Home»National»وضعية نادل المقهى المزرية في وطننا في غياب قانون شغل يحميه

وضعية نادل المقهى المزرية في وطننا في غياب قانون شغل يحميه

0
Shares
PinterestGoogle+

وضعية نادل المقهى المزرية في وطننا في غياب قانون شغل يحميه

 

محمد شركي

 

تابعت خلال هذا الأسبوع برنامجا بثته قناة الجزيرة القطرية ، تناول موضوع  نوع من العبودية يمارس في  بعض الضيعات  بالولايات المتحدة الأمريكية حيث يشغل فيها بعض اللاجئين من دول جنوب شرق آسيا ، فتحجز جوازات سفرهم ، ويستغلون لسنوات في الخدمة مقابل الطعام والشراب كما كان حال الرقيق في العصور الغابرة . وذكرني هذا البرنامج بنوع من العبودية لا زالت عندنا، وهي عبودية الخادمات  في البيوت ، وعبودية الخدم والنذل ـ بضم النون والدال ـ ومفردها نادل في المقاهي . فالنادل أو » الجرسون  »  وهي كلمة معربة عن الفرنسية تطلق على خادم زبناء المقاهي ، وهي ما يقابل  الغلام ، وهي كلمة  تعني العبد والأجير ، كما أنها تقابل الوليد وتعني الصبي  والعبد . وفي الذكر الحكيم قال الله تعالى  في وصف أحوال أهل الجنة : ((  يطوف عليهم  ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ))  والولدان  أو الولدة  ـ بكسر الواو ـ مفرد وليد وهو الصبي أو العبد . والوليدية  وهي حالة الوليد  تعني الخادمية  والغلومة والغلومية  ـ بضم الغين واللام ـ  والغلامية ـ بضم الغين ـ  وهي حالة الغلام . ومهنة النادل  قديمة قدم التاريخ عرفتها معظم المجتمعات البشرية التي عرفت شكلا من أشكال الحضارة. ومعلوم  أن  المقاهي  مفرد مقهى  وهو مكان  يكثر فيه شرب القهوة، وهي  قديمة أيضا، وتسمى كذلك القهوة ، وتجمع على قهوات  مجازا ، لأن القهوة تطلق في الأصل على الخمر ، ثم صارت تطلق على شراب البن  ،  بل سمي البن قهوة أيضا مجازا . وفي اعتقادي أن تسمية شراب البن بالقهوة سببه شبه بين لونه ولون الخمر، فضلا عن شبه بينهما في التأثيرعلى من يشربهما مع فرق بين ما تحدثه الخمر من سكر، وما يحدثه شراب البن من وفتور أو نشوة حسب  أحوال من  يشربه. وإذا كانت  القهوة أو المقهى في الماضي  عبارة عن خمارة ، فإنها صارت في هذا الزمان تجمع بين الأمرين في كثير من البلدان ، بينما  تقتصر في بلدان أخرى على تقديم شراب البن وغيره من أنواع الشراب غير المسكر . وإذا كان نادل الأمس يسقي الناس خمرا أو قهوة يومئذ ، فإن نادل اليوم يسقيهم شراب البن ،وغيره من أنواع الشراب الغازية والمعتصرة من الفاكهة، وشراب الشاي أخضره وأسوده ، وشراب المستحلبات  والألبان ، وقد تقدم مع كل أنواع الشراب مأكولات  وحلويات أيضا  ، وهو ما لا يستقيم مع  عادة شرب القهوة ،لأن فعل  أقهى يعني دوام الشارب  شربه للقهوة ،وقلت شهوته للطعام  ، لهذا نجد غالبية الناس الذين يتذوقون شرب القهوة لا يخلطون شربها مع أكل  أي يقهون  ـ بضم حرف المضارعة وتسكين القاف وضم الهاء ـ   ويتردد  معظم الناس من كل الشرائح الاجتماعية على المقاهي  على اختلاف أصنافها ومستوياتها  ، وقلما  يحسون بوضعية العبودية التي يعيشها النادل الذي يقدم لهم الشراب . وهذا النادل إنسان بائس دفعته الفاقة والحاجة إلى  امتهان الخدمة في المقهى . وهو في عمله اليومي  يحاكي عمل  العبد  زمن العبودية ، ذلك أن له سيد ، وهو رب المقهى ،وهو ولي نعمته  الذي يشغله وفق هواه  بالثمن الذي يروقه ، مع فرق بين عبودية العبد زمن العبودية ، وعبودية  النادل اليوم ، حيث  كان العبد في الماضي  لا يستطيع أن  يتخلص من  العبودية لأنه كان ملكا لسيده،  بينما نادل اليوم  يهدده طرد مشغله ويسلمه إلى عبودية البطالة والفاقة ، لهذا يجد نفسه عبدا للمشغل  ، ويتحمل الأذى الصادر عنه  خشية عبودية البطالة والفقر. والنادل ينفد أوامر سيده رب المقهى  ، وهي عبارة عن تلبية لرغبات الأسياد الذين يرتادون المقهى . والنادل  لا توجد في لغته سوى عبارة السمع والطاعة والشكر والامتنان  لرب المقهى ولضيوفه الزبناء . وهو يتحمل كل أنواع الإهانات من الجميع في صمت . وإذا ما حدثته نفسه  بالثورة لكرامته أمر للتو  بخلع  بذلة الخدمة  ،والخروج من أوسع أو أضيق أبواب المقهى غير مأسوف على طرده شر طرد . ويعمل النادل  منذ ساعات الصباح الأولى إلى ما بعد زوال الشمس ، ومن زوالها إلى غسق الليل  يطوف  بطبقه  ومنديله بين الزبناء ،  يبتسم لهم رغم أنفه مهما كانت ظروفه العائلية ، ولا يحق له أن يظهر حزنا حتى وإن كان حزينا ،لأن الزبناء  لا يجوز ولا يحق  العبوس في وجوههم . وعلى النادل أن  يقبل كل أنواع الدلال والدلع  الصادر عن الزبناء . وقد  يضطر إلى تغييرما يطلبه الزبناء المدللون أكثر من مرة  ، فيتحمل هذا النادل المسكين وزر دلالهم حيث يخصم رب المقهى من مرتبه مقابل ما رفضه الزبناء المدللون من مشروبات لم ترقهم . وقد  يطلب  بعض الزبناء  من الذين لا خلاق لهم من النادل  أن يقدح لهم الولاعة ليشعلوا سجائرهم  في صلف  وكبرياء . وقد يطلب بعض الزبناء من النادل ما يطلب من الخادم العبد . وقد يشغل رب المقهى النادل في  قضاء كل حوائجه حيث لا يقتصر عمله على  شغل المقهى ، بل  يصير خادما  لرب المقهى في بيته أيضا  يكنسه وينظفه ، ويرافق  أبناءه إلى مدارسهم ، ويقوم بأعمال الخدمة المختلفة  حتى  جمع القمامة . ومقابل هذه العبودية المقيتة  لا يصل أجر النادل الحد الأدنى للأجور ، ولا يشمله ضمان اجتماعي ولا تغطية صحية ، ولا تأمين، ولا تقاعد له  إذا شاخ وهرم  ، بل أجره  لا يكاد يغطي ما يستهلكه في يومه من أكل أو شرب . وقد يقول قائل إن النادل  يغمز الزبناء كفه  ببعض القطع النقدية  كلما  قدم لهم خدمة ، الشيء الذي يرفع من أجره ، ونقول  إن  الأجر الزهيد لا ترفعه  القطع النقدية التي هي في حكم الصدقة . فكم من نادل  يجمع بعض  هذه النقود ،فيضطر لصرفها إذا ما استغفله بعض الزبناء  وانصرفوا دون أداء ما عليهم  ، أو  زلت به قدمه فكسر ما في صحنه من أكواب .وفضلا عن هذا لا تعتبر القطع النقدية  التي تعطى للنادل قارة، بل هي خاضعة  لدرجة أريحية الزبناء  وكرمهم وهي قضية أمزجة لا يحكمها ضابط . وويل للنادل إن  أخطأ العد والحساب ،فانصرف عنه الزبناء  وقد دفعوا له ما دون  واجب  ما استهلكوا . أما إن  حصل على زيادة أو فضل ، فويل له أيضا مع الزبناء ومع رب المقهى الذي قد يسرحه للتو سراحا غير جميل  دون التماس عذر له . والنادل  لا يمكنه أن يحلم كما يحلم غيره من البشر  بحياة كريمة   تبدأ بقفص ذهبي  ، أوتحت سقف بيت  يسكن فيه  إلى زوج ، ولا حق له في أسرة . وقد  يبلغ النادل ما بعد أشده من سن الأربعين  دون أن يخامره مجرد حلم بالتفكير في  تكوين أسرة  تماما كما كان حال الرقيق في أزمة الرق البغيضة . وكل ما يفكر فيه  النادل هو أنه خلق لخدمة الناس. ولا يحدث إلا نادرا أن يجلس زبون عاقل كيس  رقيق القلب  في مقهى إلى نادل يسأله عن حاله المزرية  .  وأنا أدعو  قراء هذا المقال من الفضلاء إلى تخصيص بعض الوقت للنادل إن جلسوا في مقهى ، وسؤاله عن حاله  للتأكد من استمرار العبودية في زماننا بشكل رهيب  دون أن يشعر بها الناس في  زمن الحريات العامة  يا حسرتاه . فمتى سيتحرك ضمير المجتمع لإنصاف هذه الفئة  البائسة المظلومة ؟ ومتى  سيوجد قانون للشغل خاص بهذه الفئة  المستعبدة في القرن الواحد والعشرين ؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *