Home»Enseignement»واقع التكوين والبحث العلمي بكليات الآداب والعلوم الإنسانية

واقع التكوين والبحث العلمي بكليات الآداب والعلوم الإنسانية

0
Shares
PinterestGoogle+

بقلم: بلقاسم الجطاري
إن المتمعن في مجمل مشاريع الإصلاح البيداغوجي التي احتضنتها الجامعة المغربية يستطيع ملاحظة وجود اختلاف غير يسير بين المؤسسات الجامعية في مجال تنزيل تدابير الإصلاحات ومقتضياتها، وهذا أمر معقول ومطلوب تفرضه خصوصيات المحيط الاجتماعي والسوسيواقتصادي، وتقضي به مشاريع التكييف البيداغوجي التي تحرص على ملاءمة العرض التكويني للجامعة مع محيطها الاقتصادي والثقافي والتنموي.
لكن غير المعقول أن يمس هذا الاختلاف أنوية القطب الجامعي الواحد، في ما يشبه تفعيلا لتراتبية سلمية، يتم بموجبها تركيز العناية على مؤسسات دون غيرها. ونعني هنا عطبا قديما-جديدا ما فتئت الجهات المسؤولة عن القطاع تكرسه وتزكيه، هو عدم إيلاء كليات الآداب والعلوم الإنسانية ما تستحقه من الرعاية والاهتمام قياسا مع غيرها من كليات العلوم والتقنيات.
والذي يعنينا عبر هذا المقال هو أن نضع الأصبع على تجليات هذه التراتيبة، من خلال توصيف الوضعية الكارثية التي تعيشها كليات الآداب والعلوم الإنسانية بالمغرب، سواء على مستوى التكوين أم على مستوى البحث العلمي، مع تقديم مقترحات-حلول للخروج منها، في سياق تصور إصلاحي ذي مضمون عملي، ينطلق من « المتاح » و »الممكن »، ولا يسبح في بحر « المزايدات » التي دأبت الكثير من الوثائق والمقررات والأدبيات البيداغوجية على اجترارها دون استحضار واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي.
ينبغي القول بداية أن التصور الذي يفاضل بين مؤسسات التعليم العالي هو في الواقع تصور يستمد جذوره من تربة ثقافية ذات نزوع « علموي-وضعي » مستتر يكاد لا يرى من فائدة معتبرة في تدريس الفنون أو الآداب أو العلوم الإنسانية، وإن كان أصحابه لا يجاهرون بذلك حتى لا يظهروا في موقع من يسير عكس ما تسير إليه جامعات الشمال المتقدم. والحق أننا لا نرى من فائدة، في بيان تهافت هذا الرأي، والدفاع عن المؤسسات الجامعية المذكورة وإبراز أهميتها الشديدة، لأن الحاجة إليها بداهة لا تستحق حجاجا يذكر. ولكن مرادنا من هذه الإشارة هو بيان الخلفية النظرية التي تحرك أصحاب الرأي المذكور، والتنويه إلى ذيوعه بين كثير من الفاعلين السياسيين، ومن ثم حضوره في شكل محاور وبنود إصلاحية داخل البرامج الحزبية والحكومية المتعلقة بقطاع التعليم العالي.
نلتفت بعد هذه الإشارة إلى تجليات الوضع المأزوم الذي تتخبط فيه كليات الآداب بالمغرب، وهي بالتأكيد تجليات كثيرة لا يسع المجال لحصرها جميعا، لذلك نكتفي بذكر بعض منها على سبيل التمثيل:
– ارتفاع معدلات الاكتظاظ :
ويعتبر عاملا حاسما في جودة التكوين، لأنه يقف حاجزا حقيقيا أمام تفعيل بنود الإصلاح، ولا سيما ما تعلق منها بتنويع طرائق التكوين، وإجراء فصول التقييم والتقويم اللازمين، ومباشرة مهام المراقبة المستمرة التي نص عليها الإصلاح. وهذا كله يؤدي إلى إفراغ مقولات الإصلاح من محتواه.
– الهدر الجامعي:
ويشكل معضلة حقيقية لم يتمكن المغرب من تخفيض معدلاته المرتفعة، رغم المحاولات الحثيثة التي بوشرت في هذا المضمار، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بتدني جاذبية المؤسسات، وعدم قدرتها على إحداث التغيير المطلوب في بنيات الاستقبال المختلفة، وإقناع الطلبة بجدوى العرض التكويني المقدم لهم، وملاءمته لمتطلبات سوق الشغل.
– ضعف ميزانية البحث العلمي:
ونحن لا نثير قضية الميزانية التي تخصصها الوزارة لقطاع البحث العلمي؛ لأن الرفع منها يستدعي إحداث نهضة اقتصادية كبرى بالبلد. ولكننا نقصد مجال التدبير الذاتي لهذه الميزانية، أي غياب الاعتمادات الإضافية التي يفترض أن يساهم بها شركاء محليون ودوليون يعنيهم البحث في مجالات بعينها. وهو في الحقيقة نتاج عرضي لعامل أخر هو انعدام جسور التواصل بين فئة المنتجين للبحث العلمي وفئة المستفيدين المفترضين منه.
– طغيان التصور الإداري على بنيات البحث العلمي:
ومن تجلياته تكريس الطابع البيروقراطي في التعامل مع ملفات الاعتماد الخاصة بالدراسات الأساسية والعليا. وهيمنة المعايير الشكلية، وبناء الجدران الصفيقة الفاصلة بين التخصصات المختلفة، بحيث تغدو الشعب والمسالك جزرا منعزلة منكفئة لا رابط يجمعها ولا أهداف مشتركة.
– تدني مستوى التأطير والخدمات البيداغوجية:
ويرتبط هذا العائق بشبكة من العوامل والعراقيل المتداخلة والمتضامة، منها قضية الاكتظاظ المشار إليها أعلاه، وقلة العتاد البيداغوجي وتقادمه، وتغييب التكوينات المستمرة للطواقم الإدارية والتقنية، وعدم تشجيع المبادرات الرامية إلى الانفتاح على المحيط.
– فقر البنيات التحتية:
ونعني هنا افتقار كليات الآداب والعلوم الإنسانية إلى بنيات التكوين الأساسية: المخابر، وسائل البحث الميداني.. وبخاصة في الشعب والتخصصات التي تستدعي ذلك (اللغات، التاريخ، الجغارفيا، علم الاجتماع..). وهو ما يفقد العرض التكويني دعامته التطبيقية، ويبقيه حبيس التلقين النظري.
– انخفاض معدلات الحكامة في تدبير ملف المنح الجامعية:
وينبغي هنا استحضار أمر على قدر كبير من الأهمية، هو انتماء جل الطلبة المسجلين بكليات الآداب والعلوم الإنسانية إلى الطبقة الفقيرة، وهو ما يجعل من المنحة الجامعية عاملا حاسما في تحديد معدلات الهدر الجامعي، وعنصرا مساهما في ظاهرة التكرار الجامعي. وسببا في رفع/خفض مخزون الحافزية لدى الطلبة، والطلبة الباحثين.
– إدراج تخصصات ناقصة الجدوى، وفتح وحدات تكوين غير ذات أولوية:
ونعني به إصرار طواقم التدبير المسؤولة عن الهندسة البيداغوجية على اعتماد تخصصات كلاسيكية لم تعد قادرة على مسايرة التحولات السوسيوثقافية والسوسيواقتصادية التي يعرفها المغرب ومحيطه الإقليمي والدولي. ونحن نعني هيمنة التصور التقليداني في هندسة التخصصات والبرامج، وفتح وحدات تكوين وبحث لا تتناسب مع الرهانات التنموية التي ينبغي أن تنخرط فيها المؤسسة الجامعية.
ضعف مردودية المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي:
والقصد هنا أن نثير محدودية الأثر الذي تخلفه هذه الهيئة التقريرية في تنمية البحث العلمي بالمغرب؛ بسبب عدم وضوح الرؤية، وتداخل المهام والاختصاصات، وغياب الإرادة السياسية لدى الفاعلين في القطاع لتمكين هذه الهيئة من الإمكانات المادية واللوجستيكية والقانونية الكفيلة بتجويد الأداء.
هذا وتجدر الإشارة أيضا إلى وجود عوامل أخرى ذات صلة بوضعية الأساتذة الموكول لهم تنزيل نصيب من مقولات الإصلاح، إذ تعيش فئات عريضة منها وضعيات غير مشجعة على مستوى مسيرتها المهنية-الإدارية، أولا بسبب غياب الشروط الموضوعية اللازمة لمباشرة مهام التأطير الجيد، وثانيا بسبب سريان منطق الجحود، وغياب التقدير والتحفيز الضروريين، وبطء مساطر الترقي المعمول بها بالقطاع.
في ظل هذا المناخ المأزوم، تفقد المؤسسات الجامعية فرصتها في خلق التنمية وتحفيز الديناميات الاقتصادية والاجتماعية التي تنخرط فيها الجهات، وتكرس في الأذهان صورة سلبية عن المؤسسة الجامعية. ولذلك يجب العمل على تكثيف الجهود الرامية إلى بلورة استراتيجية بحثية واضحة، وتشجيع مشاريع تطوير كليات الآداب والعلوم الإنسانية، في أفق تجاوز العثرات، وتثبيت أقدام المؤسسة الجامعية في مجال تدبير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للساكنة، ومن المسالك التي نراها لازمة لبلوغ هذا المرمى على الأمد المنظور نذكر أساسا:
– استشراف الحاجات السوسيواقتصادية للجهات، من خلال إنجاز بحوث ودراسات رصينة، ثم فتح تكوينات جامعية ذات صلة بالمحيط الاقتصادي. وهو ما لن يتأتى إلا بعد تقويض أركان التصور الكلاسيكي الذي لا يرى من صلات ممكنة بين مخرجات كليات الآداب والعلوم الإنسانية واحتياجات سوق الشغل. وهذه غاية تقضي، بالضرورة، استدعاء الشركاء السوسيو-اقتصاديين للمساهمة الفاعلة في التدبير البيداغوجي والمالي للمؤسسات الجامعية، وذلك عن طريق الهيئات الجامعية المختلفة ( مجلس الجامعة، مجلس المؤسسة، الشعب ..).
– تعميم شعبتي علم الاجتماع وعلم النفس على كليات الآداب المغربية، وتحفيز المقاولات والشركات وغيرها من المؤسسات على الاستعانة بخريجي هاتين الشعبتين لتحسين ظروف العمال والمستخدمين، ومن ثم الرفع من الإنتاجية وتجويدها.
– التعجيل بفتح تخصصات ذات أولوية من قبيل: السياحة، وتدبير التراث المادي واللامادي، والصحافة، واللغات الأجنبية المختلفة، والترجمة، والسينما.. بسبب الحاجة الماسة إلى مخرجاتها في خلق التنمية المنشودة، ومواكبة الأوراش التي انطلقت في جهات المغرب المختلفة.
– تشجيع الإشراف المشترك على الأطاريح الجامعية؛ بهدف تبادل الخبرات، والاستفادة من التجارب التنموية الناجحة.
– تشجيع أساتذة المؤسسات الجامعية وطلبتها على المشاركة في الدورات التكوينية والتدريبية التي تنظمها المؤسسات الأجنبية؛
– استحداث نظام تعويضات منصف للأساتذة الباحثين، تزكيه مجالس الجامعات، على قاعدة الخدمات المنجزة والتكوينات المستمرة، والرصيد البحثي..
–  تشجيع مجموعات البحث، وإغناء الرصيد المكتباتي للجامعات..، ورقمنة المكتبات الجامعية، وإحداث مستودع رقمي للرسائل الجامعية التي أجازتها الجامعات المغربية، وهو ما سيساهم في توزيع المجهود البحثي على المجالات والمواضيع بشكل متوازن وعادل، ومن ثم الوقوف في وجه التعامل الحدوسي والاجتهادات الفردية في انتقاء مواضيع البحث العلمي.
– تثمين المنجز من البحوث والدراسات ذات القيمة العلمية الرفيعة، والعمل على نشرها واستغلال خلاصاتها وتوصياتها بهدف تنمية المحيط الاقتصادي والاجتماعي، وذلك من من خلال تولي جهة مختصة تابعة لمجلس الجامعة توكل لها الصلاحيات التامة لتنظيم البحث العلمي وتأطيره وتوجيهه، وكذا عقد الشراكات الوطنية والدولية، وتجميع الوسائل التقنية والموارد المتاحة وفق استراتيجيات متنوعة (قصيرة-متوسطة-بعيدة المدى).
هذا ونثير في ختام هذا المقال المقتضب حاجة البلد إلى مشروع نهضوي كبير يكون قطاع التعليم عماده ومرتكزه، يتم فيه هندسة إجماع حقيقي بين كل الفاعلين والمتدخلين على ضرورة إحداث ثورة تعليمية تقطع مع عثرات الماضي وانتكاساته المتعددة. حتى ولو تطلب الأمر تأجيل النظر في غيره من الأوراش الاجتماعية والاقتصادية؛ لأن التعليم الجيد هو الوحيد القادر على جلب الحلول الناجعة لكل المعضلات الاجتماعية (البطالة، الفقر، الجريمة ..)، ونحن لا نرى أفضل، في هذا السياق، من استدعاء قولة « ديريك بوك  Derek Curtis Bok » الشهيرة (الرئيس الأسبق لجامعة هارفارد): « إذا كنت تعتقد أن التعليم مكلف، فما عليك إلا أن تجرب الجهل، وإذا كنت تعتقد أن التنظيم يتطلب الكثير من الوقت، فما عليك إلا أن تجرب الفوضى ».

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *