Home»National»المنظومة التربوية المغربية في ميزان القيم

المنظومة التربوية المغربية في ميزان القيم

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام

على أشرف المرسلين

المنظومة التربوية المغربية في ميزان القيم

بقلم: عبد المجيد بنمسعود

مقدمة

بين يدي الموضوع :

مما هو معلوم لدى العارفين بفلسفة الحضارات وبطبيعة أسسها ودعاماتها، أن نظم التربية والتعليم تعد في صدارة تلك الأسس والدعامات. ذلك بأن نظام التربية والتعليم في أمة من الأمم ، هو بمثابة الجهاز البالغ التعقيد،أو العقل الناظم الذي يحمل أسرارها، ويستبطن مميزاتها وخصائصها ، فأنت بدراستك لهذا النظام وتحليلك لأسسه ومكوناته، وتفكيكك لمفرداته على مستوى المقاصد والأهداف، وعلى مستوى منظومة القيم الثاوية في مجموعه،الجارية في عروقه ومفاصله،تستطيع أن تصدر حكمك على تلك الأمة، من حيث كونها أصيلة أو هجينة، حصينة أو قابلة للاختراق،حاملة لعوامل القوة والاستمرار، واعدة بالعطاء، أم منخورة البناء، حاملة لعوامل الفناء.
ولعل أحد أبرز مؤشرات النظام التعليمي التربوي الدالة على درجته من المصداقية والاستواء وأحقيته في الوجود،هو مقدار ما تحظى به مكوناته وأركان بنائه من القوة والمتانة في ذواتها، ومن الانسجام والتكامل فيما بينها. فإذا كانت المكونات والأركان مهزوزة مغشوشة من جهة، ومتنافرة متصادمة من جهة أخرى، فإن ذلك مؤذن بخراب  » النظام » ثم انهياره ولو بعد حين، وهو قبل انهياره يخلف وراءه ركاما من الضحايا وأرتالا من الجرحى والمعطوبين،أما الخارجون من تحت أنقاضها سالمين، ففضلا عن ندرتهم، فإنهم لا يسلمون من مخلفات الرعب والفزع ، وأصوات الصراخ والأنين.
سأحاول – بإذن الله وتوفيقه- في هذه الورقات، أن أسلط بعض الضوء على المنظومة التربوية المغربية، وذلك من خلال منظومة القيم السارية في شرايينها المتحكمة في أعصابها، المحددة لنتاجها ومخرجاتها.
فما هي القيم الفعلية التي تمسك بزمام الأمور في منظومة التربية والتكوين في المجتمع المغربي ؟ وما هي المخرجات المرشحة لأن تسفر عنها تلك المنظومة في الأمد القصير أو المتوسط أو البعيد؟
سأحاول الجواب على هذا السؤال من خلال جرد السمات العامة التي
تطبع تلك القيم في ذواتها، وارتباطها بمتعلقاتها التي لا تنفك عنها بحال.

أولا: سمات منظومة القيم:

1-شركاء متشاكسون:
إن أبرز سمة وأخطرها على الإطلاق، تميز تلك المنظومة، هي سمة
التشاكس بين العناصر المكونة لها. فنحن عندما نقرأ النقطة المتعلقة
بالاختيارات والتوجهات في مجال القيم في « الكتاب الأبيض »، يبدو لنا
ذلك التشاكس في مظاهره الصارخة، إنها اختيارات وتوجهات لم تتورع
عن أن تجمع في جعبتها بين ما لا يحتمل التواجد والاجتماع، إلا على حلبة
التنازع والصراع: ) قيم العقيدة الإسلامية- قيم الهوية الحضارية
ومبادئها الأخلاقية والثقافية- قيم المواطنة- قيم حقوق الإنسان ومبادئها
الكونية(. فنحن نتساءل منكرين:

مالذي يجمع في صعيد واحد بين قيم
العقيدة الإسلامية، وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية،والحال أن مرجعية
كل منهما على طرفي نقيض، إذ أن مصدر الأولى سماوي رباني،بينما
مصدر الثانية أرضي إنساني؟وهل يليق أن يتخذ الإنساني ندا لما هو
رباني، إلا إذا اختلت الموازين واختلطت الرؤى لدى من تولوا كبر إقرار
هذا الجمع الغريب بين ما لا يقبل الاجتماع؟ ولمعترض أن يعترض قائلا:
أوليست هنالك قواسم مشتركة بين هذه وتلك؟ والجواب على هذا
الاعتراض من الوضوح بمكان،لأن ما يبدو قواسم مشتركة لا يتجاوز
الظواهر والألفاظ، فقيم أو مبادئ من قبيل الحرية والكرامة والمساواة على
سبيل المثال،هي في المرجعية الأولى غيرها في المرجعية الثانية على
مستوى المفاهيم والأبعاد.
وما الذي يجمع بين قيم العقيدة الإسلامية، وقيم الهوية الحضارية ومبادئها
الأخلاقية والثقافية ؟ فإذا كانت هذه الأخيرة في عرف مهندسي النظام التربوي
نتاجا شرعيا للأولى فلا معنى للتكرار، إذ من قبيل المسلمات لدى العقلاء أن
الهوية الحضارية للشعب المغربي، لم تتخلق إلا في رحم قيم العقيدة
الإسلامية.أما إذا كانت في عرفهم وإدراكهم ذات كيان مستقل،فهذا تمزيق
للمنظومة التربوية بنية وسبق إصرار، وإكراه لها على أن تسير بأكثر من
من رأس، وهذا لعمري من المنكرات الكبرى والصارخة في عالم التربية،
والتي لم تتجرع ويلاتها إلا شعوب غلبت على أمرها فأكرهت على قبول ما
تأباه الشعوب المستقلة المالكة لزمام أمرها.
أما قيم المواطنة فينسحب عليها نفس التعليق السابق، فهل-يا ترى- أينعت
هذه القيم إلا في ظل قيم العقيدة الإسلامية ؟ أم هو نزوع إلى تنصيب المواطنة
مثالا مجردا من أي ولاء لقيم الدين؟

وهل يدخل ذلك في نطاق الإمكان؟
والحقيقة أن تجارب الأمم-وضمنها الأمة المغربية- قد دلت على استحالة ذلك،
فهل خرجت الوطنية التي كافحت المستعمر الدخيل إلا من ثنايا قيم عقيدة
الإسلام التي صنعت الرجال والنساء، وبثت في أعماقهم شيم البطولة والفداء،
والشهامة والإباء؟
وهل بدأت عملية انسلاخ الناس من الوطنية والمواطنة إلا بعد أن تسللت إلى
نفوسهم وطبائعهم قيم الليبرالية المسكونة بالشراهة والأنانية، وقيم العلمانية
المجافية لقيم السماء؟ إن الواقع ليشهد بألف دليل ودليل على أن ما طاله من
تفلت وفساد، لم يكن إلا نتاجا وبيلا لتعرية الناس من مظلة قيم التربية
الإسلامية التي تحميهم من غوائل النزعات الشريرة ، وتحررهم من سلطان
الأهواء. وما إخفاق عمليات أو حملات ما يسمى بتخليق الإدارة ومحاربة
الرشوة والارتشاء إلا دليل قاطع على أن هذا المجتمع لا يسلس قياده إلا لخطاب
مشحون بقيم الدين، في ظل نظام يحرسه سلطان الدين.
خلاصة الكلام في هذه القضية أن منظومة التربية والتكوين المغربية محكومة
برؤوس متعددة، بمرجعيات متشاكسة، وأصل الداء في كل ذلك هو الانطلاق
في تأسيس تلك » المنظومة » من التلفيق الذي سمي توافقا وما هو بتوافق، وهل
يصح في الأذهان أن يتوافق العقلاء على نشدان إصلاح نظام التربية والتكوين
في البلاد بإقرار مرجعية متعددة المشارب والأصول؟ بما يستتبعه ذلك من
اضطرابات وانفصامات تهدد الأجيال الناشئة في عمق كيانها النفسي، وتصيبها
بإعاقات بليغة تنتهي بالكساح الحضاري الشامل. إنه من غرائب الأمور أن
يقع التجاهل عند كل زعم للإصلاح في أي قطاع من قطاعات المجتمع، للسنن
والقوانين التي لا يورث القفز عليها إلا الإخفاق المحتوم،والمراوحة في دائرة
التخلف. فإلى متى تستمر هذه المعاندة لسنن العمران والبناء الحضاري؟ إن
أعمارا تمضي وطاقات تهدر، وفرصا للإنقاذ وترميم الذات تضيع من بين
أيدينا، بسبب هذا الإمعان في المكابرة والعناد.

 

2- نقص في الاعتناء بحراس القيم : عندما يتعلق الأمر بغرس القيم في ظل منظومة
تربوية ما، كيفما كانت هذه المنظومة وفي أي بيئة كانت، فإن من أولى
الأولويات في عدة الإعداد وعدة التنفيذ على حد سواء، ضمن استراتيجية التربية
والتكوين، الاعتناء الدقيق بمن يتولون أمر التنفيذ بتنزيل مفرداتها، وذلك
بتهييئهم تقنيا وأدبيا لتلك المهمة الشاقة والصعبة. غير أن هذا التهييئ يتخذ
صبغة خاصة في ظل منظومة تربوية تمارس فعلها في مجتمع صنعه الإسلام
وغذته ثقافة الإسلام،لأنها ثقافة تتخذ فيها القدوة طابع المشكاة التي ينفذ منها نور
القيم في جاذبيتها وصفائها، فهي تشكل بهذا الاعتبار جزءا وافرا من القيمة
المراد بثها وإرسالها إلى المستهدفين بها. وإن عملية البث في ظل غياب تلك
القدوة أو حضورها الباهت الكسيف،توشك أن تفقد قوة الإرسال، فتضيع الجهود
سدى، لأنها افتقدت لعنصر مراعاة أحد أبرز قوانين التعامل مع النفوس البشرية
وهو نصب المثال الحي لقيمة من القيم، والذي هو عين القدوة، فلا تربية بدون
قدوة.
إن من مثالب منظومة التربية في المغرب،عدم إيلائها هذا المقوم قدره من
العناية والاهتمام،لا من حيث مقاييس القبول والانتقاء، ولا من حيث فلسفة
التكوين، التي تفتقر في غالب الأحوال، إلى الشحنات المعرفية والقيمية الكافية
لتأهيل المعلم أو الأستاذ لأداء رسالته على الوجه المطلوب، في نقل القيم إلى
الأجيال.
لقد ابتليت « منظومتنا » التربوية منذ بدء اشتغالها بطائفة من الناس لا يتجاوزون
في نشاطهم وظيفة الارتزاق في أحسن الأحوال، أما في أسوئها فإنهم يتحولون
إلى مجرد سوس ينخر بناء الأمة، فما أكثر ما كان هؤلاء يمثلون جماعة من
الإيديولوجيين الذين يسطون على عقول الأبرياء، فلا يجدون غضاضة في خرق
سفينة الأمة بلا وازع من رحمة ولا ضمير، لأنهم يفتقدون لأي منهما.
فلم يكن من النادر أن تجد من يجاهر في صفوف التلاميذ بمهاجمة ثوابت الأمة،
وتهوين شأنها في أعينهم، فيعرضونهم جراء ذلك لعواصف هوجاء من الشك
والاضطراب، لا ينقشع دخانها وغبارها الأسود الداكن، إلا بفرصة سعيدة تتأتى
من أستاذ ذي حكمة بليغة وقدوة نفاذة، فيكون فعل حكمته أشبه بفعل عصا موسى
في تلقف ما صنع السحرة.

 

3-منظومة قيمية تتحرك في فضاء مشحون بالتناقض: إن منظومة القيم حتى في حالة
اتسامها بالتماسك الداخلي، إذا تحركت على أرض ملغومة، أو مزروعة
بالأشواك،تكون معرضة لا محالة لفقدان قدر غير قليل من فعاليتها وقدرتها على
التأثير، فما بالك إذا ابتليت « المنظومة » باقتران المثلبين: تشاكس عناصرها،
واعتلال البيئة التي تكتنف حركتها واشتغالها. إنها الطامة الكبرى وقاصمة
الظهر إذن، وخراب الديار.
ومن مظاهر النكد في مجرى هذه المنظومة، أن يكون الفضاء المدرسي في
صدارة العوامل التي تناجزها العداوة والشحناء، في الوقت الذي ينبغي أن تكون
أول نموذج ناصع على مصداقيتها وجدارتها، ولكن هيهات هيهات، ففاقد الشيء
لا يعطيه.
إن مؤسساتنا التعليمية باتت تجأر بمر الشكوى لما ران عليها من أوضار التسيب
الخلقي، لقد تحول معظمها إلى مباءات قذرة، تستقطب قطعان المتسكعين من
طلاب الهوى، أو عصابات الباحثين عن اصطياد ضحايا جديدة تضاف إلى عالم
الهوس والجنون .
إن الناشئين على قدر بالغ من الحساسية يجعلهم ينشدون الكمال، ويتلمسون
مواطن الانسجام بين القيم التي يتلقون، والواقع الذي يشهدون، حتى إذ أبصروا
فجوات أو شروخا بين هذا وتلك،اعتصر نفوسهم الغضة ألم مرير، يصعب
التخفيف من غلوائه،بله رفعه وامتصاصه.
لقد عاينت هذه الحقيقة ولمستها بنفسي في خضم صفوف التلاميذ،سواء لدى
ممارسة التدريس، أو ممارسة مهمة الإشراف التربوي، فما أكثر ما كان هؤلاء
يجهرون بالسؤال عن سر هذا التناقض السافر بين قيم هي في غاية الشفافية
والسمو، وواقع ممعن في السفلية والارتكاس.وما أكثر ما كان الأساتذة يكابدون
الخروج من ورطة السؤال، بإدراك حظ من إقناع هؤلاء الضحايا الأبرياء، بأنهم
فرسان مرشحون بحملهم لهذه القيم الوضيئة،لنيل شرف إصلاح الواقع الموبوء،
ورفع الأنقاض التي تثقل ظهره وكاهله.
وما دامت المنظومة التربوية عندنا محكومة بالتحرك في فلك ملغوم وريح سموم
إلى أن يأتي الله بفرج من عنده، فلا أقل من أن يكون لها من القوة القيمية
والتماسك القيمي ما يقدرها على القيام بمهمة الممانعة والتمنيع،لتصنع هي بنفسها،
ولو بعد حين، معجزة الإصلاح والانتقال إلى الغد الأفضل المأمول.

4-

منظومة تمارس القهر على مستهدفيها وتعرضهم للفصام:
وذلك لأنها تبادر قبل غيرها إلى الكيل بمكيالين، فهي تطالب هؤلاء المساكين بكل
إلحاح، بأن يتشبعوا بثقافة السلام، ويرفعوا الرايات البيضاء عاليا في السماء،
وأن يعمدوا أرواحهم بماء التسامح المقدس، ويضمخوا أجسادهم بعطره الفواح
ولا عليهم إن كانوا يفتحون أعينهم وآذانهم ومسام جلودهم صباح مساء على
مشاهد مأساة أهليهم وذويهم الذين يذبحون ويسلخون في عقر ديارهم، وتقام لهم المحارق الرهيبة في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان ،
ويسامون أشنع أشكال الذل والهوان، ويداس على كرامتهم المهدورة بكل
وحشية وصلف وطغيان.
إنها منظومة تطالب مستهدفيها بأن يكونوا كالحملان الوديعة أمام تكشير
الذئاب المتحفزة للنهش والافتراس،وأن يلزموا جانب الحكمة ويتحلوا بفضيلة
ضبط النفس.
إن مثل هذا الصنيع إزاء الناشئة المستضعفة لامفر من أن يؤدي بها إلى أحد
أمرين: إما الارتماء في غيابات العصاب وسراديب الاكتئاب، وإما إلى تمزيق
العقال،وإعلان تمردها الذي لا ترده حدود.
إن مثل هذا الخطاب العاري من الحد الأدنى لمراعاة الفطرة الإنسانية التي من
لوازمها الحق في المعاملة بالمثل، كمستوى أول من مستوى التعامل الإنساني،
من شأنه أن يولد شعورا بالنقمة والإعراض عنه،بسبب زيفه وطمسه للحق.
يقول الله تعالى:  » فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » )البقرة: 149 (ولقد أجازت شريعة الله عز وجل للمسلم أن يموت دون دينه وماله وعرضه،
وهي في جميع الحالات توشحه بوسام الشهادة، إن وقع عليه الموت وهو على
حال من تلك الأحوال. والإسلام السمح الحنيف،لم تحل سماحته ولا حنيفيته،
دون أن يدرج الانتصار عند الإصابة بالبغي في عداد الصفات الإيجابية والمناقب المحمودة للمؤمنين: يقول سبحانه وتعالى:  » والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون » )الشورى:39 (.

5- منظومة مهووسة بالمباني دون المعاني :
إن الناظر إلى هذه المنظومة بعمق، ينكشف له هوسها العجيب باللهاث وراء التقليعات التي تسنها هيآت الأمم المتحدة، فكلما أصدرت هذه تقليعة جديدة، وجدتها تسارع إلى تلقفها والانخراط الفوري في التشبع بمبادئها وتعاليمها عبر تداريب ماراطونية مضنية، يكون القصد منها أن لا يحرم من بركتها وفضلها مؤسسة من المؤسسات في سائر ربوع الوطن، في المداشر والقرى ، فضلا عن الحواضر والمدن. فمع التربية السكانية تكون  » المنظومة » سكانية حتى النخاع، ومع التربية على « قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية » تجدها تقف في محاريبها بكل خشوع وإذعان، مع الحرص الشديد على أن لا تفوت فرصة استيعابها وتمثلها الصغير والكبير، والذكر والأنثى، مع إتقان ترتيل مواثيقها المقدسة غاية الإتقان. وقس على هذا سائر التقليعات، من بيئية وأسرية وديمقراطية، وهلم جرا.
إن هذه « المنظومة » لا تدري أن مثال  » أسمع جعجعة ولا أرى لها طحينا » ينطبق عليها أيما انطباق،وهي مع مرور الوقت تزداد هوسا بالأسماء والأشكال، دون المسميات والمضامين،وكأنها نياشين وأوسمة تزهو وتفخر بتعليقها على صدرها الخرب.

إن صدرها خرب حقا،لأنها لو أرادت الخير لنفسها، لكان لها غناء وأي غناء في التربية الإسلامية بمفهومها الشامل العميق الذي لا تند عنه مفردة من المفردات، أو مادة من المواد، أو تخصص من التخصصات، فبالتربية الإسلامية كان بإمكان المنظومة المنكوسة أن تضمن تهيئة الأجيال لصلاح الأنفس وإصلاح الأسرة والبيئة، وصيانة الحقوق من أن تضيع، كل ذلك في تناسق بديع وإتقان رفيع، رائدهم في ذلك، تعبير صادق عن العبودية لله جل جلاله الذي لا يغفل ولا ينام،وابتغاء وجهه الكريم.
إنه عندما تبنى نفوس الناشئة في ضوء هدي القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة العطرة، وتتضلع من معينها العذب النمير، و تسقى من شرابها السائغ،تصنع منهم قلوب زكية وعقول ذكية، وشخصيات يكون ديدنها الاستقامة والوفاء، ونشدان الإصلاح والسير في الأرض بأخلاق السماء.
كان بإمكان هذه « المنظومة » المنكوبة أن تكون أحسن حالا وأفضل مآلا لو أنها وحدت اتجاهها، ونبذت الأرباب المتفرقين، لسان حالها ومقالها في ذلك قوله تعالى:  » آرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار » ؟)يوسف:39 (.
لو أن هذه « المنظومة » وحدت الوجهة في الاتجاه الصحيح، لكانت في منأى عن كل الإخفاقات المريرة التي سودت وجهها أمام نظيراتها في العالم، وجعلتها جديرة باحتلال إحدى آخر الرتب على المستوى العالمي، كما صدع بذلك صندوق النقد الدولي الموقر الذي أصابنا تقريره الشريف بهم دفين، ولا نقول بذهول كبير،لأن  » من وضع في القدر لحما أكل لحما ، ومن وضع في القدر بصلا أكل بصلا » كما يقول المثل.فلا نحن نلنا رضى ذلك الصندوق الشرس، ولا نحن نلنا رضا ربنا الواحد القهار، فنكون قد خسرنا الدنيا والآخرة والعياذ بالله.

6- منظومة القيم والقسمة الضيزى :
إن الناظر إلى خريطة القيم التي تهتم بها « المنظومة » على مستوى التنظير والتوجيه والتنزيل، يلحظ بكل جلاء،القسمة الضيزى التي حاف بها صناع القرار التربوي على كل ما له صلة بما أسموه ب » قيم العقيدة الإسلامية السمحة ». فأنت إذا ما طالعت الكتيب المعنون ب » التربية على حقوق الإنسان والمواطنة في منظومة التربية والتكوين »، والصادر عن قطاع التربية الوطنية بوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، يتراءى لك مصداق ذلك.
إن المعلن عنه في الميثاق وما انبثق وتفرع عنه من كراسات وأدبيات، جميع أنواع القيم، ولكن الذي حظي بالأجرأة والتفعيل، عبر جهد تنظيري ملحوظ من جهة، وجهد تعبوي تحسيسي أنفقت فيه أموال طائلة وطاقات معتبرة من جهة أخرى،هي جميع تلك الأنواع، ما عدا قيم العقيدة الإسلامية. ومما يلاحظ على تلك الجهود،انطلاقها من منظور دنيوي صرف، فلا يحضر فيها البعد الديني الأخروي إلا بشكل عرضي باهت وضعيف. ولعل الغاية المنشودة من وراء ذلك أو اللافتة العريضة التي تؤطره هي لافتة التنمية.

ورد في تقديم الكتيب الخاص بالتربية على حقوق الإنسان والمواطنة في الصفحة الأولى ما يلي:  » قضية التربية على حقوق الإنسان والمواطنة، ستظل دائما وأبدا أكبر من مجرد برنامج مسطر أو مطبق على واقع المنظومة التربوية المغربية كما سيظل أكبر بكثير من مجرد حصيلة يتم استعراضها بين الفينة والأخرى في المحافل المتنوعة والمتعددة،بل إنها أكبر من خطة إستراتيجية، كتلك التي نعمل هذه السنة الدراسية في قطاع التربية الوطنية على إنهاء بلورتها والشروع في تنفيذها، بل هي قضية مجتمعية حيوية، كما هي قضية كل القوى والفعاليات المغربية المتنوعة والمتعددة. هي قضية لا يمكنها أن تنهض إلا على قاعدة المسؤولية المشتركة والوعي بالمصير المشترك، والعمل الدؤوب والممتد في الزمن، والنفس الطويل، والانخراط العلمي والمهني والوجداني في مشروع التربية على حقوق الإنسان وعلى المواطنة »
إنه كلام من عيار ثقيل يوحي بأننا أمام أمر جسيم، هو فوق كل اعتبار، والحق أن مثل هذا الكلام لا يخلو من تضخيم وتهويل، لأن إدراك حقوق الإنسان أمر فطري أكثر منه تعليمي، إذ أن الجزء الأكبر والأهم فيها هو كيفية بذلها وإعطائها والحصول عليها، أكثر من دراستها وفهم معانيها وأبعادها.
وغير خاف عن أولي الألباب، أن عملية إدراك الحقوق والتصرف إزاءها أخذا وعطاء،لا يمكن أن تتم على الوجه الجذري والأصيل،إلا على أساس التشكيل التربوي الذي يكون أساسه منهج الدين القيم الذي يخاطب الإنسان باعتباره كيانا متكامل الأبعاد، ويلامس شغافه وينفذ إلى أعماقه، لأنه يعلم فطرته وأسراره. وقل مثل ذلك في المواطنة، فلا مواطنة إلا في ظل حماية قيم الإسلام، وقد سبق أن ألمحت إلى هذه القضية.ولعل الواقع يعج بحشد غير قليل ممن احترفوا رفع شعارات الوطنية، وزعموا أستاذيتهم فيها،ولكنهم ما فتئوا أن عكفوا عليها يمزقونها إربا إربا، لا لشيء،إلا لأن إحداث الضوضاء والضجيج ورفع العقائر بالشعارات لا يكسب أصحابها صفة المواطنة أو الوطنية لمجرد ذلك الصنيع. وما أحوج المنظومة اليوم إلى تفكيك وإعادة بناء من جديد، على أساس عقيدة الأمة واستلهام قيمها ومنهجها وآلياتها في الإصلاح والبناء. إذ ذاك سيرى الناس الأعاجيب في بلوغ المقاصد والأهداف، وإنجاز المهمات التربوية الكبرى التي تغير وجه الحياة،وتقوم ما اختل وتصلح ما فسد.

7- منظومة تورث أبناءها الشعور بانعدام الأمن :
لقد بات من المعلوم للعموم، أن « المنظومة التربوية » في المغرب دأبت يوما عن يوم على إفراز كل ما يثير شعورا طاغيا بانعدام الأمان، لأنها منبتة الصلة بواقع الأمة وهويتها، غريبة عن طموحاتها ومنتظراتها، عاجزة عن تحريك العواطف والأشجان، إلا عاطفة الكراهية المتولدة عن الشعور بالحرمان.
لقد أفادت دراسة إحصائية أشرف عليها المجلس الأعلى للتعليم مؤخرا، أن خمسة وسبعين بالمائة من مجموع الطلبة والتلاميذ،يتعرضون لهجوم كاسح بانعدام الأمن. وانعدام الأمن لا بد أن يدرك هنا في مفهومه الشامل، أي بمعناه المادي والمعنوي، فأي ريح سموم هذه التي تلفح وجوه خريجي أو زبناء منظومة بلهاء، تسيء إلى أهلها وهي تحسب أنها تحسن صنعا؟

8- منظومة ناقضة للغزل :
إن المفروض في منظومة راشدة متسقة مع ذاتها، أن تنتج أجهزتها غزلا دقيقا يصلح لصنع زرابي عالية الجودة وألبسة في غاية الحسن والجمال، فهي تخرج-إذن- أفواج الأقوياء الأمناء، الذين يثلجون الصدور بأخلاقهم وأعمالهم، ويكون ما يقدمونه من مهام ومنجزات،شكرا عطرا وجزاء وفاقا لما قدمته إليهم من خدمات.
أما منظومتنا فهي منظومة تنقض غزلها وتأكل نسلها. إن هذه « المنظومة » لا تنتج إلا خيوطا باهتة واهنة، أو مزقا لا تواري عورة ولا توفر دفء، لأن مادتها قائمة على التهجين. إني أتصور التلميذ المغربي في صورة مأساوية تتمثل في اجتماع عصبة من الناس عليه، تتجاذب أطرافه بكل عنف وقسوة، وهو يصرخ ويجأر بالشكوى، ويتألم لما يناله من تمزقات عميقة و جراح نازفة، ولا من رحيم يتداركه بجبر كسوره وإصلاح شأنه وكفكفة دموعه،وتعهده بالعلاج ومده بالبلسم الشافي.إني أشبه هذا التعليم بإنسان كاس عار في أحسن الأحوال، من حيث يعتقد واهما أن عليه رداء أو كساء سابغا.
ثانيا: هل إلى خروج من سبيل؟:

1-المنظومة التربوية وصرخة المجلس الأعلى للتعليم :
مما لا شك فيه أن إرساء المجلس الأعلى للتعليم كان خطوة هامة في حياة المنظومة التربوية بخاصة،وحياة الأمة بعامة، نظرا لصفة الحيادية التي يتميز بها كجهاز متخصص يتوفر له من الخبرة حول ملف التعليم، ومن الإمكانيات المادية والمعنوية ما يؤهله ليكون مرشدا أمينا يبذل الخبرة الدقيقة، ويدل على مواطن الانحراف، ويرسم الخطط الشاملة لتجاوزها، ولمعالجة كل الأسئلة والإشكاليات المطروحة. غير أن موقع هذا المجلس كقوة اقتراحية كبرى، ليوتي أكله، لابد من تعزيزه بصفوة من الخبراء الحكماء الذين يجمعون إلى العلم الواسع في مختلف تخصصاته الشرعية والتربوية والإنسانية والاجتماعية، اتصافهم بالنزاهة والولاء التام لمصلحة الأمة العليا، وعدم الإنصات إلا لصوت الحق، مهما كانت الظروف.
لقد مثل تقرير المجلس الأعلى للتعليم الذي صدر مؤخرا وتتم مناقشته مع الفاعلين على أوسع نطاق،خطوة نوعية في اتجاه حل مشكل مزمن عمر لما يزيد عن نصف قرن من الزمان، شريطة أن تستثمر إلى أقصى الحدود، وأن لا تظل حبيسة الأدراج، وقاعات المساجلات والنقاش.

2-أين أنت يا لجنة القيم؟
جاء في الكتيب المذكور آنفا في شأن وظيفة هذه اللجنة مايلي:  » تم إحداث لجنة للقيم داخل اللجنة الدائمة للبرامج، وهي مكونة من شخصيات تربوية تنتمي إلى مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية واللغات والآداب والثقافة والاتصال والعلوم والتكنولوجيات وخبراء وخبيرات في البحث التربوي لدعم تمفصل التوجهات المغربية مع التوجهات الكونية. وتعمل هذه اللجنة على التدقيق والتمحيص في المناهج والبرامج من منطلق المدخل البيداغوجي المتمثل في القيم، وبذلك فهي تقوم بدراسة مختلف المناهج والبرامج عبر فرق متخصصة حسب المواد الدراسية المقررة، وذلك من منطلق القيم المرتبطة بالهوية الثقافية والحضارية للمجتمع المغربي من جهة،وبثقافة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا من جهة أخرى، كما تعمل هذه اللجينة على الاستئناس بمختلف التجارب الدولية المتاحة في هذا المجال ».
إن القارئ لهذا النص برؤية واعية ومسؤولة لا بد أن تستوقفه المفارقات التالية:

أ‌-هذه اللجنة من الغرابة بمكان،فعلى كثرة ما تمثل فيها من أهل العلوم والتخصصات والفنون، تخلو تماما من أدنى رائحة لأرباب العلم الشرعي، فهل خبراء العلوم والتكنولوجيات والعلوم الإنسانية واللغات أولى بالوجود من العلماء المسلمين ذوي الدراية في فنون التربية في هذه اللجنة؟ ولكن يبدو أن حضور هدف التمفصل « مع التوجهات الكونية » يجعل من حضور تلك الفصيلة من العلماء عامل تشويش وعرقلة للكوننة المنشودة.

ب‌-هل عملية إرساء القيم في وطن من الأوطان مما يجوز الاستئناس فيه بالتجارب الدولية؟ فهل يليق بنا ونحن نقف على خزان هائل من القيم العالية والنفيسة أن نتطفل على موائد الآخرين؟
وهل يصح في الأذهان أن يستجدي الأغنياء حضاريا من التائهين حضاريا ممن أفلست عندهم بورصة القيم تمام الإفلاس؟

ج- هل للشعب المغربي هوية ثقافية وحضارية غير التي صنعها الإسلام؟ اللهم
لا ثم لا.ولولم توضع إلى جانب هذه في الاختيارات والتوجهات في مجال
القيم قيم العقيدة الإسلامية السمحة، لذهب بنا الفهم إلى أن المقصود حتما
بقيم الهوية الثقافية والحضارية هي قيم الإسلام.

إن لجنة القيم المؤهلة لحراسة القيم- إذا أردنا الحق- ينبغي أن ينتقى
أعضاؤها بكامل الصرامة على أساس علمهم وصفاء انتمائهم لحضارة
الأمة. ولا يقبل من كانت به شائبة من ولاء لغير الإسلام، وإلا فسد الميزان
وحصل الاختلاط والانحراف، وتسربت المياه إلى سفينة المناهج والمنظومة
بعامة، وهددت الأجيال بالغرق والانقراض ولو بعد حين.
إن المفروض في لجنة القيم – إذا كانت مغربية لحما ودما- أن تكون في
كامل اليقظة، ولا يجوز عليها الغفلة. إنها تكون أشبه بالجمارك، أو بالجيش
الذي يتولى حراسة الحدود وحماية الديار.
« إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا
بالله »

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *