Home»Régional»ثافلوث ، او لعبة الحظ ( رابح قاسم واعمر ) : 6 – أمسيات عائلية دافئة…

ثافلوث ، او لعبة الحظ ( رابح قاسم واعمر ) : 6 – أمسيات عائلية دافئة…

0
Shares
PinterestGoogle+
 

التحقت بطاقم أفراد أسرتي المجتمعين حول الكانون في شكل نصف قوس …في الوقت الذي كانت والدتي تحضر الكسكوس، ورائحة الحليب والقرعة الممزوجة برائحة دخان الخشب المحترق تملأ أرجاء الخيمة .
كان من الصعب أن أجد مكانا وسط القوس الذي يكونه أخي و أخواتي المزدحمين حول الكانون قصد التدفئة ، ونظراتهم الحادة تنتقل مع الحركات الأوتوماتيكية التي تقوم بها والدتي،… هذه الحركات التي ألفناها بل وحفظناها عن ظـهر قلب وهي تهيأ الكسكوس، الشيء الذي كان يجعل تلك النظرات تستقر في نهاية المطاف على ألسنة النار وهي تلتهم قطع الخشب اليابس لتحولها إلى جمرمتقد ، والذي سرعان ما يتحول بدوره شيئا فشيئا إلى رماد ، وقبل أن تصل النار إلى هذه المرحلة فإنه كان من اللازم مدها بقطع من الخشب … وغالبا ما يكون هذا بأمر من أمي ، فتقوم إحدى أخواتي لتحضر الخشب من إحدى أركان الخيمة المظلمة …
فتحت ثغرة صغيرة وسط أخواتي بعد خصام مع أختي فاطمة ، التي نهرتها والدتي، بأنه عيب على البنات أن تمددن أرجلهن أمام الرجال …
ولم أكد أتمتع بنشوة النصر على أختي، حتى سمعنا نحنحة نعرفها جميعا. إنه والدي وكان من عادته وهو يهم بدخول الخيمة أن يشعرنا بقدومه بسعال مصطنع أو ببسملة بصوت مرتفع.
ولدى شعورنا بـقدوم والدنا فإننا كنا نوسع الدائرة لكي نفسح له المجال أكثر، وكان والدي يحظى بالإهتمام التام ، كان أحدنا يقوم ليحضر له وسادة وفراشا.
بوصول والدي يكون كل أعضاء العائلة حاضرين لتأخذ الجلسة العائلية شكلها الكامل، ويبدأ الحديث بيننا وكأنه سلسلة لا نهاية لها، وغالبا ما يدور حول المستجدات اليومية، والتعاليق على كل ما تناهى إلينا من أخبار القرية.
كانت والدتي تقدم الطعام على مرحلتين ، الأولى وتكون خاصة بوالدي وأخي محمد وأنا، والثانية لها ولبناتها ، وبما أننا لم نكن نتوفر إلا على صحن خشبي واحد فإن أمي وأخواتي كن ينـتظرن حتى يفرغ « الرجال » ليتناولن وجبتهن.
وإذا كان الجنس الخشن يأخذ وجبته في صمت وبأدب ، فإن معسكر الجنس اللطيف كان يشهد بعض المشادات وبعض المناوشات وبالخصوص ما بين أختي فاطمة وميمونة ، وبحكم صغر سن الثانية فإن العقاب كان ينزل بالأولى التي غالبا ما تغضب، فتبدأ في النحيب ، فيقوم أحدنا لتهدئتها وفي هذه الحالة فإنها غالبا ما كانت تتناول حصتها من الكسكوس بمفردها…
وبعد تناول العشاء كانت فاطمة تقدم الصينية لأبي الذي يبدأ بتـكسير السكر، وغسل النعناع ، ووضع كمية قليلة من الشاي في البراد ويصب عليها قليلا من الماء فيحرك البراد الفضي ثم يصب ما بداخله على حافة الكانون ليبلل التربة الصلبة والتي سرعان ما تجف بفعل حرارة النار … ثم يضع أغصان النعناع في فوهة البراد ويحط عليها قطعة من السكر ثم يضع البراد على الجمر بعد نبشه بقضيب من حديد أعد خصيصا لذلك …
وربما كانت هذه اللحظة من أسعد اللحظات في كل الأمسيات، إذ كانت والدتي تشرع في طرح أسئلتها التي لا تنتهي ووالدي يقص علينا ما صادفه خلال يومه، ومع من التقى من الجيران والأقارب وتبدأ التعليقات… ، كنت أصغي إلى هذه الأحاديث بنوع من الاهتمام وكان رأي والدنا في الأحداث هو رأينا كذلك ولم يكن ليخطر ببال أحدنا أبدا أن والدنا يمكن أن يخطأ بل على العكس من ذلك كان رأيه هو الرأي الصائب دائما، ومنطقه هو الصواب الذي لا يقبل الجدل …
كان من عادة والدي بأن يقطع سيل أحاديثنا الصبيانية من حين لأخر،وذلك بترديده لمقاطع من الأذكار والصلوات على الرسول صل لله عليه وسلم،.. هذه الأذكار التي حفظناها مع مرور الزمن..خاصة أخي محمد الذي كان يرددها مع والدي …وكانت أختي الصغيرة كلما رفع والدي عقيرته بإنشاد ما يعرف بـ ـ السماع الصوفي ـ تلجأ إليه ليجلسها أمامه ويلفها بطرف سلهامه…وغالبا ما كانت تخلد للنوم …وإذا ارتأى والدي التوقف عن الإنشاد فإن شقيقتي كانت تصر عليه بأن يتابع حتى يستولي عليها النوم كلية…

