Home»Correspondants»الدكتور علال الغازي ناقدا ورجلا صالحا

الدكتور علال الغازي ناقدا ورجلا صالحا

1
Shares
PinterestGoogle+

   الدكتور علال الغازي
ناقدا ورجلا صالحا
د. محمد بن العياشي

قد تختلط العبارات بالعبرات حين الحديث عن  شخصيات كانت قيد حياتها قامات وهامات شامخة شموخ المبدع العربي الأصيل، والرجل الصالح النبيل، الذي يعرف بخلقه الكريم قبل علمه الغزير.كذلك الشأن بالنسبة إلى صاحبنا المحتفى به في هذا المقال الباحث والشاعر المرحوم الدكتورعلال الغازي، الناقد الأكاديمي والأستاذ الجامعي، والتربوي المرموق ،والرجل الصالح، الذي خلف وراءه آثارا علمية غنية، وسيرة عطرة محفورة في ذاكرة الحقل العلمي الأكاديمي العربي بعامة والمغربي العماني على وجه الخصوص.

لقد مرت على وفاة المرحوم إلى حدود كتابة هذا المقال أزيد من ثماني سنوات، ومع ذلك ماتزال ذكراه العطرة وآثاره النقدية عالقة بذاكرة طلبته، وزملائه، ورفاق دربه العلمي ،وعموم المهتمين بالأدبين المغربي والعماني، ونقاده ومتذوقيه.

فالراحل الأستاذ الناقد علال صديق الغازي (1942- 27/ديسمبر 2006 م) ،من مواليد مدينة تاونات الجبلية التي تبعد بحوالي (80 كلم) عن العاصمة العلمية فاس حاضنة تراث المغرب وجامعة القرويين.

تخرج رحمه الله من جامعة محمد الخامس بالرباط ، وعمل أستاذا جامعيا بها وبعدة جامعات مغربية وعربية ، كما اشتغل أيضا في المجال الإداري بديوان وزير التعليم العالي بالمغرب. وقد قضى شطرا مهما من حياته بسلطنة عمان يزيد عن عشر سنوات كانت حافلة بالعطاء العلمي، حيث شغل منصب أستاذ النقد الأدبي ورئيس قسم الدراسات اللغوية بجامعة نزوى وكلية التربية  ، إلى أن وافته المنية بهذا البلد العربي الشقيق، على إثر حادث سير بمسقط سنة 2006.

وقد أحبّ الإقامة بسلطنة عمان وله فيها آلاف الطلبة والطالبات الذين تلقوا العلم على يديه، ويكنّون له كل التقدير والمحبة والاحترام.

وقد عرفه القارئ العماني ناقدا وموجها للأدباء الشباب في ملحق شرفات الثقافي الذي تصدره جريدة عمان.

أما آثاره العلمية والنقدية فكثيرة؛ ويكفي أن نذكر هنا بأن الدكتور الغازي رحمه الله رجل موسوعي الثقافة ، متعدد المشارب، غزير التأليف والتحقيق والتدقيق. وقد استطاع بجهوده العلمية تشكيل مدرسة عربية نقدية ذات طابع بلاغي رصين، سوف نخصص لها مقالا تحليليا إن شاء الله ضمن مشروعنا الشخصي الذي يتوخى في جانب منه الوفاء لعدد من رجالات الثقافة والفكر وبخاصة في المجال الأكاديمي العربي، وذلك من خلال استحضار ذكرياتهم العطرة ، والتذكير بمشاريعهم العلمية. كمشروع الدكتور الغازي في النقد وتحقيق التراث الذي ناضل قيد حياته من أجل بنائه والتعريف به. والذي يتكون من شقين: الشق الأول الإشراف الأكاديمي والذي سنتابع فيه طبيعة الموضوعات النقدية والحقب الزمنية التي تندرج في صلب اهتماماته من جهة ، ومن جهة ثانية طبيعة التوجيهات  التي كان يحرص عليها أثناء المناقشات العلمية.

أما الشق الثاني فيتمثل في نتاجه العلمي المتأثر بالمدرسة البلاغية العربية ، التي يعد الغازي رحمه الله زعيمها بلا منازع، كما يتضح ذلك من خلال  جل أعماله وبحوثه الجامعية.

وإلى أن يحين ذلك، سوف نقتصر في هذا المقال على تقديم بعض الشهادات التي حصلت عليها في حق المرحوم؛ ومنها  الشهادة القيّمة التي أمدني بها –مشكورا- الأستاذ والأخ العزيز الدكتور رشيد بلحبيب  أستاذ الدراسات اللغوية بجامعة قطر ،وصديق المرحوم وزميله بكلية التربية بسلطنة عمان سابقا. وهي شهادة مؤثرة تعرض أمامنا نموذجا نادرا للسلوك الإنساني المثالي في مكارم الأخلاق والعطاء الجميل والتواضع النبيل. نرجو أن ينتفع منها السادة القراء وأن يجدوا بها ما يبصّرهم إلى نوع العلاقات المثمرة التي يجب أن تسود بين الناس عموما والفاعلين التربويين على وجه الخصوص.

يقول الدكتور رشيد بلحبيب في شهادته الموسومة ب  » كلمة وفاء… لصداقة لم تدم طويلا » :

« عجيب أن يضيق الوطن – على اتساعه – على بعض أبنائه، فيطوّفون في أرض الله كسرب القطا… هائمين، ناشدين… حتفا محتوما أو قدرا مكتوبا… متمثلين بقول الشاعر:

وطولُ مُقامِ المرءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ    لديباجَتَيْهِ فاغْتَرِبْ تَتَجــــــــــــــدَّد
فإنِّي رَأيتُ الشَّمسَ زيِدَتْ مَـــحَبَّةً     إلَى النَّاسِ إذْ لَيْسَتْ عليهم بِسَرْمَدِ

وتشاء الأقدار أن تتسع زوايا نائية غير متوقعة من أرض الله لتستدرك ما لم يتم في أرض الوطن من تعارف بين بعض أبنائه…

شاءت الأقدار أن تجمعني بالمرحوم – الدكتور علال الغازي صديقا وأستاذا – واحة صغيرة محفوفة بالنخيل في قلب سلطنة عمان : مدينة نزوى… في رحاب كلية التربية حيث كان أولَ من استقبلني عندما التحقت بعملي هناك… وكنت أعرفه اسما وقامة شامخة من قامات النقد الأدبي في الغرب الإسلامي، أشرفَ على بعض زملائي ممن حدثوني عنه… لكنني لم أكن أعرفه معرفة قريبة تؤهلني للحديث عنه لو طُلِبِ مني ذلك ساعتئذ…

لم أكن في حاجة إلى وقت طويل لأتعرف إلى المرحوم، فمن شيمه لطف المبادرة وكسر الحواجز وتقديم الود والدعم والعون …دون حدود أو مقابل…لم يكن كبعض خلق الله دهاليز مغلقة، أو مسارب مبهمة… أو كتلا من العقد النفسية … كان بسيطا في كل شيء…

لقد كانت العلاقة التي ربطتني به – وعمرها ثلاث سنوات- علاقة ودّ وتقدير واحترام، كان كثير الثناء عليّ، يقدمني دائما على أنني أحد الخبراء في اللغة العربية… يجب أن تستفيد الكلية من خبراتي، كان يدفعني إلى الظهور… وكنت أستحيي في كثير من الأحيان، إدراكا مني لموقعي  ومقامي … ولكنه كان ينظر إلي بعين الرضا ، و عين الرضا – كما قال الشاعر- عن كل عيب كليلة…

فَعَيْنُ الرِّضا عن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ** ولكنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَساوِيا

لا أريد أن أطيل في الحديث عن رقته وطيبته… فقد كان صديقا وفيا، ولا أشك أنه كان أبا صالحا… لا أريد أن أتحدث عن مدرسته وجهوده العلمية، فهناك من هو أجدر مني بفعل ذلك من أقرانه وطلبته، لكنني أسجل أنه كان موسوعي الثقافة متعدد المشارب، مشاركا، حاضرا ومهيمنا في المؤتمرات والمناظرات والمحاضرات، كان فصيح اللسان دقيق العبارة حاضر البديهة قوي الحجة قادرا على الإقناع…

عندما تعاقدت مع جامعة الإمارات وقررت الرحيل عن عمان، حرص على أن ينظم لي حفل توديع بقسم اللغة العربية… وقال في حقي كلاما لن أنساه أبدا… وانفجر باكيا وهو يلقي كلمته… كان ذلك مشهدا من الود العميق والمؤثر، ربما استشعر أن ذلك كان آخر لقاء له بي …كان ذلك في شهر مايو 2001…

كنت من أوائل من علم بوفاته حين اتصل بي أحد مُحبيه – وكان على علم بالعلاقة الودية التي جمعتنا-  تم الاتصال بي في الساعة الثانية صباحا وكان المقام قد استقر بي في المغرب، وقمت فزعا من فراشي لأتلقى خبرا من أسوأ ما يمكن أن يطرق سمع إنسان … بقيت بين النوم واليقظة معلق الجفن، حتى بزغ الفجر وتأكد الخبر… وجدت نفسي عاجزا عن رد بعض « جمائله » التي طوقني بها وهي كثيرة…لقد كانت وفاته خسارة كبيرة للجامعة المغربية، ولجامعة نزوى، ولكل محبيه وطلابه ومن عرفه …

تميز المرحوم بصفتين من صفات الكبار الصالحين : الكرم، والتضحية وحب خدمة الآخر والتفاني في ذلك.

أما الكرم، فقد كان من أكرم من عرفت، يكاد ينفق راتبه كاملا على إكرام الأصحاب، يدعو لبيته كل قريب وبعيد، وقد كان بيته قبلة جميع الجنسيات، يفطر عنده العشرات في شهر رمضان طلابا وأساتذة وموظفين وعمالا…لا أبالغ إذا قلت يوميا …دون كلل أو ملل، بالبسمة يستقبلهم وبالبسمة يودعهم… كثير الصدقة والإنفاق، فكأنه كان يذخر ذلك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون… وكأنه بما أوتي من حدس وقوة استشعار، كان يشعر بشيء لا يشعر به إلا العارفون…

وأذكر أنه أراني فاتورة الهاتف في يوم من الأيام، وكان المبلغ المستحق للدفع بها يتجاوز عشرين ألف درهم مغربي، وقد لمته على هذا واعتبرته إسرافا… في اليوم الموالي، أخبرني أحد الطلبة العمانيين المسجلين بالرباط أن الدكتور علال حل مشكلة تسجيله في كلية الآداب بالرباط … وقد تم ذلك بالهاتف طبعا، فأدركت سر ارتفاع الفاتورة، فقد استغرق ذلك عشرات المكالمات… ويفعل ذلك بمحبة وسعادة تعدل أو تكاد سعادة الذين فرج عنهم كربهم…

أما الصفة الثانية، فهي خدمة الناس…عجيب أن تجد شخصا في مثل سنه وعلمه ومقامه يبادر إلى خدمة كل ذي حاجة صغيرا كان أو كبيرا، لا يتأفف ولا يتضجر، وقد يقتضي ذلك منه السفر، وقد يكلفه الوقت والجهد والمال…

ويكفيه شرفا أنه لقي ربه وهو عائد من خدمة زميل له،  أوصله إلى المطار الذي يبعد عن سكنه بـ 160 كيلومترا…بعد منتصف الليل، ولك أن تدرك مقدار هذه التضحية !

هكذا كان الأستاذ الدكتور علال الغازي رحمه الله فاضلا عالما خلوقا خدوما رقيقا كريم الأصل…غازيا للقلوب كما وصفه أحد شعراء عمان، بصمة في تاريخ الجامعة المغربية، وسفيرا بكرام خصاله للمغرب والمغاربة في سلطنة عمان…حيث شاء الله أن يتوفاه…(… وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. الجمالي
    30/01/2020 at 13:20

    مقال رائع يجسد الوفاء لأهل العلم و الكرم. الجمالي

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *