Home»International»القراءة بين السلف والخلف

القراءة بين السلف والخلف

2
Shares
PinterestGoogle+
 

 

         بقلم  الدكتورأبي سيرين محمد علال

  Awabson2@gmail.com

 

مقدمة:

     كيف بحال الإنسان إذا سدت مسامعه عن صيحة الوحي الأولى الأبدية «  اقرأْ  » وتكرارها مرات عدة في القرآن الكريم ؟،وكيف به إذا عميت عيناه عن قراءة آية واحدة من المصحف الشريف ،أو حديث واحد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو صفحة واحدة من كتب العلم النافع في مختلف الفنون والصناعات ؟ إلا أن ينسلخ من إنسانيته ، ويفقد المائز الذي يفرقه عن البهيمية ، وما هوإلا العلم وحب القراءة والسعي من أجلهما.

    وكيف بالأمم والشعوب إذا انصرف أبناؤها عن طلب العلم النافع ، وابغضوا القراءة والكتاب وكل ما يتصل بهما ؟ ومالوا إلى اللعب واللهو والفراغ والنوم  وغيرها من سفاسف الأمور التي تبرأ منها الآدمية المكرمة وتأبــاها الإنسانية الحقة ؟ إلا أن تسقط هذه الأمم سقوطا أبديا ، ويجثم على وجودها ظلام ثقيل لا تستبين معه طريقا ، ولا تهتدي فيه إلى سبيل ،إلا سبيل الانهيار والتخلف والموت.

   لن أجيب عن هذه الأسئلة بتفصيل كامل في هذه الكلمة، بل حسبي من ذلك أن أشير إلى بعض ما كان عليه سلفنا الصالح من حب للقراءة وبذل كل نفيس من أجلها ، ومقارنة ذلك بما صار إليه حال جيلنا من عزوف عن القراءة والكتابة وبغض لهما .

القراءة عند السلف:

إن الذي أقصده بالقراءة في هذا المقام هو معناها القريب من أفهام الناس اليوم،والمعروف لديهم والمتداول في ما بينهم ، وهو المطالعة أي أن تأخذ كتابا وتتابع كلماته بعينيك أو تتلفظها بلسانك مع محاولة فهم معناها وترسيخه في الذهن والنفس.

  أما الذي أعنيه بالسلف فهم أولئك الرجال الأفاضل الذين سبقونا وخلفوا لنا تراثا علميا وحضاريا بنينا به حياة طيبة ، وأضأنا به تاريخا مديدا، وشهدت لنا به الأمم بالسبق والتفوق والنبل.

    والحق أن الحديث عن شغفهم بالقراءة وولعهم بالتصنيف والتأليف لا يمكن لهذه الورقات المعدودات أن تأتي بعشر ما كان عليه حالهم في ذلك ، لأنهم قطعوا فيه شأوا بعيدا ، وبلغوا مبلغا عظيما ،  ذهبت فيه عقول هذا الخلف إلى التكذيب وعدم التصديق.

   وقد تزاحمت أخبارهم في ذهني حتى سدت علي مجاري الفكر ، وجعلت اليراع حائرا بين بناني لا يدري ما يقدم وما يؤخر .  وذلك بما يدهشك من أخبارهم في عشق العلم ،والوله بالقراءة إذ تحس وأنت تتابع سيرهم أن وجودهم كان يتحقق بالعلم والتعلم ،وأن إنسانيتهم كانت ترتقي مدارج الكمال بالقراءة والكتابة. ولم لا وقد صار ذلك عندهم من فروض العيْن لا الكفاية ؟

   فكان بعضهم لا يعد الأيام التي لا يزداد فيها علما من عمره.وكان بعضهم ينسى طعامه وشرابه وأهله وهو يقرأ ويصنف، وبعضهم الآخر استغرقت رحلتهم في طلب العلم سنين عديدة تجرعوا فيها من الشدائد والمحن ما لا تقوى على تحمله إلا نفوس ذوي العزم من الرجال.. وإذا ما التفت مثلا إلى إقبالهم على كتاب الله قراءة وحفظا وتدبرا وجدت في ذلك عجبا ، إذ كان منهم من كان يختمه في اليوم مرة واحدة ، وكان منهم من كان يختمه مرتين ، وكان الشافعي رضي الله عنه من هؤلاء ، إذ يحكى عنه أنه كان يختم القرآن الكريم في شهر رمضان ستين ختمة.. وكذلك كان شأنهم مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع كتب الفقه والتفسير والأصول واللغة والشعر والأدب ، وحتى الفلسفة وغيرها من العلوم الأخرى.

   فهذا ابن عطية الأب والد المفسر المشهور يحكى عنه أنه كرر صحيح البخاري سبع مئة مرة ، وأورد القاضي عياض في ترجمة الفقيه المالكي أبي بكر الأبهري المتوفى سنة 375هـ قوله عن نفسه: «  قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمس مئة مرة ، والأسدية خمسا وسبعين مرة، والموطأ خمسا وأربعين مرة. » ودرس ابن التبان المدونة نحو الألف مرة، ووجد بخط الفارابي على نسخة من كتاب النفس لأرسطو: » قرأت هذا الكتاب مئتي مرة » وكان يقول أي الفارابي :« قرأت السماع الطبيعي لأرسطو أربعين مرة ، وأنا محتاج إلى معاودته. »

    وقد أورثهم حب العلم والقراءة حب كل ما يتصل بهما من جمع للكتب وإنشاء للمكتبات واعتنائهم بآلات النسخ والكتابة ، وتحدثنا كتب التاريخ عن مكتبات ضخمة تنافس في جمعها خاصة الناس وعامتهم وتفرغوا إلى قراءتها ، من ذلك مثلا ما نقل عن الحكم الناصر بالأندلس  الذي كان جماعا للكتب بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله قال عنه ابن حزم:« أخبري تليد الخصي وكان على خزانة العلوم والكتب بدار ابن مروان أن عدد الفهارس التي كان فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة ، وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين لا غير ، وأقام للعلم والعلماء سوقا نافقة جلبت إليه بضائعه من كل قطر. « 

    ولم يقتصر عملهم على جمع الكتب وإنشاء المكتبات ، بل تعدى ذلك إلى أخلاق علمية راقية سادت بينهم ،تدلنا على مدى طلب سلفنا الصالح للقراءة ، وسعيهم الحثيث لإشاعتها بين الناس ، وهو خلق إعارة الكتب في مابينهم ؛ لذلك تجد في كتبهم أبوابا ترغب في ذلك ، منها مثلا ماجاء في كتاب « الجامع لأخلاق الراوي والسامع  » للخطيب البغدادي ، وكتاب « جامع بيان العلم وفضله » لابن عبد البر القرطبي:

* باب الترغيب في إعارة الكتب

* باب كراهة حبس الكتب المستعارة عن أصحابها وما جاء في الأمر بتعجيل ردها إلى أربابها.

* باب شكر المستعير للمعير ……إلى غير ذلك من الأبواب الشيقة الرائقة.

   وداخل هذه الأبواب نجد كلاما ممتعا عن فضل العلم والعلماء ،و فصولا محرضة على القراءة والكتابة، وكل ذلك يدلنا على أن هؤلاء الرجال كانوا يتعبدون الله بطلب العلم  وجمع كتبه وقراءتها، و أنهم كانوا يرون ذلك فرضا واجبا عليهم .

    ومن أقوالهم في إعارة الكتب مثلا قول وكيع: » أول بركة الحديث إعارة الكتب «  .. وقول الزهري : »يا يونس إياك وغلول الكتاب ؟قال : قلت : وما غلول الكتاب؟ قال : حبسها على أصحابها « 

  ومن الشعر قول بعضهم ( خفيف ):

أيها المستعير مني كتابــا     ارض فيه ما لنفسك ترضـــى

لا ترى رد ما أعرتك نفلا     وترى رد ما استعرتك فرضـــا

  وفي باب شكر المستعير للمعير نجد شعرا منه قول أحدهم ( خفيف ) :

قد رددنا إليك أصلحك اللــه    مع الشكر ما استعرناه منكــا

ورأيناك أحسن الناس صبرا   واحتمالا لما حبسناه عنكـــــا

  وقد يتسع القول جدا إذا رحت أجلب إلى هنا ما قالوه في أدوات النسخ والكتابة كالمحبرة والقلم والحبر والكاغد وغيرها ، مما يدلنا على أن سلفنا الصالح رحمهم الله  كانوا محبين للقراءة، مقبلين على العلم والتعلم حتى ظهرت في الأجيال المتأخرة منهم ـ والتي لا تفصلنا عنهم سوى عقود من الزمن ـ  كتب تحمل عناوين دالة على شغفهم بالقراءة وانشغالهم بها لأوقات مديدة، منها كتاب  » ساعات بين الكتب  » وكتاب مطالعات في الكتب والحياة « للعقاد « ،وكتاب  » وحي القلم للرافعي  » وغيرهم كثير ……

 وقبل هؤلاء قال المتنبي بيتا حكيما سارت به الركبان في كل مكان ، ورددته الأجيال على مر الأزمان وهو قوله:

أعز مكان في الدنا سرج سابح    وخير جليس في الأنام كتــاب 

القراءة عند الخلف :

  لم يمتد حب القراءة إلى الخلف بالقدر الذي كان عند السلف ، ولم يعد طلب العلم عندهم يغري ويحمل الإنسان على هجر وطنه ويبذل كل ما عنده من أجله، ويتحمل الشدائد والصعاب لتحصيله، لقد فقد الكتاب لذته وسحره وأصبح مهجورا في رفوف المكتبات ، وأقبية الزوايا إلىذلك الكتاب المؤلف من الصور والألوان والذي ليس فيه شيء من العلم والذكر للإنسان.

   ولقد أحست بعض الشعوب والدول بخطر عزوف أبنائها عن القراءة ، وهو خطر داهم مبير جعل أصوات عقلائها تنادي  بضرورة التصدي لهذا الشر القادم ، والعمل بجد على نشر عادة القراءة ، وجعل الكتاب النافع محبوب الإنسان الأول بعد الفطام ،وطالبت حكوماتها بالإنفاق الطائل على ذلك حتى تعود القراءة مرغوبة والكتاب مطلوب ؛ لأن انصراف الأبناء عن القراءة والعزوف عنها يعني اتجاه البشرية إلى نفق مظلم عظيم الأهوال والمصائب أخفها الموت، ومما أدرك جيلنا من حكم السلف قولهم : » إن الأمة التي لا تقرأ تموت قبل الأوان « .

  وكم يمتلئ قلب الإنسان حسرة وأسى حينما يقابل شبابا حسنو الثياب والمظهر ، ولكن ما أن ينطقوا أو يتحدثوا حتى ينجسوا بلسانهم رونق ما  يلبسون ، وكأنهم نسوا أن الإنسان مخبوء وراء لسانه وليس مخبوءا وراء ثيابه.

     ولا عجب في ذلك فالشاب المعاصر قد عقد العزم على هجر القراءة ومعاداة الكتب ، إذ تشير بعض الإحصاءات إلى مؤشرات خطيرة على ذلك ، منها مثلا أن معدل إنفاق الإنسان المغربي على شراء الكتب لا يتعدى درهما واحدا في السنة ،ومعدل قراءته للكتب لا يتجاوز ربع صفحة في العام ،ولا  ينزل إلى السوق المغربية من الكتب المؤلفة جديداإلا ألف عنوان كتاب  في السنة ، أغلبها مترجم من الفرنسية أو الإنجليزية.

   ولاشك في أن هذا الواقع المرالخطير الذي وصل إليه حال القراءة ناتج عن أسباب مختلفة ، منها ما يتعلق بالفرد ، ومنها ما يتصل بالأسرة ، ومنها ما له صلة بالاتجاه العام للمجتمع ، ومنها ما يرتبط بالمؤثرات القادمة إلينا من وراء الحدود عبر وسائل الإعلام المختلفة .

  وتفصيل القول في هذه الأسباب قد يخرج بهذه الورقة إلى التطويل الممل غير المحمود ؛ ولذلك أرجئ البحث فيها إلى مناسبة أخرى.

 وحسبي هنا أن أشير إلى أن الإنسان المعاصرـ ولاسيما في البلدان المتخلفة ـ قد ضعفت عزيمته ، وانحطت همته ، وثقلت نفسه على خطو خطوة واحدة في سبيل العلم والقراءة ، والعبرة هنا بالغالب الأعم لا بالأقل المعدود .

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.