***** الفرار إلى المدرسة.

ولم أكن خلال أمسية من هذه الأمسيات لأشاطر أخواتي لعبتهن أو لأحاول فك لغز جديد أتت به أختي فاطمة من إحدى صديقاتها. ..
كنت أحلم بالالتحاق بالمدرسة، وقد سيطرت علي الفكرة بكل قوة،… لست أدري كيف انتهى ذلك الليل الطويل ، بعد أن تقلبت في فراشي عشرات المرات بحثا عن النوم ، ولكن هيهات ! … وربما لأول مرة في حياتي أحسست بعض البراغيث وغثاء الماعز ونباح الكلاب وغطيط والدي …كل هذه الأصوات، وحالتي النفسية المتأزمة جعلتني في النهاية أطلق العنان للبكاء الخافت الدافئ تحت الغطاء السميك… وربما في ذلك خير لأني لم أشعر كيف نمت، لأصحو في الصباح على النداء الملح من أختي فاطمة .
وكالعادة ، فقد ذهب والدي بالغنم إلى الجبل ريثما يتناول أخي محمد فطوره ويلتحق به ليرجع بدوره إلى الخيمة ثم منها إلى الحقل ، … شربت كأس شاي وعدلت عن تناول قطعة خبز الشعير، بل لففتها في قماش ووضعتها في كيس صغير مصنوع من شعر الماعز… وخرجت أركض وراء الجديان الذين ملوا من القيد فانطلقوا كالعفاريت بمجرد ما أن حررت أرجلهم الصغيرة .
وبالرغم من الشمس البارزة وأشعتها الذهبية التي تكاد تغطي كل القرية لولا الجبل الذي يـحد القرية من الجهة الشرقية ويربض كغول لا يتحرك ، وقد أكسبته الأشعة المشرقة من وراء ظهره مناعة تضاف إلى مناعته…إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يلاحظ جيدا تقاسيم جبل « إش أزكاغ » الحقيقية من كل الجوانب حتى تغزوه أشعة الشمس…وكانت ربوع القرية في مثل هذا الصباح مكسوة برطوبة كثيفة،..والتي سوف تحولها برودة الليل مع اقتراب فصل الشتاء إلى جليد أبيض يغطي الصخور ووجه الأرض… وينبه السكان إلى أن الشتاء قد حل ببرودته القاسية وأنه لا بد من تكديس خشب التدفئة وسد الثغرات المفتوحة في حصير الخيام أو استبدال قطع الحصير القديمة كاملة بقطعة أخرى تكون ربة البيت قد نسجتها أيام الصيف …
ـ مجنون ! مجنون ! أبو علام …!
كنت أنادي الجديان، وقد أطلقت اسما خاصا على كل واحد منهم وكان بعضهم يسمعني ويفهم أني أقصده ولا أقصد غيره … ، ولعمري لن أنسى بعض النماذج من الجديان، فبالإضافة إلى أنهم كانوا يحفظون الأسماء التي أطلقتها عليهم فإنهم كانوا يفهمون كل ما أقول لهم مثل: قم، اجلس ! هات يدك ! سلم ! قف مكانك ! تقدم… تراجع!… كان بعض الجديان يفهم هذه التعليمات جيدا ويطبقها ، وكنت متيقنا أن الحيوان مثله مثل بني آدم ولا ينقصه إلا الكلام ، وأكثر من ذلك فإن الجديان كانوا مثل الأطفال الصغار منهم من يغضب ومنهم من يبكي ومنهم من لا يستطيع أن يعيش بعيدا عن أمه وكان يخيل إلي أنى أفهم هذه الأشياء وأعرف نفسية كل واحد منهم ، وأحاول أن أتصرف مع كل واحد منهم حسب مزاجه … فمنهم المنطوي على نفسه ومنهم الغبي ومنهم الذكي ومنهم الشجاع ومنهم الجبان … ومنهم الشرير ، وعلى رأس الشريرين كان « مجنون » و « أبو علام » الذين كنت أناديهما عندما رأيت أحمد يتأبط محفظته ويمضي عبر الفج المعوج، لكي يمر جنب دار بلقاسم ويناديه، بعد أن يبتعد شيئا ما عن حارة الخيمة، ويتسلح بحجارة أو حجارتين خوفا من كلبة عمى مسعود الشرسة …
رأيت أصدقاء طفولتي يتأهبون للذهب إلى المدرسة… فاسودت الدنيا في عيني، وكرهت الجديان رغم عطفي عليهم … وكرهت القرية ، وأحسست وكأني في قفص محكم لا يمكن الإنفلات منه أبدا …
دارت فكرة برأسي، وحاولت أن أقاومها ، حاولت أن أتجاهلها…حاولت أن أخنقها، ولكن صوتي سبقني عندما ناديت أمي بأن تنظر في أمر الجديان، فقد قررت الذهاب إلى المدرسة …
مسكينة أمي ربما لم تصدق في البداية … ولكن عندما انطلقت كالسهم صوب الطريق الرئيسي الذي يسلكه أصدقائي إلى المدرسة، فإني خلتها تقول : وأبوك يا ولدي ! أبوك ! أين ستمضي الليلة؟ سوف يتهمني بمساعدتك ! سوف يقول بأنني أنا التي حرضتك…
لم يكن الوقت وقت عواطف ، ولا حتى التفكير في العواقب … لقد فكرت كثيرا … فكرت ربما شهرا كاملا أو أكثر ، وماذا بعد التفكير ؟…
ركضت وركضت و ركضت بكل ما أوتيت من جهد وسبقت بلقاسم وأحمد و فراجي ، وعندما أيقنت أني نجوت من قبضة والدي جلست على صخرة بجانب الطريق والتي تطل على منبع الماء وسط شجر الدفلى الذي تجلب منه الساكنة الماء الشروب…. وانتظرت أطفال قريتي الثلاثة الذين سأصبح رابعهم وسوف يصبحون ابتداء من هذا اليوم رفاقي في الطفولة والمدرسة..

(يتبع)

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.