الأطفال، وخصوصا أطفال الأسر المعوزة التي تعاني الفقر والتهميش والأمراض والبطالة، وما أكثرها.

والطلاق يحطم نفسية كل من الزوج والزوجة، ومن آثاره السلبية المباشرة تشريد الأطفال، حيث الأم/الحاضن، المعوزة، غالبا ما لا تمتلك القدرة  المادية والمعنوية  لرعاية أبنائها وتوفير لهم الحاجيات الأساسية، إذ غالبا ما لا تفي النفقة بجميع الأغراض والمتطلبات من مسكن وأكل وملبس وتطبيب، ما ينعكس مباشرة على حياة الأطفال وتمدرسهم، ويؤدي بهم إلى الانقطاع عن الدراسة تحت وطأة الضياع وتكلفة الدراسة من كتب ومستلزمات وتنقل.

وعلى العموم فغياب الحنان الأبوي، جراء الطلاق، يؤثر سلبا على الأطفال، حيث يؤدي إلى تسيب الأخلاق والانحراف والتعاطي للمخدرات والإدمان، تحت شدة الشعور بالخوف والحزن والغضب المزمن، الأمر الذي يستحيل معه الالتحاق بالمدرسة أو متابعة الدراسة إلى مستويات عليا، ما يستوجب تدخلات عاجلة للسلطات الحكومية والمؤسسات الاجتماعية لإنقاذ أطفال الزوجين المطلقين من براثن الضياع والانحلال الخلقي والإهمال لضمان تمدرسهم ومتابعتهم الدراسة، حتى يحقق أي إصلاح تعليمي النتائج المنتظرة منه.

 2- اليتم:

 « كل نفس ذائقة الموت ». يعتبر اليتم حالة فقدان أحد الأبوين أو هما معا، ليبقى الطفل أو الأطفال اليتامى محرومين، خصوصا صغار السن،  من الحنان والعطف والرعاية الأبوية. وأشد وطأة اليتم، فقدان الأم، حيث حنانها وعطفها ورعايتها لا يمكن أن تعوض، ولا يمكن أن يحل محلها أي شخص آخر.

وفي غياب الخدمات الاجتماعية الموجهة لمساعدة اليتامي، خصوصا أبناء الأسر المعوزة، يجدون أنفسهم، عرضة للضياع والتسكع والاستغلال بكل أشكاله: المادي والمعنوي وعلى جميع الأصعدة، موجهين جهودهم نحو الحصول على  لقمة عيش وملبس ومسكن يقيهم حر الصيف وقر الشتاء، متخلين، في سبيل العيش، عن التمدرس ومنقطعين عن الدراسة، ليسهموا في تضخيم نسب الجهل والأمية والفقر والبطالة، معرضين للأمراض والموبقات وكل الآفات.

 3- التشرد:

يعتبر التشرد حالة حياة الفرد دون مسكن. أما أكثر حالات التشرد مأسوية الأطفال، تحت عدة مسميات، منهم صحايا الطلاق واليتامي ومجهولو النسب والمتخلى عنهم ومغادرو بيت الأسرة والمغرر بهم لأسباب مختلفة. والأطفال المتشردون معرضون لكل أشكال العنف والاستغلال، كما أنهم هم الأكثر عرضة للانحلال الخلقي وآثار الإدمان وتناول المخدرات وتعاطي الفساد والإقبال على التسول وارتكاب جرائم خطرة، الأمر الذي يحول دون تمدرسهم في غياب رعاية المؤسسات الحكومية والإصلاحية والخيرية والجمعوية، والذي لن يجدي نفعا في أي إصلاح تعليمي، ما دامت لم توجه أي جهود نحو إنقاذ أطفال كثر من براثن التشرد والتسول والإهمال.

 4- الإدمان:

يعتبر الإدمان حالة اضطراب سلوكي، ناتج عن تكرار فرد لفعل غالبا ضار بصحته النفسية والجسمية، ومؤد إلى اختلال توازنه العقلي واختلال وظائف مختلف أعضائه الحس-حركية والجسمية.

وتطال ظاهرة الإدمان والتدخين وتناول المخدرات والكحول والقيام بأفعال ضارة  ممارسة وسلوكا وأخلاقا، الأطفال صغار السن والقاصرين، خصوصا منهم الجانحين، وغير المراقبين من طرف أبويهم أو أولياء أمورهم، واليتامى وضحايا الطلاق والمشردين والمتخلى عنهم.   

إن الأطفال المدمنين منهم ضحايا الطلاق، والمشردون، والمتخلى عنهم، و… هم أبناء المجتمع الذي عليه ألا يظلمهم، كما عليه أن يتحمل مسؤوليته تامة تجاههم، حكومة ومؤسسات أمنية ومدنية وجمعوية وخيرية، حتى يلتحقوا بصفوف المتمدرسين ويسايروا دراستهم كأطفال عاديين دون مركب نقص قد يعصف بحياتهم ويزج بهم في بؤر الانحلال والجريمة وفساد الأخلاق.

إن علاج الأطفال الذين سقطوا في شرك الإدمان واجب وطني، كما أن حماية جميع الأطفال من الارتماء في أحضان الموبقات والفساد والإدمان يعتبر مسئولية الجميع. إن انتشار أشخاص في أبواب المدارس ومحيطها يبيعون السجائر بالتقسيط يسهمون في انحراف الأطفال     

5- الذعارة والشذوذ:

تنتشر حتما عن ظواهر الطلاق واليتم والتشرد والإدمان و…. ظاهرة أحط  وأخطر، تتجلى، وكما تشاهد وتتناقلها مختلف وسائل الإعلام، في ظاهرة الذعارة والشذوذ التي اخترقت، ولعدة عوامل، صغارا وكبارا، ليبقى أكبر ضحاياها الأطفال، في غياب المراقبة والضبط، ما يترتب عنه، انتشار العدوى بالمؤسسات التعليمية ومغادرة التلاميذ الأسلاك الدراسية، والانقطاع عن الدراسة، وتعزيز صفوف المنحرفين والعاطلين والمجرمين. لذا فمحاربة هذه الظواهر وغيرها أساس أي إصلاح تعليمي، واستمرارها يؤدي إلى فشل أي إصلاح تعليمي كان.

 6- عدم توفر خدمات التعليم الأولي:

 يعتبر التعليم الأولي أول طور تربوي ما قبل مدرسي في حياة الطفل التعليمية، تمهيدا لإلحاقه بالقسم الأول من التعليم الابتدائي. وتتم خدمات التعليم الأولي بعدة مؤسسات تختلف بنيات ومناهج، فمنها حجرات خاصة ببعض المدارس الابتدائية العمومية، ورياض الأطفال والكتاتيب القرآنية، التي تعاني مجموعة اختلالات من قبيل: محدودية العرض وانحصاره في التعليم الخصوصي وبالمدن الكبرى، وخصوصا بالأحياء الراقية وبعض الأحياء الشعبية، ونقص في البنيات التحتية والتجهيزات الضرورية وخصاص في الموارد البشرية وضعف تأهيلهم المهني، وتباين المناهج الدراسية، وهزالة أو غياب خدمات التعليم الأولي بالوسط القروي، ما يؤدي بالأطفال إلى صعوبة الانضباط والاندماج في الساكنة المدرسية ومجموعة الفصل الدراسي، وصعوبة المسايرة جراء الفوارق التربوية والمعرفية الشاسعة بين التلاميذ، حيث منهم من تلقى الخدمات التربوية الأولية ومنهم من لم يسبق له أن ولج لا روضا للأطفال ولا كتابا ولا « جامعا » خصوصا في الأحياء الهامشية والبوادي. ما يشكل عوائق نفسية وتربوية ومدرسية تحول دون السير العادي للعملية التربوية، وما يؤدي إلى الهدر المدرسي وضياع سنوات تمدرس كثيرة وهدر طاقات مادية وبشرية دون إنتاج ملموس. لهذا يبدو تعميم طور التعليم الأولي من أولويات وأهم مرتكزات أي صلاح تعليمي، يراد به تطوير منظومة التربية والتكوين والسير بها قدما نحو الأفضل.

 7- بعد المدرسة وعدم توفر النقل المدرسي:

 كثيرة هي المدارس البعيدة عن محال سكنى التلاميذ، وقليلة هي المدارس الجماعاتية التي تعتبر الحل الأنجع، إذا ما توافرت الشروط المطلوبة، لضمان تمدرس الأطفال ومتابعة دراستهم، خصوصا في المناطق النائية والجبال، حيث المسالك وعرة والمياه جارفة والفيضانات مباغتة وعدم وجود قناطر، حيث لا جدوى من دراجات لا نارية ولا هوائية تلحق أضرارا مادية ونفسية بالتلاميذ في ظل غياب طرق غير معبدة، وغياب وسائل النقل مدرسيا كان أم عموميا.

إن أي إصلاح تعليمي لم ينبن على شق الطرق المعبدة وإحداث المؤسسات التعليمية الجماعاتية، بالوسط القروي، لن يؤتي أكلا ولن يجدي نفعا.

 8- أثر البيئة والفضاءات الموجودة بين الأسرة والمدرسة على الطفل/المتعلم(ة):

 بمجرد تخطي التلميذ(ة) عتبة منزله أو باب مدرسته، يرتمي مباشرة، أحب أم أبى، في أحضان بيئة وأماكن وفضاءات متعددة ومختلفة، يجهل، غالبا، ما تخفيه وما قد تمنحه إياه: فمرة يجد نفسه وسط فضاءات مفتوحة وساحات شاسعة تعج بالبشر، منهم الراجلون المشاة والمهرولون، ومنهم الواقفون والجالسون، ومنهم الأسوياء والمنحرفون، ومنهم الراكبون عربات وسيارات وشاحنات أو غيرها، يصرخون، تتعالى أصواتهم، يتلفظون بكلام يحز في النفوس. ومرات يقطع مسافات، دون شعور منه ودون رغبته، في الشوارع والأزقة والدروب، على الرصيف، أو غالبا ما يزدحم أو يتسلل بين السيارات، تحت وطأة المنبهات الصاخبة والصراخ المصم للآذان. ومرات أخرى يضطر، كرها، إلى عبور فضاءات أسواق ومحلات تجارية متنوعة السلع والمعروضات المغرية، راكضا من هنا إلى هناك، محاولا التواري عن أنظار مرتادي دور الملاهي والمقاهي الذين يحملقون دون كلل ولا ملل، ولا يتوانون في التلفظ بأحط المفردات على مرآى ومسمع المارة، الذين يشمئزون وتقشعر نفوسهم دون أن ينبسوا ببنت شفة.  ومرات، تقوده وطأة التعب والضغط النفسي إلى حدائق وملاعب رياضة جماعية أو فردية، ليندم وبسرعة هائلة على حلوله بها من شدة المتناقضات بين ما يعاينه ويشاهده، وبين ما تلقاه عن أسرته ومدرسته من تربية سوية وسلوك قويم. أما التلاميذ مرتادو وسائل النقل العمومي، فينضاف إلى همومهم التدافع والركض والتسارع والجري والملاسنة والمناقرة وسط الازدحام اللامتناهي.

9. الأخطار المحدقة بالطفل/المتعلم(ة):

فما هي الأخطار المحدقة بالطفل/ التلميذ(ة) التي يعانيها يوميا ويعيشها وقد تؤثر على ارتياده المدرسة وتعيق تمدرسه؟

حيث، في اعتقادنا، أن أي إصلاح تعليمي يتناول، فقط، بالمعالجة والدرس والتحليل البرامج والمناهج والمقررات الدراسية والكتب المدرسية، ويرفع شعارات، ويقدم إنشاءات شمولية وفضفاضة، لن يجدي نفعا، ولن يتجاوب مع الغايات المرسومة، ولن يحقق الأهداف المسطرة، ما دام لم تصاحبه، أو على الأصح، لم يسبقه اهتمام وعناية بالأوضاع التربوية والاجتماعية والدراسية للطفل/ التلميذ(ة) سواء داخل أسرته أو في طريقه من وإلى المؤسسة التعليمية أو داخل هذه المؤسسة نفسها بمرافقها وحجراتها ومكاتبها، أو بالأماكن العمومية.

وحتى نجيب قدر الإمكان على أسئلة الإشكالية المطروحة، نعرض، واقع الطفل/ التلميذ(ة) ووضعيته حيث يعتبر المحور الأساسي للعملية التربوية والتكوينية، كما يعتبر الاعتناء به أسريا واجتماعيا إحدى الدعامات والأسس والمرتكزات الحقيقية التي ينهض عليها الإصلاح التعليمي، ونجاعة الخدمات المنتظرة من المنظومة التربوية والتكوينية حتى تضطلع بمهامها، وتؤدي رسالتها السامية تجاه تربية الأجيال المتعاقبة وتكوينهم وإعدادهم للحياة المهنية، إلى جانب خدمات مضامين المقررات الدراسية والبرامج والمناهج، وبموازاة لها، أو في تكامل معها، ومتبادل، أخذا وعطاء.

من هذه المنطلقات، فالطفل/ التلميذ(ة) يشكل، دون منازع، النواة الصلبة، وحجر الزاوية الحقيقي لكل إصلاح تعليمي: فما هي الأخطار المادية والمعنوية التي تتربص بالطفل/ التلميذ(ة) والتي يجب التصدي إليها ليؤتي أي إصلاح تعليمي أكله حتى يشعر الطفل/ التلميذ(ة) بالأمن والأمان، وينخرط في الإصلاح التعليمي المرتقب، ويسهم إيجابا في العملية التربوية، ويتابع دراسته دون تعثر أو انقطاع أو مغادرته الأسلاك الدراسية؟

سنحاول، ضمن الفقرات الموالية، مناولة هذه الأسئلة وغيرها، مع التركيز على الصعوبات والمشاكل التي تعترض الطفل/ التلميذ(ة) والتي يجب التصدي إليها لضمان نتائج إيجابية لأي إصلاح تعليمي.

في خضم وضعيات متعددة، وتنوع الأوساط والأماكن التي يضطر الطفل/التلميذ(ة)المرور منها بين أسرته ومدرسته أو حين تواجده بالأماكن العمومية، يجد نفسه مكرها لمقاومة أخطار مادية ومعنوية لحظية محدقة به أين ما حل وارتحل، يعاني انعكاساتها وتحز في نفسه، يمكن أن تؤثر على تمدرسه ومساره الدراسي، إن لم يتم التصدي إليها، نعرضها في ما يلي:

1.9. أخطار مادية:

أشخاص كثر يركضون، حمالون، يدفعون عرباتهم أو يجرونها، يمكن في أي لحظة أن تدوس الطفل/ التلميذ(ة)  وتلحق به جروحا وندوبا، تترتب عنها عاهات مستدامة تؤثر في دراسته حاليا، وحياته مستقبليا.

والطفل/ التلميذ(ة) مار بالساحات والفضاءات والأسواق، يعاين في هذه الأمكنة شجارا ونزاعا، وتبادل العنف والضرب والجرح أحيانا، يمكن أن يتعرض، في كل حين، إلى ضربة طائشة، قد تؤدي به جسديا ونفسيا إلى ما لا يحمد عقباه.

سيارات، شاحنات، حافلات، دراجات تهرع في كل الاتجاهات، سائقون متهورون يسوقون  بجنونية، قلقون، متوترون، يعانون أمراضا نفسية تحت ضغط حركة السير التي لا تخضع، أحيانا، لأي نظام. أضواء معطلة، ممرات الراجلين غير موجودة، وإن وجدت فغير محترمة، يمكن أن يكون ضحيتها الطفل/ التلميذ(ة)، الذي يصاب بالدواخ تحت وطأة حركة دائبة، وهو يركض في الطريق يسابق الزمن حتى لا يتأخر عن موعد الدخول إلى البيت ليتجنب توبيخ أبويه له، أو حتى لا يتأخر عن موعد الدراسة، فيتفادى الإجراءات الإدارية، حيث القائمون عليها لا يعلمون واقعه.

أما الملاعب الرياضية، فتعج بمن لا صلة لهم بالرياضة وبالروح الرياضية، يشجعون بحماقة، يصرخون، يسبون، يتبادلون العنف، الذي يمكن أن يكون الطفل/ التلميذ(ة) أحد ضحاياه، فيندم حيث لا ينفع الندم.

أما بالبوادي، فالطفل/ التلميذ(ة) يتحمل يوميا مشاق المسافات الطويلة والمسالك الوعرة، التي يمكن أن يسقط في أحد منعرجاتها، وهو يقاوم الحر أو البرد، وينتبه في كل حين إلى تساقط الأحجار من أعالي الجبال، وأحيانا الأشجار تهوى؛ كما يمكن أن يكون عرضة للمياه الجارفة المباغتة القادمة من وديان على إثر عواصف مطرية أو ثلجية دون سابق إنذار، في غياب قناطر وطرق معبدة. وفي أغلب الأحيان، تفاجئ الأطفال/ التلاميذ قطط أو كلاب ضالة، يمكن أن تلحق بهم الأذى عضا وجرحا، تترتب عنهما تشوهات أو عاهات مستدامة وأحيانا أمراض قاتلة.

وأخطار مادية كثيرة ومتنوعة…..تعود بما لا يحمد عقباه على الطفل/التلميذ(ة) وهو في طريقه ذهابا وإيابا بين أسرته ومدرسته، وعوده لم يشتد، ونضجه لم يكتمل، التي يمكن أن تشكل الأسباب الرئيسية لعدم التحاق الأطفال بالمدرسة أو قد تشكل معيقات حقيقية للانقطاع  التلاميذ عن الدراسة.   

2.9. أخطار معنوية:

 والطفل / التلميذ(ة) لم تتشكل شخصيته بعد ولم تنضج، وهو في ريعان طفولته، وهشاشة بنيته الجسمية والنفسية، حيث لا يزال سريع التأثر، فكيف يزاوج بين تربية المدرسة والأسرة والممارسات اليومية المشينة بالشارع والدرب والزقاق والبيئة خارج المدرسة والأسرة؟

فالكلام الفاحش الذي تتصدى له الأسرة والمدرسة، لا يجد الطفل/التلميذ (ة) بديلا له في البيئة المحيطة بالأسرة والمدرسة، وسط وابل من السب والشتم وأحيانا الضرب والجرح. هذه الممارسات المشينة التي تؤثر، لا محالة، سلبا في نفوس التلاميذ سوف تؤدي بهم إلى تناقضات وتعارضات على مستوى التربية الأسرية والمدرسية، وتدفعهم إلى التشكك في الأدوار التربوية والاجتماعية والثقافية لكل من الأسرة والمدرسة.

فما شعور الطفل/التلميذ(ة) وهو يعاين فعل سرقة ونشل من طرف لص وهو يعتدى على شخص باللكم والضرب وسلبه ممتلكاته، وأحيانا، أمام أعين المارة ومرتادي الطريق؟

وهل يتحمل الطفل / التلميذ(ة) ممارسات لاأخلاقية ناتجة عن فرد متسكع عديم الأخلاق وهو يطارد فتاة أو امرأة ، يجذب أحيانا أطراف ثيابها، وأحيانا أخرى نتفا من شعرها، يحاول إغواءها تارة باللين وأخرى بالشدة والعنف، ينهال عليها قذفا وسبا وشتما وكلاما فاحشا، وأحيانا ضربا، أمام أعين العموم؟

ألا تتقزز نفوس الأطفال/التلاميذ وهم يلمسون أفعال كذب في الأسواق والمتاجر ومحلات البيع والشراء، كما يلمسون ممارسات غش وخداع ومراوغات تكتنف معاملات وتعامل أفراد، كل يحاول تزوير الواقع بطريقة مكره الخاصة؟

وكيف تؤثر ممارسات شاذة على الأطفال / التلاميذ، ناجمة عن أفراد، همهم ارتياد دور الملاهي والمقاهي، فئات اجتماعية غير مؤهلة مهنيا، يقتلون وقتهم الوافر الذي لن ينقضي ولن يموت، يتبادلون كلاما في كلام، أغلب مقاطعه تنم عن فراغ قاتل، وثقافة مهزوزة، يحملقون في المارة بأعين شاردة، يلقون مفردات جارحة دون خجل ولا حياء، تصم الآذان وتشمئز لها النفوس، وهم يرتشفون رحيق سجائر مجهولة الحشوة، ويشربون أدخنة متناثرة حولهم، وأشياء أخرى يشربونها ويتناولونها في عدة أمكنة ومحال؟

وفي أغلب الأوقات، يجد الأطفال/التلاميذ أنفسهم أمام مشاهد مستفزة، فتيات ونساء مشبوهات، واقفات على قارعة الطريق، ينتظرن الذي يأتي أو لن يأتي، يحملقن في وجوه المارة استجداء أو إغواء، يجبن الشوارع والأزقة ذهابا وإيابا في حركات مثيرة، تشد اهتمام المارة، وتثير فضول الأطفال/التلاميذ وتثير فيهم روح التساؤل والمساءلة إلى درجة الشفقة والإشفاق والتأثر غالبا.

أما الأطفال/التلاميذ بالقرى والبوادي فمعاناتهم قاسية، أين ما حلوا وارتحلوا، يستحوذ عليهم الخوف من كل شيء، وينال منهم الاكتئاب مناله، يقطعون مسافات طوالا فرادى وجماعات، يتحسسون نباح الكلاب ومواء القطط وخرير المياه وتساقطات الحجر؛ ففي  أي حالة نفسية يصلون الفصل الدراسي، أو يعودون إلى البيت الأسري؟

وحالات نفسية كثيرة ومتنوعة…..يعيشها التلاميذ وتؤثر فيهم وهم ذاهبون إلى المدرسة أو عائدون إلى أسرهم.       

3.9. انشغالات ألأمهات والآباء:

فما أثر الشارع والدرب والطريق من وإلى المدرسة على الطفل/ التلميذ؟ وما أثر، بشكل عام، البيئة المحيطة بالأسرة والمدرسة على شخصية التلميذ؟ وكيف يمكن تربيته على مواجهة وقائع وأحداث يلاقيها يوميا، قد تعصف بما تبنيه الأسرة والمدرسة من قيم ومبادئ تربوية وأخلاقية وثقافية قويمة؟  وما هي مسئوليات السلطة والمجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية لحماية التلميذ والحفاظ على توازنه التربوي والنفسي والثقافي الأسري والمدرسي؟

لا يختلف اثنان في مناولة الآباء هذه الأسئلة وغيرها، في جميع الأماكن التي يرتادونها، في البيت، في المدرسة، خارج البيت والمدرسة…….من شدة انشغالاتهم واهتمامهم بتربية أبنائهم ومن وطأة البيئة وأجوائها التي أضحت تؤرقهم ليل نهار، خوفا من سقوط فلذات أكبادهم في شرك الانحرافات وكمائن السوء التي تتربص بهم، يوميا، في غدوهم ورواحهم بين الأسرة والمدرسة.

فانطلاقا من موقعنا كأب ومرب ومسئول تربوي، وانطلاقا من الواقع المعيش، ومواكبتنا للمسارات المدرسية والتربوية للتلاميذ، ومعاشرتنا الآباء والأمهات وأولياء التلاميذ في ترددهم على المدرسة، وهم يصرحون ويطرحون مشاكل عويصة تعترض أبناءهم جراء أحداث ووقائع يعانونها، وهم في طريقهم بين أسرهم ومؤسساتهم التعليمية، أو في عدة أماكن عمومية، من ملاعب رياضية وحدائق ومقاهي….وغيرها، نعرض، في مواضيع لاحقة، تفاصيلها وآثارها على تمدرس الأطفال/التلاميذ ومساراتهم الدراسية.

كما تثبت مختلف الدراسات والنظريات التربوية والنفسية أن الطفل كائن مرهف الإحساس، هش التشكيل، سريع الانفعال والتفاعل، وسهل التأثر بما يجري حوله وما يشاهده يوميا،  داخل أسرته وخارجها، أو داخل مدرسته وخارجها أو بالفضاءات والساحات والأماكن العمومية أو في فسحة استجمام وحده أو برفقة والديه أو أحدهما. وهكذا، كثيرا ما يصادف الطفل/التلميذ في بعض الأماكن العمومية بمختلف الحواضر وقفات احتجاجية ومظاهرات، وكثيرا ما يشاهدها، عموما، في الشوارع والأزقة أو أمام مؤسسات عمومية، أو على وسائل الأعلام المرئية منها، وما يصاحبها من إجراءات أمنية، من توفير الظروف للمتظاهرين للتعبير عن مطالبهم، أو تفريقهم سلميا ومنعهم من التجمهر، الأمر الذي يثير فضول الأطفال من أجل معرفة ما يحدث، إما بالاجتهاد اعتمادا على أنفسهم حسب مستويات وعيهم بمحيطهم، أو بفتح مناقشات مع والديهم أو إخوانهم الذين يكبرونهم سنا، لتنطلق عدة تساؤلات قصد فهم أسباب وأهداف تلك المظاهرات والوقفات المتكررة. وقد تزداد التساؤلات حدة لما يتعرفون على نوعية الأشخاص المتظاهرين وموضوع التظاهر، ويبلغ إلى علمهم أنهم طلبة حاملو شواهد عليا ويطالبون بدمجهم في الحياة العملية بعد ما استغرقت مساراتهم الدراسية والتكوينية سنوات كثيرة. إن هذا الوضع يطلق العنان لخيال التلاميذ، فيتراءى لهم، لأول وهلة، أن لا فائدة من الدراسة إذا كانت المدرسة غير ضامنة لحياتهم المهنية، أو كما يردد الراشدون، إذا لم تعد المدرسة غير وظيفية، فيتسرب إلى نفوس التلاميذ، ودون تفكير عميق، الشعور بمواجهتهم نفس المصير لما يكبرون ويحصلون على شواهد جامعية ومهنية. وقد لا يقتنعون بمحاولات الإقناع التي يمارسها الآباء والأطر الإدارية والتربوية، في جميع المناسبات، لتظهر واضحة ردات فعل من شدة الإحباط والتشاؤم من خلال التعبير، أو رفض إنجاز الفروض المنزلية، أو عصيان تجاه تعليمات الأساتذة، وأحيانا، رفض الذهاب إلى المدرسة. وفي إطار التوعية التربوية، وتعريف التلاميذ بذواتهم وواقعهم ومحيطهم المدرسي والاقتصادي، يتناول الأطر الإدارية والتربوية والمستشار في التوجيه التربوي، مرارا، هذه الإشكالية الشائكة، من أجل تحفيز التلاميذ على الاهتمام والبذل والعطاء وتغيير الصور النمطية الجاهزة التي يحملونها حول المدرسة ومصير الشواهد العليا، إلا أن هذه المداخلات والنصائح قلما تجد آذانا صاغية لدى التلاميذ، ليقتنع بعضهم، ويستمر البعض يعاني وطأة الحيرة والشكوك، فيصيبهم الملل وينال منهم الإحباط من كثرة مشاهدتهم أو معايشتهم فعلا ظواهر محبطة، سواء في الساحات العمومية، أو في الشوارع والمقاهي، أو لدى أسرهم وعائلاتهم، التي لا تخلو من عاطل واحد على الأقل شارك في الاحتجاجات أم لم يشارك. إن نسبة بطالة حاملي الشواهد العليا لا تفتأ ترتفع سنة بعد أخرى، في ظل ضعف الإدماج في الحياة العملية، وضعف مؤشر النمو الاقتصادي، حيث لا تستوعب مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية اليد العاملة المؤهلة والحاملة للشواهد الجامعية والمهنية، وليظهر جليا اختلال الثلاثية المشهورة: التربية – التكوين – التشغيل، التي تفضي إلى تراكم اختلال التوازن بين العرض والطلب، فيعيش، عموما، وفي حضن أغلب الأسر طالب حاصل على شهادة عليا، عالة على أبويه يعاني البطالة أمام أعين إخوانه الذين يتابعون دراستهم، أو أمام أعين اطفال عائلاتهم، الذين يتسرب الإحباط إلى نفوسهم ويغرقون في التفكير في آفاق مستقبلية مجهولة، رغم الشواهد والدبلومات التي قد يحصلون عليها، إن لم تستحوذ عليهم الرؤية السوداوية للمستقبل، ويغلب عليهم التشاؤم إلى حد النفور من الدراسة ومغادرة الأسلاك الدراسية.  (يتبع)

الجزء الثالث:  أحداث وظواهر تؤثر في الأطفال

ما هي الأحداث والظواهر التي يعيشها الطفل/ التلميذ(ة) والتي تؤثر فيه نفسيا وتربويا ومدرسيا واجتماعيا، والتي قد تشكل عوامل إحباط تصرفه عن التمدرس والإنتاج الدراسي وقد تؤدي به إلى مغادرة الأسلاك الدراسية والانقطاع عن الدراسة؟

سنحاول مناولة هذه الإشكالية، مع التركيز على عدة ظواهر وأحداث معيشة يوميا يعاني الطفل/ التلميذ(ة) وطأتها، التي يجب التصدي إليها ليؤتي أي إصلاح تعليمي أكله حتى يشعر الطفل/ التلميذ(ة) بالأمن والأمان، والاستقرار النفسي ويتمتع بحقوقه كاملة لينخرط في الإصلاح التعليمي المرتقب، ويسهم إيجابا في العملية التربوية، ويتابع دراسته دون تعثر أو انقطاع أو مغادرته الأسلاك الدراسية.

لقد أثبتت مختلف الدراسات والنظريات التربوية والنفسية أن الطفل كائن مرهف الإحساس، هش التشكيل، سريع الانفعال والتفاعل، وسهل التأثر بما يجري حوله وما يشاهده يوميا،  داخل أسرته وخارجها، أو داخل مدرسته وخارجها أو بالفضاءات والساحات والأماكن العمومية أو في فسحة استجمام وحده أو برفقة والديه أو أحدهما.

وهكذا، كثيرا ما يصادف الطفل/التلميذ، في عدة أماكن ، من شوارع وأزقة ومقاهي وساحات عمومية وحدائق وغيرها، يصادف أو يسمع كلاما بذيئا ومنحطا، أو تقع عيناه على مشاهد مخلة بالحياء العمومي، خصوصا ببعض الحدائق، أو الأماكن التي يرتادها أشخاص، ذكورا وإناثا، عديمو الأخلاق، تصدر عنهم أفعال، أمام الملأ، يندى لها الجبين، وتحز في نفوس الأطفال الذين لم يسمعوا ولم يشاهدوا مثلها لا ببيوتهم ولا بمدارسهم، والتي يحاربها الآباء والأمهات والأطر الإدارية والتربوية بالمؤسسات التعليمية.

إن هذه الأوضاع المشينة فعلا وتعاملا، والمنحطة معاملات، والمخالفة تماما لما يتربى عليه الأطفال وما يتعلمونه من خلال الكتب المدرسية والمقررات،  تحرجهم (الأطفال) لا محالة، وتدفعهم إلى التفكير ومراجعة مختلف الوضعيات التي يعيشونها، أسريا ومدرسيا، حيث يشعرون أنهم يتأرجحون بين خطابين  متناقضين: خطاب تربوي بالوسط الأسري/المدرسي، من جهة، وخطاب فظ بالمحيط الأسري/المدرسي وبالأماكن العمومية، من جهة أخرى، الشيء الذي قد يجعلهم يشككون في محتوى الممارسات التربوية الأسرية والمدرسية، والذي ينشأ عنه صدام الخطاب وصعوبة التواصل بين الأطفال/التلاميذ وآبائهم وأولياء أمورهم، من ناحية، وبين الأطفال/التلاميذ ومدرسيهم من ناحية أخرى. هذه الوضعية يتم تفسيرها غالبا بالعصيان، وعدم الانصياع لمبادئ التربية الأبوية والمدرسية.

إن كثرة هذه الممارسات المشينة في عدة أماكن وتوالي هذه المشاهد المتكررة يوميا، قد تؤثر سلبا في الصحة النفسية للأطفال وتؤدي بهم إلى اضطرابات ومشاكل نفسية، فينتابهم الضجر جراء التناقض المعيش، وتتناسل تساؤلاتهم، وتتملكهم الحيرة والتردد بين أشكال مواجهة مختلف الوضعيات وكيفية التعامل معها حفاظا على علاقاتهم مع آبائهم ومدرسيهم الذين غالبا ما يتدخلون لتعديل السلوكات الطارئة.

وقد تخطئ هذه التدخلات مسارها، وقد لا تحقق الأهداف المنتظرة منها، فيتزايد شعور الأطفال بعدم الطمأنينة والاستقرار النفسي، جراء تناقضات صارخة مؤثرة سلبا في تنشئتهم الاجتماعية، حيث يجدون أنفسهم يتأرجحون بين ما يحظره الأبوان والمدرسة وما يبيحه الشارع والأماكن العمومية، من أفعال منحطة وكلام بذيء وسباب وشتائم ومجون وإباحية دون مراقب ولا رادع، ومن ثم،  ومن شدة التأثر، ينحون، لا محالة، منحى الانحلال الخلقي والانحراف، ما يؤدي إلى تنامي سلوكات العنف والعدوانية، اعتقادا منهم أنهم يسلكون المسلك القويم، اعتبارا لما يشاهدونه ويعيشونه في المحيط الاجتماعي.

قد تتعقد هذه المواقف وتتعارض وتزداد وضعية الأطفال تعقدا، فتتملكهم رغبة جامحة لإثبات الذات عبر ممارسات متنوعة: إقدامهم على التدخين وتناول المخدرات وارتياد الأماكن الموبوءة والمتعفنة أخلاقا، ما يترتب عنه معاشرات مشبوهة وأفعال محظورة، من سرقة ومتاجرة محرمة وغير ذلك من أفعال تعرضهم إلى عقوبات متباينة.

فما فائدة التربية الأسرية والمدرسية إذا كانت البيئة الاجتماعية موبوءة وتنسف كل ما يتربى عليه الأطفال؟ وأي تنشئة اجتماعية في ظل عدم ترسيخ التربية القويمة والقيم السامية؟

إن عدم التكامل بين الأساليب التربوية الأسرية والمدرسية والاجتماعية قد ينتج عنه عكس الأهداف والغايات المتوخاة من منظومة التربية والتكوين من تربية سوية وأخلاق حسنة وقيم سامية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كيف يمكن للمؤسسة التربوية إعداد مواطن صالح ومخلص في ظل بيئة اجتماعية تتناقض فعلا وممارسة والأهداف والغايات المسطرة للمنظومة التربوية والتكوينية؟ حيث تأثر الأطفال بممارسات مشينة، في غياب ضبط ومراقبة، قد يؤثر سلبا في تفاعلاتهم داخل محيطهم الأسري والمدرسي، وقد يؤدي إلى الانحراف والعصيان فينفرون الفصل الدراسي ويتمردون على آبائهم ومدرسيهم،  ما يؤدي بهم إلى مغادرة الأسلاك الدراسية والانقطاع عن الدراسة.

الجزء الرابع: واقع المؤسسات المجتمعية

حيث إن أي متتبع أو متفحص لهذه الإصلاحات، يلمس بكل بساطة مجموعة من الاختلالات، أدت إلى فشل هذه الإصلاحات، يمكن إيجازها في النقاط التالية:

·          تغييب وتهميش القوى الاجتماعية ومختلف المكونات والقطاعات والمؤسسات والهيئات التي تنهض عليها سياسة تدبير شؤون الدولة؛

·          فضفضة وعدم إجرائية صياغة التدابير والمقترحات الإصلاحية التي تغرق في جزئيات وشكليات لا تمس جوهر وواقع الحاجيات الأساسية والضرورية للرقي بمنظومة التربية والتكوين ونهضة المجتمع وتقدمه؛

·          عدم التركيز على الدعامات والمرتكزات الحقيقية التي تنهض عليها المنظومة التربوية والتكوينية وترتبط بها بشكل عضوي ومباشر؛

فما هي الدعامات والأسس والمرتكزات الحقيقية لإصلاح تعليمي هادف وناجع يروم نهضة المجتمع ورقيه في ارتباطه بالمؤسسات المجتمعية برمتها الاجتماعية، منها والثقافية والاقتصادية والقضائية والأمنية والخدماتية والرياضية…. وغيرها؟

وحتى نجيب قدر الإمكان على سؤال هذه الإشكالية، سوف نعرض، هذه المؤسسات المحتضنة للدعامات والأسس والمرتكزات الحقيقية لإصلاح التعليم، والخدمات المنتظرة منها والأدوار الحقيقية الموكولة إليها، مع مراعاة أهميتها البالغة في المجتمع، وتحديد العناية الفائقة التي يجب إيلاؤها إياها، حتى تضطلع بمهامها، وتؤدي رسالتها السامية تجاه تربية الأجيال المتعاقبة وتكوينهم وإعدادهم للحياة الاجتماعية والمهنية، إلى جانب خدمات مضامين المقررات الدراسية والبرامج والمناهج، وبموازاة لها، أو في تكامل معها، وتعاون متبادل، أخذا وعطاء.

هذه المؤسسات المجتمعية التي ينهض عليها المجتمع برمته، تشكل، في اعتقادنا، النواة الصلبة، وحجر الزاوية الحقيقي لكل إصلاح تعليمي، المتمثلة، إضافة إلى المؤسسة الأسرية والمؤسسة والتعليمية والتكوينية، في  المؤسسات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والقضائية والأمنية….. وغيرها، التي نحاول مناولتها، قدر الإمكان، لإبراز ارتباطها الجدلي والعضوي بين إصلاح واقعها الوظيفي والخدماتي، والإصلاح التعليمي والتكويني، حتى تضطلع بالأدوار المنتظرة منها للنهوض بالمجال التربوي والتعليمي  والتكويني، وتساهم في الارتقاء بالعملية التربوية والتكوينية إلى أفضل المستويات. 

من المعلوم أن التربية مجموعة أنشطة أو عمليات اجتماعية هادفة، تستمد مادتها من المجتمع الذي توجد فيه، وبمختلف مؤسساته المجتمعية، إذ أنها رهينة المجتمع برمته، وأنها تستمر مع الإنسان منذ أن يولد حتى يموت. لذلك فقد كان من أهم وظائف التربية، التربية على المواطنة وإعداد الإنسان للحياة، والعمل على تحقيق تفاعله وتكيفه المطلوب مع مجتمعه الذي يعيش فيه فيؤثر فيه ويتأثر به، فإما ينمو ويترعرع متشبعا بالقيم الفاضلة والأخلاق الحسنة، وإما يعاني اختلالات وسوء تربية تنعكس، سلبا، على شخصه وبالتالي على مجتعه.

ولأن هذا التأثر والتأثير لا يمكن أن يحصلا إلا من خلال المؤسسات المجتمعية المتنوعة، التي تتولى مهمة تربية الإنسان وتنظيم علاقته بغيره داخل المجتمع، وتعمل على تحقيق انسجامه المطلوب مع محيطه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وغيره، فإن العملية التربوية مستمرة ومواكبة للإنسان، وتتم من خلال مختلف المؤسسات المجتمعية التي تسهر على تربية الفرد وحمايته وتأمين حياته من أجل انسجامه وتكيفه مع محيطه وبيئته، وتنمية وعيه الإيجابي وإعداده للحياة الاجتماعية والمهنية . وتعد هذه المؤسسات المجتمعية دعامات أساسية لحماية الفرد  وتربيته التربية السليمة  حتى ينمو منفتحا وواعيا بحقوقه وواجباته.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن تربية الإنسان لا تكون سليمة إلا إذا سلمت هذه المؤسسات المجتمعية من كل اختلالات وشوائب قد تعصف بتركيبتها، وتشل الأدوار والمسؤوليات الحقيقية الملقاة على عاتقها.
وهنا يمكن تعريف المؤسسات المجتمعية بأنها تلك البيئات أو الأوساط التي تخدم الإنسان وتساعد على النمو الشامل لمختلف جوانب شخصيته، والتفاعل بإيجابية مع محيطه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي ...
ومن أبرز وأهم هذه المؤسسات التربوية في المجتمع، كما أسلفت الإشارة، الأسرة والمدرسة وجماعة الرفاق إلى جانب وسائل الإعلام والأندية ونحوها من المؤسسات المختلفة الاجتماعية والخدماتية والصناعية والسياسية وغيرها، هذه المؤسسات على الصعيد المجتمعي، تؤثر، لا محالة، في تربية الإنسان عموما والطفل على الخصوص، سواء كان هذا التأثير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .

إن هذا يعني بجلاء أن تربية الإنسان تتم، إضافة إلى المؤسسة التعليمية، من خلال عدة مؤسسات أو وسائط اجتماعية مختلفة، منها الخدماتية والأمنية والجمعوية والقضائية والرياضية والمدنية والسياسية، وغيرها كثير، تختلف وتتنوع باختلاف أشكالها وأنماطها وخصوصياتها ووظائفها بالمجتمع.

حيث لا توجد حدود فاصلة بين منظومة التربية والتكوين والمؤسسات المجتمعية السالفة الذكر، فإن هذه المؤسسات تعتبر رافعة التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية وتأهيل الشباب للانخراط في الحياة العملية والتنمية البشرية والخيار الديموقراطي للمجتع.

فما هو واقع هذه المؤسسات؟ وما هي الشروط اللازمة حتى تضطلع بأدوارها على أحسن وجه وتسهم في تربية وتعليم الناشئة ودمج الشباب في النسيج الاجتماعي وانخراطهم في مشاريع التنمية البشرية والخيار الديموقراطي للبلاد؟

لا أحد ينكر أنه تطالعنا يوميا وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة والإلكترونية بوصلات إخبارية مثيرة حول الواقع الاجتماعي والخدماتي لأغلب المؤسسات المجتمعية، إذ تشهد اختلالات التسيير على الصعيدين الإداري والمالي نتيجة التبذير وسوء التدبير وغياب الحكامة الجيدة والديموقراطية، حيث تتخبط في كثير من الخروقات من محسوبية وزبونية وكثير من مظاهر ظواهر مشينة للتعامل الإداري من تماطل وتلكؤ وتسويف وهضم حقوق مستحقة والدوس على الواجب الوطني من تهاون وإهمال وتغيب بدون مبرر ورفض أداء ضرائب لخزينة الدولة، والتهرب من المحاسبة وتقديم حسابات للجهات المختصة.

وقد حظيت هذه الاختلالات والخروقات باهتمام الباحثين في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون والاجتماع وعلم السياسة، لسبر أغوار هذه الظواهر وتحديد أسبابها وآثارها اليومية على المواطن.

إن الطفل/الفرد/الإنسان كائن مرهف الإحساس، حيث منذ أن تطأ قدماه المؤسسة التربوية والتكوينية، تلميذا يافعا فمراهقا فطالبا شابا فأبا أو أما، وهو يشاهد بأم عينيه ويعيش متناقضات صارخة بين تربيته بأسرته وتربيته بمدرسته وظواهر مشينة يلمسها يوميا بالمجتمع تمس شخصه وتؤثر سلبا في كيانه ووجوده وتخدش عواطفه ووجدانه، سواء ببيئته من خلال أحداث أسرية، أو بمحيطه بدء بالشارع الذي لم يعد مدرسة، بل أصبح يعج بالموبقات ومظاهر الانحلال والانحراف والفجور وتردي الأخلاق، حتى تنتاب التلميذ شكوك في ما يتربى عليه ببيته ومدرسته من كثرة التأثر بما يجري بمحيطه وما يشاهده من سلوكات غير سوية، تخالف مبادئ التربية الأسرية والمدرسية، بمختلف المؤسسات المجتمعية التي ينهض عليها تدبير شؤون المجتمع.

وقد تشاء صدف، أن يعيش الآباء والأمهات، رفقة أبنائهم، أحداثا مشينة من نزاعات ومشادات واصطدامات، أينما حلوا وارتحلوا، إما للترفيه عن أنفسهم بحدائق عمومية، أو بملاعب رياضية، إن وجدت، أو لقضاء مآربهم، اجتماعية كانت أو اقتصادية أو ثقافية أو إدارية أو قضائية وغيرها، حيث تتشكل لديهم مواقف محبطة، حين ينهال على أسماعهم كلام فاحش في كل مكان وزمان، ويلمسون معاملات رديئة تخالف مبادئ التربية والقيم التي يتربى عليها الأطفال، وتتناولها الكتب المدرسية ويمتحن فيها التلاميذ والطلبة في مراحل عدة من مساراتهم الدراسية، إذ يعيشون حالة سلوكات وتصرفات سيئة، أوحالة تماطل للحصول على وثيقة أو خدمة بإدارة مؤسسة معينة، أو حالة تفاضل وزبونية ومحسوبية تمارس عليهم، أو حالة غش وكذب وتزييف لواقع يعيشونه، أو حالة ظلم وهضم حقوقهم جهرا وعلانية أو التفوه بكلام بذيء وفاحش يندى له الجبين، أو حالة فجور وسفور تخل بالحياء العمومي وتخدش الأحاسيس والأخلاق.

وهكذا يعيش التلاميذ والطلبة وأولياء أمورهم أحداثا ومعاملات صادمة في ميادين شتى من الحياة الاجتماعية، حيث يمكن أن يروا بأعينهم، وبشكل متكرر، إغلاق معامل ومقاولات ووحدات صناعية أو ضيعات فلاحية، وتسريح عمالها وهضم حقوقهم واستحقاقاتهم. كما يمكن أن يعيشوا حالات عنف تمارس عليهم بمؤسسة إدارية أو أمنية أو قضائية وغيرها، متمثلة في تجاوز الصلاحيات واستغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة ومخالفة المقتضيات الدستورية والقانونية، كما يمكن أن يعيشوا أحداثا سيئة بمؤسسات صحية وثقافية ورياضية وغيرها تؤثر سلبا وتحز في النفوس.

لقد أخذت المدرسة تجد نفسها منعزلة ووحيدة تقاوم الآفات والموبقات وكل أنواع الاختلالات، وتواجه تيارات عاتية تعصف بمختلف خدماتها ووظائفها، التي تتبخر في حينها، دون أن تترك بصماتها التربوية وآثار أدوارها التوجيهية والإرشادية، حيث إجمالا وأخيرا وليس آخرا، إنه  » شتان بين الهدم والبناء »، وعليه، يجب إرساء إصلاحات متكاملة ومتوازية بين جميع مكونات المجتمع حتى تقوم مختلف المؤسسات بالأدوار المنوطة بها وتحقق المدرسة النتائج المنتظرة منها.

الجزء الخامس: المؤسسة التعليمية والتكوينية

حيث إن أي متتبع أو متفحص لهذه الإصلاحات، يلمس بكل بساطة مجموعة من الاختلالات، تطال المؤسسات التي تنهض عليها سياسة تدبير شؤون الدولة، والتي تعتبر الأسس والمرتكزات الحقيقة للإصلاح التعليمي ومنها، إضافة إلى المؤسسة الأسرية، المؤسسة التعليمية والتكوينية؛

  فما هي الظروف والشروط المادية والمعنوية التي تتوفر بالمؤسسة التعليمية والتكوينية لضمان مدرسة وتكوين التلاميذ والطلبة؟ وكيف تسهم المؤسسة التعليمية والتكوينية في الإصلاح التعليمي؟ ومتى تسهم المؤسسة التعليمية والتكوينية في الإصلاح التعليمي بالشكل المطلوب من أجل تأهيل الأطفال والشباب للاندماج في الحياة العملية والنسيج الاجتماعي؟.

وحتى نجيب قدر الإمكان على هذا السؤال المحوري للإشكالية المطروحة، سوف نعرض، واقع المؤسسة التعليمية والتكوينية المحتضنة للدعامات والأسس والمرتكزات الحقيقية لإصلاح التعليم والتكوين، والخدمات المنتظرة منها والأدوار الحقيقية الموكولة إليها، مع مراعاة أهميتها البالغة في المجتمع، وتحديد العناية الفائقة التي يجب إيلاؤها إياها، حتى تضطلع بمهامها، وتؤدي رسالتها السامية تجاه تربية الأجيال المتعاقبة وتكوينهم وإعدادهم للحياة المهنية، إلى جانب خدمات مضامين المقررات الدراسية والبرامج والمناهج، وبموازاة لها، أو في تكامل معها، وتعاون متبادل، أخذا وعطاء.

إن المؤسسة التعليمية والتكوينية، موقعا جغرافيا، بناية وبنية تحتية، وتجهيزات ومرافق وشروطا وظروفا وموارد بشرية ومعاملات، تشكل، النواة الصلبة، وحجر الزاوية الحقيقي لكل إصلاح تعليمي وتكويني:

فما هي المؤسسة التعليمية والتكوينية؟ وكيف تشكل مرتكزات أساسية للإصلاح التعليمي والتكويني؟ وما هي الأدوار المنوطة بها للنهوض بأي إصلاح تعليمي؟  

تعتبر المؤسسة التعليمية والتكوينية، بالتعليم الابتدائي والثانوي، فضاء تربويا واجتماعيا يعنى بتربية وتعليم التلاميذ وتنشئتهم وإعدادهم للحياة. كما تعتبر، بسلك التعليم الجامعي والتكويني، فضاء تعليميا وتكونيا، يعنى بتعليم الطلبة وتكوينهم وإعدادهم للاندماج في الحياة العملية والمهنية والاجتماعية. وتصنف المؤسسة التعليمية والتكوينية من حيث موقعها الجغرافي إلى حضرية وقروية،  ومن حيث نوعها إلى عمومية وخصوصية وبعثة ثقافية، ومن حيث وظيفتها إلى ابتدائية وثانوية وجامعية وتكوينية.

فما هي خصائص ومميزات المؤسسة التعليمية والتكوينية العمومية من حيث نوعها وموقعها ووظيفتها؟ وهل تنال  نصيبها من الإصلاح التعليمي بناية وبنية تحتية وتجهيزات وساكنة؟ وما جوانب تأثيرها في الدراسة والتكوين؟ وكيف تساهم في الفشل الدراسي والتكويني وصنع البطالة؟ وما هي الاختلالات المادية والبيداغوجية والمنهجية التي تطال العملية التربوية والتعليمية والتكوينية؟ وما أوجه الفوارق بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية؟ وما تجليات عدم تكافؤ الفرص التعليمية بين التلاميذ؟

يتم مناولة هذه الأسئلة المحددة ضمنيا للأهداف المسطرة لهذا الموضوع وذلك كما يلي:

1.     المؤسسة التعليمية بالوسط القروي:

غالبا ما يتم بناء مدرسة ابتدائية أو ثانوية بالوسط القروي بنقطة لا توجد على نفس المسافة من الدواوير والمداشر والقرى المحيطة بها لعدة اعتبارات، ليواجه التلاميذ عامة، خصوصا بالمناطق النائية، وصغار السن، خاصة، صعوبات ومشاق في قطع مسافات طويلة، في القر والحر، عبر مسالك وعرة وخطيرة وطرق غير معبدة، تخترقها وديان بلا قناطر، وتباغثها فيضانات دون سابق إنذار، مع انعدام وسائل النقل العمومي المؤمن ووسائل النقل المدرسي، ليقضي التلاميذ يوما كاملا بالمدرسة، ويقضون الحصة الشاغرة تحت السماء، ودون الاحتماء بسقيفة تقيهم البرد والحرارة، وبعيدا عن مراقبة أولياء أمورهم، في ظل الظروف الأسرية المزرية وعدم استفادة أغلب التلاميذ من منح دراسية توفر عليهم عناء التنقل اليومي، ومن خدمات الدعم الاجتماعي تساعد أولياء أمورهم على توفير الحاجيات واللوازم اليومية لمواجهة أعباء الحياة ومتطلبات التمدرس والتكوين. ويلاحظ كذلك أن المدرسين، لا تقل معاناتهم عن معاناة التلاميذ في شيء، حيث أغلبهم إن لم نقل جلهم، لا يقطنون قرب مدرسة، ولا بالتجمعات السكنية القروية لعدة أسباب، منها ظروف السكن غير اللائق، والإنارة والماء الشروب والطهو والأكل، ومتابعة أبنائهم دراستهم الجامعية، فيفضلون السكن بالمدن الكبرى، وبالتالي يقطعون يوميا مسافات طوالا، عبر وسائل نقل متنوعة وعلى الأرجل، ليصلوا غالبا متأخرين عن موعد الحصص الدراسية، ما يرهقهم عن إنجاز الدروس الرسمية، ويصرفهم عن إنجاز العمليات المدرسية الموازية، من إعداد وتصحيح ومراقبة وانخراط في أشغال النوادي وتنظيم مسابقات رياضية وثقافية، ما يضعف مردودية المدرس والتلميذ، لينخفض التحصيل الدراسي، ويتم تسجيل نتائج هزيلة، لا تشجع التلاميذ على الاستمرار والانتقال إلى أعلى المستويات الدراسية والتكوينية، فتستفحل ظاهرة الهدر المدرسي. إن التلاميذ والمدرسين بالوسط القروي، خصوصا بالمناطق النائية، يعانون، سيان، ظروفا قاسية، تحد من فعاليتهم، وتؤدي إلى انخفاض المردودية المدرسية، كما تؤدي بنسبة لا يستهان بها من التلاميذ إلى الانقطاع عن الدراسة ومغادرة الأسلاك الدراسية.

2.    المؤسسة التعليمية بالوسط الحضري:

إن المدرسة الحضرية، تعاني، خصوصا، بالأحياء الشعبية، ظاهرة الاكتظاظ، حيث يجد المدرسون أنفسهم أمام أعداد هائلة من التلاميذ داخل أغلب الأقسام، وبمختلف المستويات الدراسية، الأمر الذي يطرح أكثر من مشكلة على صعيد العملية التربوية برمتها، لا من حيث النظام والهدوء، ولا من حيث التواصل، ولا من حيث التنشيط وتدبير حصة الدرس، ولا من حيث مراقبة أعمال التلاميذ وتقييمها وتصحيح ثغرات التعثر الدراسي لديهم، ولا من حيث الأشغال الموجهة والتطبيقية، الأمر  الذي يعتبر السبب الرئيسي لتعثر الخطاب التربوي وعلاقات مدرس- تلميذ، حيث تؤثر سلبا في تدبير الفصل التربوي، من تأطير ومناقشة وتحليل مختلف الوضعيات التعليمية، كما تؤثر في التركيز والاهتمام  بالمصطلحات والمفاهيم الأساسية، ليلتجئ المدرس إلى أساليب الإلقاء والحشو وإملاء ملخصات ركيكة على التلاميذ دون تمكينهم من منهجيات التفكير المنطقي الرامية إلى تفتق ملكاتهم وتنمية شخصياتهم وإذكاء الحس النقدي لديهم. ومعلوم أن الأحياء الشعبية تعج بالأسر الفقيرة والمعوزة، تعاني الأمية والأمراض والتهميش وقلة ذات اليد، ومع ذلك فإن استفادتها من الخدمات الطبية والاستشفائية والاجتماعية تبقى ضئيلة أو منعدمة ، الأمر الذي ينعكس على التلاميذ فيقل تحصيلهم الدراسي، ويسيرون خلال سنوات تمدرسهم نحو الفشل، فالانقطاع عن الدراسة.

3.   تنوع المدارس:

ومن ناحية أخرى، وعلى العموم، وبعد تعدد المؤسسات الخصوصية إلى جانب المؤسسات العمومية، وفي إطار الاتصالات التي تتم بين تلاميذ نوعي المؤسستين التعليميتين، يشعر تلاميذ المؤسسة العمومية بالإحباط والاحتقار، حين يبلغ إلى علمهم مضامين ما يدرسه تلاميذ التعليم الخصوصي والنتائج المرتفعة التي يحصلون عليها.  إن ارتفاع أعداد التلاميذ بالقسم بالمؤسسة العمومية، يقف حجر عثرة أمام تطوير العملية التربوية، كما يحول دون التركيز على التلميذ كمحور تدور حوله جميع الأنشطة التعليمية، يتفاعل معها مشاركا في بلورة الدروس، ومساهما في تنمية قدراته الذاتية، مكتسبا مهارات متنوعة، مبتكرا ومبدعا. وحسب تصريحات التلاميذ وأولياء أمورهم، خصوصا المعوزين والفقراء منهم، تفيد معاناة العملية والتربوية من عدة عوامل وآفات تفسدها وتنزل بمردوديتها إلى الحضيض، وذلك من قبيل الساعات الإضافية المؤداة والمفروضة كرها على التلاميذ، واللاتكافؤ الدراسي بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية والبعثات الثقافية، والممارسات اللاديموقراطية بالمدرسة العمومية المتجلية في عمليات تقييم إنتاجات التلاميذ ومعاملاتهم وفرض عليهم الدروس الإضافية المؤداة وأساليب تدبير العملية التربية برمتها إنجازا وتأطيرا.

إن الفوارق الشاسعة بين المؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية، بناية وبنية وظروفا تعليمية وكتبا مدرسية وبرامج ومناهج، تلقينا وأداء وتخرجا، تكرس الفوارق الشاسعة بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وتكرس واقعا تعليميا متسما بالإحباط ومهيئا لمختلف أسباب الفشل والهدر المدرسي في صفوف أطفال الطبقات الاجتماعية الهشة، التي تعاني الفقر والحرمان.

فشتان بين أطفال تأتي المدرسة إليهم، وأطفال يبحثون عن المدرسة على امتداد ساعات مشيا على الأقدام، أو اعتمادا على وسائل نقل محفوفة بكل المخاطر المادية والنفسية. وشتان بين أطفال يتقنون اللغات الأجنبية، منذ الصغر، إلى جانب اللغة العربية، فيسايرون دراستهم الجامعية والتكوينية بسهولة ويسر، وأطفال لم يتمكنوا طيلة سلك دراسي حتى من اللغة العربية، ليسايروا دراستهم بتعثر شديد، وهيهات أن تطأ أقدامهم المعاهد العليا ومؤسسات تكوين الأطر، لعدم تمكنهم من اللغات الأجنبية ولشساعة الهوة بين تعريب المواد العلمية طيلة سلكي الابتدائي والثانوي، وإرساء لغات أجنبية لتلقين  المقررات الجامعية والتكوينية.

إن تعدد أنواع المدارس بين عمومية وخصوصية وبعثات، وتعدد أنواع التعليم بين عصري وتقليدي وديني، وتعدد لغات التلقين بين عربية وفرنسية وأنجليزية… وأمازيغية، يكرس استمرار الفوارق الشاسعة بين التحصيل الدراسي عند المتعلمين، ويجعل مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص التعليمية والتكوينية في مهب الريح، ويهد أركان كل إصلاح تعليمي، ما دام أحد المبادئ الأساسية، ألا وهو التوحيد، لم يتم إرساؤه، وبالتالي لم يتم إرساء المدرسة المغربية الوطنية الموحدة.   

4.     المؤسسة التعليمية الجامعية:

يلتحق بالمؤسسات الجامعية التلاميذ الحاصلون على شهادة البكالوريا عن طريق التسجيل المباشر، أو مرورا بمساطر الانتقاءات والامتحانات، حسب طريقة ولوج هذه المؤسسات المحدد في الاستقطاب المفتوح أو المنتظم. 1- المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح: تتشكل المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح من جميع الكليات باستثناء كلية الطب وطب الأسنان، التي يلجها التلاميذ حاملو شهادة البكالوريا، دون قيد ولا شرط. إلا أن المتتبعين للشأن الجامعي يشهدون أن هذه المؤسسات تعيش مشاكل بالجملة تحول دون تأهيل الشباب بالشكل الصحيح والمطلوب، حيث اكتظاظ جميع المدرجات وقاعات الأشغال المختصة، والظروف المزرية للطلبة من حيث الدراسة المتعثرة والمنح الهزيلة، وعدم استيعاب الأحياء الجامعية لجميع الطلبة، الأمر الذي يجعلهم يتخبطون في مشاكل عويصة من قبيل الإيواء والتنقل والأكل. وما يزيد الطين بلة، الإحباط العارم الذي يؤرق الطلبة، من شدة انسداد الآفاق الدراسية وبطالة حاملي الشواهد العليا، ما يقف حاجزا أمام تأهيلهم  وانخراطهم في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والتنمية البشرية. 2- المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المنتظم: تتشكل المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المحدود أو المنتظم من المدارس والمعاهد العليا وكلية الطب وطب الأسنان، التي يلجها التلاميذ الحاصلون على شهادة البكالوريا، بعد اجتيازهم بنجاح جميع مراحل الانتقاءات والاختبارات المتنوعة، من انتقاءات أولية واختبارات كتابية ومقابلات فردية وتمارين رياضية وأشغال تطبيقية وغيرها. ويتحكم في ولوج هذه المؤسسات بنيتها التحتية وطاقتها الاستيعابية المحدودة في مقاعد محددة، ما ينجم عنه إقصاء طلبة حققوا ميزات مرتفعة،  وما يطرح عدة إشكالات على الصعيد الوطني، جراء حرمان طلبة متميزين ذوي طاقات فكرية متميزة، من تحقيق مشاريعهم الشخصية، وبالتالي الوقوف حاجزا أمام تأهيلهم وانخراطهم الفاعل في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والتنمية البشرية.

5.   المؤسسة التكوينية المهنية:

يلج مؤسسات التكوين المهني جميع تلاميذ التعليم الثانوي والجامعي الراغبين في ذلك، بعد خضوعهم بنجاح لعمليات الانتقاء. إلا أن هذه المؤسسات تعاني، عموما، أزمة المقاعد المحدودة وضعف الخدمات الاجتماعية، حيث لا تتوفر على أجنحة داخليات ولا دور للطلبة ولا توفر وجبات غذائية، ما يحد من إقبال التلاميذ والطلبة على الالتحاق بالتكوين المهني، خصوصا منهم الوافدين من الوسط القروي، وعلى الأخص أولئك المتحدرين من أسر معوزة تعاني الفقر والتهميش وقلة ذات اليد.

عود على بدء:

والمشاورات جارية حول المدرسة المغربية، يجدر بنا تشخيص وتحليل الوضعيات التالية:

·       أي أسرة مغربية نريد إرساء بنيانها القيمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والمهني؟

·       أي مؤسسات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية نريد إرساءها لإعداد مواطن صالح لنسفه وللمجتع حاليا ومستقبلا؟

·       أي مدرسة مغربية ابتدائية وإعدادية وتأهيلية نريد؟ لأي طفل/ تلميذ(ة)/ طالب(ة) حاليا، رجل وامرأة المستقبل؟

·        أي تعليم نريد إرساء أسسه لتحقيق مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص التعليمية والتكوينية بين جميع الأطفال/ التلاميذ والطلاب، على الصعيد الوطني؟

حيث تحديد مواصفات  الأسرة والمدرسة ومختلف المؤسسات التي تنهض عليها سياسة تدبير شؤون المجتمع، وكذا تحديد مواصفات الطفل/المتعلم(ة)، اليوم وغدا، يؤدي تلقائيا إلى وضع برامج ومناهج تعليمية هادفة، ومقررات وأطقم إدارية وتربوية ناجعة، ووسائل وأدوات فعالة، تسهم في الرقي بمنظومة التربية والتكوين، والارتقاء بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع وضمان تقدمه وازدهاره.

·         المراجع:

·           الميثاق الوطني للتربية والتكوين، 2000، المغرب؛

·         د. عبد النبي رجواني، حول إصلاح التعليم، مساءلة الخطاب ودعوة للاستشراف، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب؛

·         د. سعيد بحير، الصحة النفسية واضطرابات الشخصية، السيكولوجي، الكتاب الثاني، الطبعة الأولى، 2005، فاس، المغرب؛

·         أ. عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2006، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب؛

·         دة. رشيدة برادة، المدرسة المغربية كما يراها المراهقون والشباب، الطبعة الأولى 2009، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب؛

·         د. حامد عبد السلام زهران، التوجيه والإرشاد النفسي، الطبعة الثالثة 1985، عالم الكتب، القاهرة، مصر.

(٭) مفتش في التوجيه التربوي مكناس.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.