Home»International»الرجل ُ الذي رأى أنه يُذْبَحُ في المنام

الرجل ُ الذي رأى أنه يُذْبَحُ في المنام

0
Shares
PinterestGoogle+

المقامات الدفية : الدف الرابع والعشرون  –  الرجل ُ الذي رأى أنه يُذْبَحُ في المنام

 

حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل العلم والتدريس ، اشتهر بلعنه لكل أنواع التدليس ، ولكل من يدعو ويروج للتيئيس .أجرى له أهل الحل والعقد والتجريب ، سنتين كاملتين من التمرين والتدريب ، حتى استوى لديه الترهيب والترغيب.طلبوا منه أن يكون للتلميذ صديق وحبيب، عالم نفس واجتماع وطبيبا ، وأن يجعل ضميره في كل خطوة رقيبا. يروي بعض الفضوليين المغرمين بالبصبصة ، أن صاحبنا أفنى أيامه في الدعم والخصخصة ، حتى لا يُحشَرَ يوما مع ذوي المخمصة . مرت أيام وشهور وأعوام ، وهو يردد نفس ركاكة الكلام ، والمذكرات تنهال عليه في اليقظة والمنام .وقد حدث يوما أن عُيِّنَ وكُلِّفَ كغيره ، ولبى تلبية المستجيب بصَبْرِه ، حتى لا يُمَسَّ في ترقِّيه وسَيْرِه . ظل أسبوعا كاملا قد ينقُص أو يزيد ، باحثا في كل ما ملك من كنانيش عما يريد ، ومطلعا على كل ما هو قديم أو جديد .يُضيف فضولي من أهل الجميل والعرفان ، أن صاحبنا هيأ جذاذته بكل تفان وإتقان ، وكان موضوعها تحت عنوان حقوق الإنسان ، بين الوهم والتمني والحق والباطل والبهتان . حدد ورسم كل الأهداف والمهارات والكفايات ، حتى يرضى عنه مراقبو الرخص والجبايات ، بعد أن ميز فيها بين القَيِّم والنفايات. يعلق بعض الفضوليين الكرام الأعزاء ، أنه كان متفانيا في عمله بكل العناء ، ويُؤدي كل فرائض الوظيفة في المدن والخلاء . كان يحضر جذاذاته ويجتهد في سيره ، ويحترم الوقت حتي لا يساهم في هدره ، ويؤمن بالتفتيش خيره وشره . ألقى على الجذاذة نظرته الأخيرة ، ثم نام مطمئنا حتى منتصف الظهيرة…

دخل قاعة الدرس وكله عزم واستعداد ، تُحيط به من كل جانب كتب وأقلام ومداد ، وعيناه على الجذاذة بهما ارتداد .كتب على السبورة التاريخ وعنوان الدرس ، والتلاميذ خلفه متطايرين مبتهجين في عرس ، مستعدين مهيئين لرد أي طارئ أو لَبْس . طلب في وداعة أن يُخرجَ التلاميذ أدواتهم ، كما تعودوا على ذلك طيلة سنواتهم ، وهو محتاط من أن يقوموا بتفجير عبواتهم . أخرج التلاميذ حبالا وأسلاكا وسكاكين ، وكنانيش ممزقة وحلولا وتمارين ، ومويايلات وسماعات وبراثين . بدا له القسم كزقاق مليء بالزحام ، وقد امتلأت جنباته بصليل الأقلام ، والطاولات تئن تحت وطأة الأقدام . أعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأدرك أن يومه سينتهي لا محالة في جحيم ، ولعن اليوم الذي ولج فيه وظيفة التعليم . نشر جذاذته كاملة على سطح مكتبه ، ونفض غبارا كان قد علق بمنكبه، وجف الدم في العروق والريق في منبعه. أخرج من درجه قنينة صغيرة زجاجية ، وأفرغ فيها قليلا من دمه بحركة ارتجاجية ، كما علموه طبعا في التربية الاندماجية . أغمس في محلول القنينة قطعة طبشور ، والتلاميذ من حوله يحاولون اكتشاف المستور ، بين متطفل ومستنكر ومندهش ومبهور . أخذ قطعة الطبشورة وأعاد كتابة العنوان ، حتى يبدو لونه الأحمر واضحا للعيان ، « درس حقوق وواجبات الطفل ، بين الانضباط والسيبة والطَّبل ، ما لا يُؤخذ بالحوار يُؤخذ بالرَّكل  » …

سجل التلاميذ العنوان بكل حماس ، متذوقين ما به من طباق وجناس ، موزعين غمزاتهم بين إعلان واختلاس . يروي بعض فضوليي شبكة الفايس بوك ، أن صاحبنا لما ابتدأ درسه بسؤال منهوك ، قفز التلاميذ من أمكنتهم يتصايحون كالديوك . حينها وقف الأستاذ وسطهم وقفة ثابتة ، وبدت له في آخر الصف نظرات للشر كابتة ، انسل من بينها رأس صلب كبير ، وكان قد سخر له كل ما يملك من تدبير ، وما بدا عليه من تبديل ولا تغيير . وقف الرأس الصلب الكبير في جنون ، تحيط به الأيدي والأرجل والعيون ، وقال مخاطبا الأستاذ بصوت حاد مسنون : هل تُلقي يا عزيزنا أم نحن الملقون ؟ تلقف الأستاذ التحدي في صمت وكله هدوء، وأدرك أن ذلك الرأس لازال به نتوء .وأنه كبيرهم الذي علمهم كيف النشوء .

طرح صاحبنا أسئلة وانتظر الجواب كثيرا ، وما سمع إلا همسا وضجيجا وزفيرا، وضوضاء مزعجة وتثاؤبا وشخيرا، شرد في هذا الفضاء المسدود في ذهول ، وتذكر الشعر الواصف للمعلم بالرسول ، وكيف صيره الزمان إلى مصفوع ومركول . وكيف أن النحو أصبح لحنا وانتهاكا ، وحساب الرياضيات لا حل له ولا فكاكا ، وقواعد الأفرنج تشهد حربا وعراكا . عاد إلى جذاذته من جديد ليتبصر الطريق ، فوجد حروفها قد حالت وفقدت كل البريق ، وتداخلت مراحلها وأصبحت كبناء عتيق . نظر خلسة إلى عقارب ساعته ، وتمنى تسريعها قدر استطاعته ، بعد أن تأكد يقينا من بوار بضاعته . أعاد السؤال مشيرا وملمحا للجواب ، عله يتخلص من مخاض هذا العذاب ، وسط سيل من التهكمات والتربص والسباب . تقدم الرأس الصلب الكبير بزهو نحو السبورة ، وغير تركيب العنوان بما تبقى من الطبشورة ، والجذاذة على مكتب الأستاذ بين مطوية ومنشورة . استحضر الأستاذ جحافل المذكرات في عجالة ، واستنتج أن هذا ضد الهدر المدرسي لا محالة ، وأن ما قام به التلميذ لا عيب فيه ولا جهالة . قد يكون في الشكل تشبيها أو مجازا أو كناية ، المهم أن يتحقق ولو جزء من الكفاية ، لذا وجب التعامل مع الوضع بكل عناية . أو على الأقل كما تحض وتوصي به كل المذكرات ، حتى يتفادى في درسه كل المنغصات وكل المعكرات ، لأن المدرس الماهر هو الذي ينبطح لكل المتغيرات . ألقى نظرات سريعة على الجذاذة من بعيد ، ولاحظ أن حروفها يخرج من بين نقطها الدم والصديد ، قفز فيها التحليل وتأخر فيها التمهيد والرصيد .وفي رواية أحد الفضوليين المحنكين الكبار ، قال : لما كتب صاحبنا وسط السبورة بعض الأفكار ، أمر التلاميذ بتسجيلها بكل عزم وإصرار، واسترسل في توزيع الأنشطة والأدوار . مر بثقة زائدة عن اللزوم بين الصفوف ، ليتفقد ما تناثر على دفاترهم من حروف ، متحسبا لكل ما قد تأتي به الظروف . نبه أحدَهم إلى ما كان قد ارتكبه من غلط ، إلا أن صديقه اعتبر ذلك نوعا من الشطط ، فلم يعد له بد من أن يأخذ الأمر من الوسط . عاد إلى السبورة لإتمام التحليل والشرح ، فأكثر من العويل والنقيق والنبح ، والرأس الصلب الأكبر يهدده بالذبح . تفحص الجذاذة ليعصر ما تبقى فيها من كلام ، وهو يرجو أن تمر الحصة بخير وسلام ، بعد أن حوصر بالخطر من خلف ومن أمام . وفي لحظة غادرة لم يحسب لها أي حساب ، رأى نارا في أفواه التلاميذ مهددة بالعقاب ، وأدرك أنه سينضاف إلى جحافل الرقاب .  رأى التلاميذ وقد أحاطوه بأقلامهم وحبالهم ، يحاصرونه بسكاكينهم وكتبهم ونبالهم ، وهو لا يملك ما ينجيه من قتالهم . امتدت يد تعبث ببطنه في خفة ومهارة ، حاول أن يصد غدرها بكل ما يملك من مهارة ، لكن زوجته أيقظته بكل خوف ومرارة . وجد نفسه لا زال يحضر جذاذته على مضض ، فأزال من على عينه الغشاوة ومحا ونفض، غير آبه إن كان أراد ذلك أو أبى أو رفض . أخبرته زوجته عما تناقلته صحف القيل والقال، وكيف ذُبِح صديق له لم يكن على بال ، لن ينفع مع إعاقته لا سجن ولا مال . رجع إلى الجذاذة وأجرى عليها بعض التغيرات ، مزيلا كلمات ومضيفا بعض التعبيرات ، وقدر لنفسه ما رُسِمَ له من تقديرات . ثم طوى الجذاذة سبعا سبعا ، ومحا مضمونها دمعا دمعا ، وتمدد ميتا قمعا قمعا . وفي رواية أخرى : أنه لما علم أن صديقه المذبوح بإصرار ، رغم أنه يعمل بالقرب من مركز القرار ، تساءل عن وضعه كيف سيكون خارج المدار ، ثم ندم ندما كثيرا ، ومات دون أن يصدر شخيرا .

يتبع مع فضول آخر .              محمد حامدي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. سامح درويش
    31/12/2012 at 10:49

    تحية السي محمد حامدي.. هي مقامة الساعة .. حبكت بخفة وبراعة..حفظنا الله وأياك من شر الوضاعة ..

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *