Home»National»صدى السنين 1 ثـفـلـوث.. أو لعبة الحظ : بناء منزل قروي ـ الجزء 3 ـ

صدى السنين 1 ثـفـلـوث.. أو لعبة الحظ : بناء منزل قروي ـ الجزء 3 ـ

1
Shares
PinterestGoogle+

بناء منزل قروي
وككل الأطفال في هذا السن المبكر فإن همي الوحيد كان اللعب بطبيعة الحال… إلا أن حدثا هاما سيؤثر في حياتي و لمدة طويلة ، وهو بناء منزل قروي بالطين والحجر ….
وقبل أن يستدعي والدي لمعلم « أزروال » الذي شهد له الجميع ببراعته في فن العمارة ، فإنه كان قد جمع أكواما من الأحجار ذات الأحجام المختلفة ، كما هيأ أكواما من التراب الأحمر الصلصالي الذي نقاه من الحصاة  ليسهل مزجه بالماء ، وكانت بداية البناء بالنسبة لي يوما تاريخيا، وخيل إلي في البداية أن والدي ولمعلم « أزروال » كان يلعبان ، إلا أن اللهجة الحازمة لوالدي الذي أمرني بالابتعاد عن ساحة العملية لكي لا أصاب بشظية حجر أو أقع في كومة الطين،  جعلتني أدرك أن الأمر يتعلق بعمل خاص بالكبار !
ومهما كان الحال ، فقد صرت أقلد لمعلم » أزروال » في حركاته بل وحتى في الآهة اللطيفة التي يصدرها مواكبة مع رفع قطع الأحجار التي يبنى بها الحائط قطعة قطعة قبل أن يفرش لها الطين اللزج … وكم كان حريصا على أن يأخذ الحائط شكله المستقيم أفقيا و عموديا وألا يشوبه أي اعوجاج ، وكان يستعين في ذلك بآلة الميزان التي كان يستعملها كلما بنى بعض السنتميترات وكان لا يتورع في نزع قطعة الحجر من مكانها إذا لاحظ أنها غير منسجمة مع جاراتها ، بحيث كان يستبدلها بأخرى ، أو كان ينزل عليها بضربات مطرقته الحديدية الثقيلة التي غالبا ما كان يهشمها عن آخرها لتسقط فتاتا إلى أسفل الحائط ويطلب من والدي مده بقطعة أخرى.
ويبدو أن والدي لم يكن راضيا عن عملية البناء هذه التي أتعبته والتي تسير ببطء كبير، وعن مسألة الحجارات هذه التي تهشم عن آخرها، كما أن مزاج لمعلم « أزروال » الموصوف بالرزانة والتريث لم يكن لـيروق لوالدي المعروف بالسرعة في الإنجاز وربما كان هذا هو موضوع الخلاف الذي نشب بينهما ، الشيء الذي أدى إلى اندلاع معركة كلامية أدت في النهاية إلى عزوف المعلم » أزروال » عن الحضور إلى مقر العمل متذرعا بجرح أصيب به في رجله … وقد وجد والدي الفرصة سانحة لكي يبني المنزل بمفرده …
ورغم الاعوجاج الواضح في جدران المنزل ورغم عدم تناسق بعض الحجارات، فإن والدي أنهى بناء المنزل في ظرف وجيز … وعندما كانت والدتي وعمي الحبيب ينتقدانه بهذا الشأن كان يجيبهما بأن أهم شيء هو صلابة الجدران، والأهم  من ذلك، أن  يعيش الأطفال في مأمن من البرد القارس.. وفعلا فإن هذا المنزل الذي هو عبارة عن حجرة مربعة كبيرة والتي لا تزال قائمة كقلعة شامخة تتحدى الزمن الذي لم ينل منها كثيرا، لا تزال على حالتها بينما البيوت المجاورة وحتى التي بنيت بعدها بزمن طـويل ، فقد شاخت وتهدمت تدريجيا  حتى هوت عن آخرها … ولسنوات طويلة كانت والدتي تنصب خيمتها أمام هذه الدار بحيث كنا نستعمل الخيمة في فصل الصيف والقلعة الحجرية في فصل الشتاء …
ولم نكن لنثمن حكمة وتجربة والدي إلا عندما يجمعنا البرد القارس في فصل الشتاء حول ركن الكانون الذي يبعث بالدفء في كل أرجاء الحجرة ، والمدخنة التي اسودت من جراء الدخان المتصاعد ، تمتص الشرار المتطاير من الجمرات المتقدة لتلقي به إلى الخارج صوب الأنبوب الذي يعبر السطح ويعلوه ببضعة أذرع …
وأذكر أنه في فصل الشتاء ، وعندما يغطي الثلج كل أرجاء القرية، لتصاب القرية بالشلل فتتعطل كل الأنشطة تقريبا ، وتقل الحركة والتواصل حتى بين الجيران فلا تسمع إلا غثاء الماعز الذي أجبر على التزام زريبته وبالأحرى تخفيض حصته من الأكل ليقتصر على القليل من أغصان العرعار التي تجلب إليه بصعوبة ، … قلت في مثل هذه الظروف التي يخيل فيها للمرء أن الفناء قد حل بالقرية ، فإن مدخنة منزلنا العالية كانت تنتصب في شموخ المحارب الصامد ، مستمرة في نفث دخانها إلى أجواء السماء الحبلى بنتف الثلج وبالأمطار الغزيرة، لتؤكد للجميع استمرار الحياة،  ولترفض الانصياع للصقيع والسكينة الأبدية … وربما من هنا كان حرص والدي على جعل النار لا تخبو في مثل هذه الأيام وكلما خبت أو أوشكت على ذلك فإني وأخي محمد كنا نمدها بالمزيد من الحطب الذي كدسناه بعناية لهذا الغرض  في مكان جاف.
وإذا كانت عملية البناء قد مرت في جو هادئ  بدون طقوس تذكر فإن وضع السقف وربما نظرا لأهميته القصوى في البناية ، فقد طبعه العمل الجماعي إذ أن والدي استنجد بالجيران عن بكرة أبيهم وعلى رأسهم عمي الحبيب الذي نزع الزعامة من والدي خلال هذا اليوم ، بحيث أصبح يستشار في الصغيرة والكبيرة من طرف الجميع  بما في ذلك والدي الذي أصبح يستشيره  هو كذلك في كيفية وضع الحجرات والقطع الخشبية وعن مقدار الماء الذي يصبه على الطين الذي سيوضع  فوق السطح …
كانت العملية معقدة ابتدأت بوضع الركائز الخشبية وسط الحجرة ثم بتثبيت جذع شجرة العرعاراليابسة الصلبة على الركائز بشكل أفقي لكي تربط هذه القطعة الخشبية الضخمة التي يسمونها « الشيخ » على الركائز بينما يبقى طرفاها  مستقرين عـلى الحائط .
والملفت للنظر هو ما صاحب حمل » الشيخ « من تهليل وصلاة على النبي من طرف القرويين الذين علت أصواتهم الخشنة حتى رددتها الجبال ولم يكفوا عن ذلك حتى أنهوا تنسيق القطع الخشبية الطويلة الأخرى التي وضعت بشكل متقاطع مع « الشيخ »  بينما بقيت بعض أطرافها خارجة عن جدران البيت …
وقد أثار ضحكنا نحن الأطفال وضع جدي « موسى » الطاعن في السن و الذي كان جالسا غير بعيد عن مسرح العمليات وكان يشرأب بعنقه ليتابع الأعمال الجارية عن كثب…و كان قد شارك الناس بالصلاة على النبي بصوته المرتفع الذي علا كل الأصوات والذي كان يسبق الجوقة أو يتأخر عنها ببضع ثوان… وذلك لأنه  كان يعانى من نقص في حاسة السمع.. الشيء الذي جعله  يستمر في الصلاة على النبي بمفرده في الوقت الذي كان الناس قد توقفوا عن ذلك…وما خلته سيسكت لولا جدتي التي أشارت إليه بالسكوت …
وبعد ذلك جاء ترتيب قطع صغيرة من خشب العرعار الصلب لتصبح متقاطعة هي الأخرى مع القضبان الطويلة، ومن ثم بدأ القرويون في صب الطين اللزج الذي هيئ بعناية فائقة أمام أنظار عمي لحبيب الذي لا يتورع في توجيه انتقاداته إلى الأشخاص الذين لا يحسنون عملهم. وكان والدي يقف على حافة الحائط المشيد حديثا، ويتلقف بيديه قفة الطين الثقيلة ليمدها بدوره إلى من يصبها على قطع الخشب دون أن يحركها…
وعندما رجعت إلى الخيمة راعني رأس جدي ماعز مع أرجله كان ملقى في ركن الخيمة،وكان الدم به طريا،وكانت عينيه مفتوحتين وجامدتين، وكانت إحدى الجارات تهيئ النار لحرق شعر رأس وأرجل الجدي بينما والدتي وبعض الجارات كـن منهمكات في تهيئ الكسكوس والخبز وتنظيف الكؤوس والصينية والبراد.
وقد فهمت فيما بعد أن عملية تسقيف الدار الجديدة يستوجب تكريم عتبتها بإسالة الدم أي بذبح خروف أو جدي.
كان اليوم حافلا بالنسبة للجميع بحيث أشبعنا نهمنا من الكسكوس اللذيذ مع قطع اللحم الشهي كيف لا وأن بناء الدار ليس بالقضية السهلة التي يمكن أن تمر في صمت دون تقديم الصدقات ، حتى يبارك الله في الدار وفي العتبة الجديدة ويجعلها حصنا منيعا لأهلها … وكذلك كان…
فـحتى في السنوات العجاف من بداية الستينات لم أذكر أبدا أن أصبحت هذه الدار خالية من المواد الغذائية ، كانت أركانها عبارة عن مخزن للذخيرة ، من قمح وشعير وذرة وزيت زيتون وسمن وعسل وعدس وفول ، وبصل ، هذه الخيرات التي لم تنفذ أبدا من مخزنها ..
ولاشك أن مسكننا هذا كان استمرارا  لدار جدي « موسى »، التي كانت قبلة للمحتاجين وكانت لا تخلو من المؤونة و خاصة من زيت الزيتون والسمن  والعسل وبالخصوص هذا الأخير، لأن جدي كان معروفا بتربية النحل في كل الناحية، حتى أن اليهود الذين كانوا يقطنون بدبدو و بتاوريرت كانوا يحجون إليه لاقتناء العسل ومقايضته بالثوب و السكر والشاي …
ومن جهة أخرى فقد اكتسب والدي شهرة كبيرة وسط القرويين الذين أعجبوا بالمنزل الذي  بناه ،مما جعل ببعضهم يلتمس منه أن يبني له منزلا مماثلا…وفعلا فقد بنى عدة منازل في القرى المجاورة وأغلبها بالمجان أو بثمن رمزي…وحيثما شيد  مثل هذه القلعة فإنها لا تزال واقفة ، صامدة ، تتحدى الزمن…رغم أن والدي لم يستعن علي بناءها بأية تقنية حديثة ماعدا الطين والحجر وتجربته الشخصية…

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *