Home»International»زِريابْ في رحلة صيفية مع الكلاب

زِريابْ في رحلة صيفية مع الكلاب

26
Shares
PinterestGoogle+
 

« قصة درامية مستوحاة من الواقع وهوامشه »

الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم المرسلين وآله وصحبه
تـــقــــــديـــم
هذه قصة قريبة جدا من الواقع تلامسه وتعاكسه وتغوص فيه وتطفو على سطحه ،فهي تعالج قضية حيوانية في ظاهرها، لكنها عميقة في سرد الواقع الإنساني وتفاعله مع هذا العالم ،عالم الكلاب خاصة، حيث تتقارب فيه المشاعر ويتحرك الوجدان وتختلط الأذواق والمواقف ،كما توظف القيم والمبادئ قياسا واستئناسا وممارسة ومدارسة .
فبطل القصة رمز إليه بزرياب ،على اعتبار ذوقه وفنه وإرهاف مشاعره وتناغم دقات قلبه وانجذابه ،فطار به نغمه من القرية إلى المدينة و من المدينة إلى القرية ثم من القرية إلى المدينة مع تتبع سجع الكلاب وموسيقاها، يستمتع برونق المكان وتنوع التضاريس وتلون المشاهد وتلألؤ المياه والأجواء وتنوع الكائنات من حيوان أليف وماشية وحشرات .
وبجانب هذا الجمال والفرح سيكون هناك حيز واسع حزين تقعد له الكلاب أنفسها ويتأثر به الإنسان قولا وفعلا وسلوكا وعادة.مع أن هذه الكائنات معروفة بالبشاشة والتسلية والألفة لكنها مع ذلك مولدة للحزن والشجن ومدعاة للرأفة.فكان بطل القصة من الحيوان جرو أنثى رمز إليها ب »هايْدي  » والتي ستصبح ظاهرة مثيرة توظف على نطاق واسع في عالم الكلاب.
في ظل هذه التناقضات النفسية والوجدانية تتألف هذه القصة وهي ترصد وتتصيد ،من خلال ذوق زرياب ونغماته، بعض أهم قضايا العقيدة والفكر والسلوك ،وأهم عناصر التواصل والتجاذب وأدق الإشارات القيمية الصادرة من الكلاب حيث لا يؤبه بها بينما هي ذات دلالات أعمق مما قد يتصور …
المؤلف
الدكتور محمد بنيعيش

1
زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب

لم يكن يخطر ببال زرياب أنه سيأتي عليه يوم يحتاج فيه إلى مساندة الكلاب ،مساندة مادية ومعنوية وأخلاقية وتربوية، وذلك لأنه كان في سبات عميق منذ ولد وترعرع ونشأ شابا فكهلا ثم إقبالا على الشيخوخة .
كان زرياب يرى الدنيا من عين داخلية مشبّكة محجوبة تشكل له الواقع تشكيلا ،وتموه عليه الصحو تمويها، فيراه صامتا مزعجا لا يستحق أن يواجه، وإن ووجه فما الفائدة.لأنه واقع لا يتغير ولا يريد أن يتغير أو لا يراد له التغيير، فهو إن حدث فذلك بئس المصير !.
نشأ زرياب في زمن لم يكن يعرف إلا اللون الأسود أو الأبيض في الشاشة Kولا يسمع من المذياع إلا : » عند الإشارة تشير الساعة » ،وإن هو تمادى للخروج نحو الفضاء الأوسع، فسيكون محظوظا إن سمع ب »هنا لندن »،مصدر الأخبار وموثوقها ودقيقها ،لا يكاد يشك هو ومن حوله في مصداقيتها ،لأنها جاءت من هنالك حيث مزاعم بلد الحضارة والتقدم والقوة والتصنيع ،أما هو فيعيش في بلد الحفر والقتر وبين المعز والبقر ،وحولها الكلاب ولم لا الذئاب.كما أنه لم تكن له صلة بالموسيقى والغناء إلا من خلال الإذاعة نفسها والمذياع الصندوق القاتم اللون نفسه الكبير الحجم،وأيضا من خلال الأعراس والحفلات التي كان يكثر فيها الصخب ومزعج الطرب من غيطة وطبل « ودربوكة وشِنْشانة » وضرب على الحيطان وأبواب الصفيح، قد كان يستمتع بها حتى الكلاب و يعجبها هذا الإزعاج، ردا على من يتهمونها به، فلا تفر ولا تمتعض حيث لها في الولائم مآرب .
فحتى وإن كان هناك فن وموسيقى فليس ذلك إلا عبر مشاهدة الإشهار على أبواب السينما باللون الأبيض والأسود والرمادي مع غناء ممزوج بالتمثيل ،و مظاهر شبه ماجنة قد لا تناسب ذوق الصغار، ومع ذلك يرتاد دورها الكبار ولا يتحفظون في حكاية أدوارها ومن هو البطل فيها ومن المغني أو الموسيقار الكبير الذي استأثر بالنساء فيها،قد يكذب منهم ،إلا القليل ،من لم يتفرج فيها ويتابع أخبارها ،بل قد يقلد أغانيها تقليدا بصحو أو سكر.فلا بر ولا فاجر إلا وكان مهتما بالحدث الآتي من الشرق خصوصا، ومن الديار المصرية واللبنانية المباركة تحديدا !
زرياب هذا قد كان مخضرما في بيئته ،فلا هو حضري صرف ولا بدوي قح ،وذلك من ولادته حتى ريعان عمره.ولد بالبادية وانتقل به أبوه إلى المدينة ،وأية مدينة هي ،صغيرة معلقة في جبل تحبه المعز للنَّزْو وقضم أوراق الدّرْوِ،بدائية مُدرْبَبَة ،ومتصاعدة متنازلة ،لا تصل إلى مستوى شبه الحاضرة، بل هي بين بين قد لا تكاد تبين.ثم بعد ذلك سيرحل بين حافلة وحمير من غير حارس ولا خفير ،مع اجتياز حذر للوديان والتلال ،إلى مدينة أخرى تقع بين جبلين محاصرين لها لا يكاد يصفو فيها الجو بسببهما ،هذا مع هبوب رياح مستمرة متآمرة جد قريبة من البحر الذي يلطم بأمواجه وغضبه الرمال ويرش المدينة برذاذ رطوبته الكسولة العانسة فيجعلها تعرق وتغرق ضيقا وخنقا.
سكن زرياب وعائلته في حي ضيق المسالك ودروب محصورة بين الحيطان وخطر المهالك، قد جمعت بين كلاب الحيوان والهررة ،وبعض المواشي، بجوار بشر على مختلف الأمزجة والألوان،وذلك لأن سكناه جاءت على مقربة من مزرعة مترعة لا يحيط بها سياج ولا يرعاها حارس ممتاز ولا تزرع إلا بقمح أو شعير، بين سيقانها وسنابلها تنبت الطفيليات من نبات الحُمَّيْضة والخشخاش الأحمر الذي يصيب الشخص بالنعاس وليس هو بالمخدر المعروف والباهض الثمن، ويا ليته كان كذلك إذ فيه ربح وتجارة وتهور وجسارة.
كما كان يقطنها نمل ونحل وفراشات وصراصير وعناكب كثيرا ما تشرف بزيارتها المساكن القريبة منها فتسمع الصياح ونفض الأغشية والألحفة والأقمشة.وبين أعشابها حينما تقف على سوقها وتطول كان أيضا يقيم الكلاب والقطط لصيد الطيور والحشرات وللاستظلال، وأيضا يربض اللصوص وقطاع الطريق ومخوفو الصبيان والفتيات للتربص وتحين الفرص،والويل لمن زاغت به رجله فوقع في الأسر ! فهو ما بين ضرب واغتصاب وسلب ونهب ،بل هو في حضرة الإرهاب بلحمه وشحمه وبعينه ورجله ولحيته. والويل ثم الويل لمن مر بسياج من غير هراوة أو صولجان وإلا بوغت بِعضَّة أو رِعبة أو نَبحة مكشرة من كلب ضال أو مما هو في قنية الجيران.
وعند أطراف المزرعة كان يوجد واد شكله مرعب وحاله مريب وماؤه ليس بجد صبيب ،لا يعمر ولا يفيض إلا عند سقوط أمطار رعدية متتالية،لو رأيته حينها لما استطعت أن تعبر القنطرة ولما تجرأت على الاقتراب ،إذ كم من بائس جرفه معه من غير إياب.وحينما يهدأ يطفو على سطحه البعوض (الناموس)وبعض السمكات ذات الحظ التعس أو السعيد بحسب المآل، كما قد تزاحمها أفاعي وسلاحف كثيرا ما كانت تقع في الأسر بالصنارة فيتكسر هيكلها بالحجارة أو ترمى للكلاب كهدية وبشارة.ومع هذا المظهر فقد كان الوادي محجَّ النساء والفتيات وهن حاملات على أظهرهن الرقيقة والهشة أثقالا من الأسمال وجلد الأغنام وأغطية خشنة قد أصابها البلى وانبعثت منها رائحة الغنم لأنها منسوجة منها منذ عقود ! .فيلتقي الجميع عند بناء شبيه بالخربة والأطلال ،ربما كان من مخلفات الحرب عندما مر الاستعمار من هناك فترك الردم والهدم وما يمكن أن يعرض إلى اللطم والشتم والجرح والتعْديم،أي التسبب في عاهة مستديمة ، قد لا تحل مشكلتها عصا الاتكاء ،ولا كرسي التحرك الذي لم يكن له وجود يذكر حينذاك،وإنما الطريح طريح والكسيح كسيح إلى أن تقوم الساعة.
وهؤلاء النسوة المسكينات بكل ما تحمل الكلمة من معنى قد كن يحملن معهن هراوات فيها مآرب شتى من بينها إرهاب الكلاب إن هي اقتربت وأساءت الأدب مع الأحباب .كما هي تصلح للضرب على الأغطية والألبسة بقوة من أجل طرد الأوساخ والأدران وتصفية الغسيل وتنقيته بغسالة مجانية لا تحتاج إلى كهرباء ولا إلى صابون آرييل أوتوماتيك أو غيره، اللهم إلا ما كان مشهورا من صابون الكف أو تيد( المشهور في كل مكان بأنه يصبن مزيان) .
فالعز في الأذرع النسائية الحرة والخشنة بفعل حمل الأثقال ولي الحبال والجولان بين الهضاب والجبال، وعجن الأخباز من قمح وشعير ولف رغيف مسمن وبغرير و كسكس مفتول في المنازل لأن السر فيها.فقد جمعن بين مظاهر الجنس اللطيف والخشن،بأصوات رخيمة وعضلات مفتولة وأيادي خشنة مسننة من باطنها ومخدوشة من داخلها كأنها أسنان مغزل أو محك حمّام.فهن نسوة عندما يتطلب الأمر منهن عمل النساء ورجال حينما يتعرضن للإيذاء.قد يضربن أولادهن وفي أحيان أزواجهن وجيرانهن إن اقتضى الحال بكل ما أوتين من قوة وما وقعت عليه أيديهن من حجر أو هراوة وجرَّة ومهراس ،هذا مع ما يتلونه من شتائم وسباب لا يوقفه سوى سد الآذان والأبواب.
كما أن هذا الغسيل بالوادي في الماء الترابي الكاكي اللون النابع من بين الأترع والفائض من غدير، أو من بعض السواقي ومخلفات بعض المعامل، قد كان يتم قريبا من معمل يرمي بنفاياته من مخلفات صناعة الحلوى وكذا معمل ينتج جافيل التقليدي السام فيصب مستخلصاته العديمة بنفس الوادي الذي كان يشرب منه ويستحم فيه ،والتي قد كانت تفتت مع تكرار الاستعمال الأثوبة والأنسجة ولو جلد بقر، فتبهت ألوانها حتى كأنها براقع بقع ترسم خريطة جزر المريخ أو وجه قمر ملطوم يسطع بين سحب داكنة ونعيق الغربان، وترسم عليها لوحات تشكيلية لا يتقنها حتى ويليام فان غوخ نفسه.فلا تسمع حينئذ سوى : »الصَّاطْ البَّاطْ » مقرونة بأهازيج وعَيْطة جبلية بدوية قوية وزغاريد فرح مفتعل كأنها استغاثة محارب واستمداد قوة وجهد لتحقيق المآرب.
وما بين الصَّبّانة، كما سميت بحالها،والوصول إلى مركز الحي كانت تنتشر الكلاب الضالة من الحيوان ومعهم شبه الإنسان، فحذار حذار ! والويل ثم الويل لمن صادف أحد هذه العناصر الإرهابية!.فلا ينفع معها ثمة إلا الفرار أو تبادل الرشق بالأحجار،هذا إن كان المرء قوي البنية سريع الخطى ،أما إن كان بطيئها وضعيفها فذلك هو اليوم المشئوم العصيب، الذي فيه الصبي قد يشيب، ولا ينفع معه شفيع ولا طبيب، اللهم إلا ما احتواه الجلباب ومغاوير الجيب من دراهم أو حتى فاكهة وطعام كفدية وتأشيرة للمرور بسلام .وحتى إن هو أعطي له الضوء الأخضر للمرور فهناك قريبا وعند المنعطف قد يفاجأ بجمارك الكلاب التي لا تعرف سوى العض ما بين الرجل و الساق وما واجهها من ثوب الجلباب ،حتى لو قدِّم لها ما قدم من الطعام والشراب. وقد حق لهذه الكلاب أن تتخذ مثل هذه المواقف طالما أن جيرانها من الإنس لم يوفروا لها مؤونة ولا احترموا لها مكانة،فالتزمت لذلك مبدأ عادلا وهو : »الخير بالخير والبادئ أكرم والشر بالشر والبادئ أظلم ».
وليس الإنس المتشرد والكلاب الضالة وحدها من كانت تسيطر على تلك المناطق وتطبق عليها بثقلها المرهق وإنما كان هناك عنصر ثالث ليس بأقل خطورة من هؤلاء وأولئك.وهو تهديد الجن واختيار سكناهم عند الوادي وعند الخرب المهجورة خاصة.فما أكثر الحكايات حول هذا الموضوع وما أوسع الأنسجة عنهم وأولادهم وأزواجهم !!! بل حينما يرى البعض رجلا قد ذهب لوحده وعند الظلام بعد المغرب نحو تلك المحمية واجتاز جمارك الإنس والكلاب يقولون :إنه متزوج بجنية وله أولاد منها .ويزداد تصديقهم لكذبتهم حينما يرونه وهو مار بالطريق يتحدث مع نفسه ،مرة بصوت مرتفع ومرة منخفض وكأنه يخاطب فعلا شخصا ما ،ولكنه يكون قد ضاق به الحال واشتد أفق عقله حتى دخل عن خارجه وخرج عن داخله.فهذا يقال بأنه قد ملكته « عيْشة قانْديشة » وذاك « لَلاَّ الفْرنْسوية » وآخر « عمتي العِبرية اليهودية ».
وهكذا يتألف فيلم الرعب والخيال الداكن والساكن والمسكون والكائن وغير الموزون.بحيث لا يوجد من يرسم الخيال العلمي كمثل عالمٍ من الجهَّال والغوغاء والدهماء . فلا ينظر إلى الشخص بأنه مريض وأنه قد يحتاج إلى علاج وجلسات تحليل ومراجعة للذات وإنما من وقع فبالجن قد وقع ومن صرع فلأنه قد تخطى مكانهم بغير تأشيرة فضربوه وعوّجوه وعرَّجوه وكمَّموه !.
وكثيرا ما ينسب هذا الفعل إلى الكلب المسكين ،باعتباره زعما مسكنا للجان وأنه يتلبس به (يتسيَّف فيه) ويتشخص من خلاله.فكلما رؤي كلب بالليل إلا وكان بين أمرين:إما أن ينهال عليه بالضرب ،حجارة وهراوة، وإما ،إن كان من المحظوظين، قد يترك له الطريق حتى يمر بسلام خشية أن يكون ممن تلبس بهم الجن.
ولم يقتصر الأمر هنا على كلاب الوديان والخنادق بل منها من قد زاحمت أهل المدينة ودخلت حتى مدارسهم فأصبحت تهدد أمنهم واستقرارهم .فلقد بلغ إلى مسمع زرياب حديث وموسيقاه كان قد اشتهر كنار على علم، ولفق وطبق ككذبة أصدق من صدق،بأن كلبا يخرج نهارا جهارا في وسط ثانوية أو مدرسة يرعب فيها التلاميذ ويوقف الدراسة ،وذلك في بعض الأوقات ،وخاصة عند اقتراب الظلام.فلا يجد له المعلمون ومسئولو المدرسة تفسيرا.بل حتى السلطات قد حارت في الأمر وأرسلت دوريتها لتقصي الحقائق فلم تعثر على شيء ولم تتخذ قرارا وربما قد توقفت الدراسة لفترة يسيرة من أجل البحث والتقصي.ولكن بقي الخبر على نار هادئة يغلي بين فينة وأخرى ويطفو ثم يخبو فلا تجد له حلا.
هذا الحال قد أحدث للتلاميذ خوافا عاما وأصبح مرعبا لهم ومؤرقا فلا يكاد يجرؤ أحدهم على المرور مساء وبعد المغرب من أمام المؤسسة ،إلا وكان الكلب وراءه مبعثرا لمسيره ومروعا لحاله لا يجد معه حلا سوى الفرار و رجلاه على قفاه !.
زرياب هذا التعس منذ الصغر ،والذي كان يغلب عليه الغباء ممزوجا بالدهاء المقيد ،لم يتفطن يوما إلا وهو يمر عبر ساحة المدرسة في ظلام دامس وحالك ،وبينما هو يتوسط الطريق سمع من ورائه خطى خفيفة وحثيثة تنقر الثرى نقرا متتاليا كأنه إيقاع موزون وانسياب ملحون.ولم لا فزرياب قد يؤول كل شيء إلى موسيقى وغناء حتى حركات ولهث الكلاب.
لم يكن قبل سماع هذا الحسيس يخطر ببال زرياب قصة الكلب وما يليه،ولكن بمجرد اقتراب حفيف هذا الخطو بهاجسه ،نحو أذنيه، حتى أسرعت ذاكرته بشدة فاقت حساب العداد فتداعى الحادث المشهور إلى ذهنه بسرعة البرق ،وكأنه قد كان على موعد معه في تلكم اللحظة بالذات .
التفت وراءه بسرعة وحذر ،خاصة وقد ترسخ في مخيلته أن الجن بقدر ما خِفت منهم تسلطوا عليك ،وأن الالتفات نوع من التعبير عن عدم الاستقرار والخوف وشدة الاهتمام الملام،ولكنه مع ذلك التفت لقوة الباعث.
فكانت المفاجأة ،وأية مفاجأة،ويا لها من مفاجأة! .فلقد اختلط عليه المشهد وتبعثرت عنده الأوراق وتداخلت في حضرته العوالم وتشابكت المعالم ،فاصطدم المتخيل مع الواقع وامتزج الظلام مع الشبح واضطرب الجسم مع الروح ،والعقل مع الانفعال، والرجل مع الرأس ،والإنس مع الجن ،والخرافة مع الحقيقة.
رأى فيما يرى الصاحي ،وليس كما يرى الرائي، كلبا ضخما بقوائم أربعة، وليست اثنتين، يسير نحوه مباشرة، من غير نبح ولا فضح ،وإنما كل له طريقه، ولكنه طريق جد متقارب لا يحتمل مرور كائنين معا في زمن واحد وعند مكان واحد ! فإما أن يمر زرياب وإما أن تعطى الأسبقية للكلب ،الممسوس زعما وما به من مس !.
وله الأسبقية هنا فعلا لأن الميدان ميدانه والحمى حماه قد سيطر عليه باستحقاق حضورا واستحضارا ،طالما لم يعط لوجوده تفسير ولم يؤبه بوجوده ليلا أو نهارا.وكأن الكلب الشجاع في هذه اللحظة أراد إثبات الذات حينما شوهوا سمعته وفضحوا أمره واستهانوا بقيمته ورموه بالحجارة ونهروه أمام المارة ونسجوا حوله الخرافة والطيرة وسوء الضيافة.فأراد أن يريهم بأن له أوراقا لو استغلها لما قرت لهم عين ولا غمض لهم جفن ولما طاب لهم ثريد أو مجد تليد !.
وبسرعة كالبرق وقرار كالنار هرول زرياب ورجلاه تصطدمان بأم رأسه وجسمه مرتعش كأنه قرية نمل و جلده منمّش كالديك المنتوف ،هذا مع وقوف شعره من أخمص قدميه إلى أم رأسه في حالة طوارئ كمنصات صواريخ صام.
لم يشعر بنفسه ولا بجسمه المراهق المرهَق ولا بمسافة طريقه إلا وهو في الدار ملتحفا الدثار،ترتعد فرائصه بإيقاع محتوم ولا يكاد يصدق ما حدث له أو رآه.فيسائل حينها نفسه ويجيبها:-إنه كلب فعلا وليس وهما وخيالا.ولكن من أين أتى بغتة ومن غير موعد وسابق إنذار؟.فلقد كان حينها زرياب يسرع الخطى عند المكان المعلوم،يسرع الخطى لأن الساحة خاوية ومهيبة ومظلمة بلا إنارة ولا هم يحزنون ،شأن الأحياء المهمشة التي لا يمر بها كبار القوم .فبالتقدير الفيزيائي والعد الرياضي لا يمكن أن يقترب منه الكلب مع تلك السرعة الفائقة التي كان يمشي بها.فهل خرج من الأرض أم نزل من السماء أم تفتَّق من الهواء؟
تلكم الرِّعَبة ستكون لها دواعي نفسية وأخلاقية وعقلية لم يتسطع زرياب التخلص منها إلا بعد فترة طويلة من عمره ،حتى إنه بعد الجري الصاروخي الذي فر به لم يجد بدا من التحلل منه والهروب من كوابيسه سوى بالنوم العميق لحد السبات ،الذي اختلط عليه فيه الحلم باليقظة،فهل فعلا كان مارا بالساحة وهل فعلا كان وراءه كلب وهل فعلا جرى جريا خارقا ،وهل الكلب هو كلب عادي كان مارا يلتمس رزقه،أم أنه ذلك الكلب المزعوم كجن أو عفريت قد أراد أن يثبت له بالبرهان القاطع بأننا نحن هاهنا يا من لا يعرفنا؟ !!!
فكان هذا الكلب قد هيأ لدى زرياب درسا فلسفيا وفكريا وعقديا واجتماعيا لا يمكن الاستهانة به أو طيه في الرفوف ونسيانه .فلقد جاء وناسب مرحلة و حالة نفسية شرطية منعكسة آنية، إن هي وجهتها نحو الخيال تخيلت وتوهمت وخرِفت وإن هي أطّرتَها وحلّيْتها بالعقل تحللت وتعقدت وتقلصت وتداخلت،فكان لا مناص من التوقف وأخذ الدروس والعبر حتى لا يطير الدماغ ولم يبق له أثر.
عند هذه البيئة المتوترة عرفا و عادة كان زرياب يعيش القلق ويتوقع دائما الأسوأ والأسود مما يصدر من الفلق المُغلَّق ،ويستعيذ بالله من شر ما خلق.فلا يكاد يمر يوم حتى يتهارش اثنان أو ثلاثة أو جماعة من الإنس تهارش الكلاب أو أسوأ،قد يؤول الأمر غالبا إلى استعمال السكاكين والسواطير والعصي، والحجارة،الموجودة بكثرة في الزقاق والحي والمدينة،قد لا ينفع معها لعب الكاراتيه ولا الملاكمة للدفاع عن النفس،ولا يستطيع مقاومتها بروسلي أو جاكي شان وحتى شيروخان ،وإنما أنت وحظك،فإما ضربة في الرأس،بالهراوة أو الفأس، أو سلخة في العنق أو كسر في الرجل ،ثم هيا بنا إلى المستعجلات التي لم تكن سوى مؤسسة يتيمة لا تسمن ولا تغني من سيلان دم أو دفع ألم !
وكثيرا ما تعرض زرياب لهذه المشاجرات بحكم الحال ومقتضاه ،والتي كانت في الغالب تفرض عليه فرضا وتجره إليها البيئة جرا،فينخرط فيها بغير بطاقة أو انتساب ،بل قد يصير في بعض الأحيان هو بطل الرواية في فيلم الذئاب أو الكلاب ،يتزعم الفريق ويقطع الطريق ويرمي بالحجارة ويناور بالإيماء والإشارة وينتقم لنفسه ولرفاقه ،ويسهر تأرقا في ليال الأنس المرعبة بكوابيسها وشحناتها المخيفة.بحيث كان أطفال الحي وشبابه بل حتى كهوله بارعين في الرماية ،رماية أحجار لا تكاد تخطئ الهدف بحكم التعود والتكرار،بل كثير منهم من كان يصطاد الطيور بواسطتها فقط، من بينهم زرياب.
أما الكلاب فقد كانت مختبر الرماية بامتياز،وكانت تعلم ذلك جيدا ويتوقعون المفاجأة في كل حين، حتى إنها كانت تمر عبر الزقاق حذرة طالبة العفو والستر كما كان يعبر عن ذلك في حق كل من ينشد السلم وتفادي الأذى ب »إذا أردت النجاة فامش حَيْطْ حَيْطْ »،قانون فهمه ووعاه كل من الإنس كما الكلاب.
ولا يوجد في الحي شخص ليس مطبوعا طبع الدّلاّح أو البطيخ الأحمر والرمان ،إلا من رحم الله .بل حتى المسالم وإن هو مر عبر الحائط لتفادي العراك والشجار فإنه يناله نصيبه من بركة المقام.فلا يكاد يخلو الكثير من جرح غائر أو شجة في الرأس ،أو وعكة و ليّ عضو أو شلل في أصبع …وكأن القوم قد كانوا في حرب أهلية نجا فيها من نجا وأصيب من أصيب ،منهم زرياب وأصحابه.
يتذكر يوما أنه قد تشاجر مع ولد من سكان حيه المجاور بسبب تزاحم في لعبة كرة القدم، والتي كانت تجرى مبارياتها فوق الأحجار والحصى والتراب الخالص،الساقط والمعطوب فيها أكثر من القائم والسليم،وذلك حينما تدافعا وسقط الآخر فالتفت فسب وشتم وحصل العراك وبعده فض الاشتباك، ثم انصرف زرياب غير محترس إلى حال سبيله ،فليس به إلا وحجارة مكوَّرة صلبة مشفرة ومسنَّنة وناتئة، تصلح لتكسير اللوز وترميم الصفيح ،قد أرسلت إليه في شكل بطاقة ودٍّ، فوقعت على جمجمته مباشرة من دون واقية أو طاقية ،قد رجرجتها رجًّا حتى سقط مغشيا عليه لا يدري أين ولا كيف ولا متى ولا من،في أسئلة فلسفية معقدة ،أخذ حينها ،بل جُرّ كما يجر الكيس الثقيل بعجين دكِن نحو المستعجلات ،حيث الانتظار والسؤال وآت وهات…
فلقد بقي على إثرها مدوَّخا شبه مغمى عليه ،ومهزوز الوعي إلى ما لا يعلمه إلا الله.فلا من يسأل ولا من يتابع ولا من يقول هل كُسّر أم دُمّر، هل ارتج مخّه أم بقُرت بطنه ؟ بل شوفي من ذاته وعولج بزمانه وطول إهماله.وهذا هو منطق مجتمعه من حيث الوعي الطبي والتضامن والسهر على راحة الغير،حتى قد يشاع كنكتة : »قيل لشخص بماذا مات أبوك ؟قال:سقط فلم ينهض »(قالّو باشْ بابكْ ماتْ ؟قالو:طاحْ ماناضْ).هذا هو الطب وإلا فلا !!!
فهذه الضربة ،ضربة لازب،قد أثارت في ذهن زرياب تساؤلا حول حال تلك الكلاب المسكينة التي تتلقى الضربات بشتى الأدوات والأسلحة من غير وقاية ولا إسعاف فيبقى الكلب يعاني عندها من آلام الكسر والعاهة المستديمة طول حياته حتى الموت أو تتلوها ضربة أخرى تكون هي القاضية ،بل الكلب ربما قد يكون أكثر تحملا، وكيف لا وقد شخص القوم قوة رأسه باعتباره أشد الرؤوس صلابة قد يكسر مبرّد السيارات (رادياتور)إن هو اصطدم بها في الطريق،إذن فلا ضير إن هو ضرب على رأسه كما يقال: »الحجّامة كَيْتعلموا في رأس اليتامى »!.
فلم يكن حينذاك يوجد بيطري ولا جمعيات حماية حقوق الحيوان ولا شيء من هذا القبيل،فأنت وحظك ،قد يقتل المرء ولا دية والحيوان ولا تعويض ،بل حتى الجن قد يعتدى عليه في بعض الأحيان بواسطة الماء المغلي وإراقته عبر حوض الغسيل،زعما منهم بأن الجن قد يحترق بهذا الفعل ،بل كثير من الحمقى من يعتقد بأن ضربة الجن وانتقامه قد يأتي من هذا المكان في المطبخ حينما لا تنتبه صاحبة الدار فتصب الماء المغلي مباشرة على الحوض ثم تتعرض للشلل النصفي أو على الوجه والفم خاصة.مع أن هذا المصاب الجلل لم يكن سببه إلا رجل الدار ومحنه وتسلطه وقمعه ،فتتراكم المكبوتات والكآبات وتتحول إلى اعوجاجات قد تقع في ناحية الفم تحديدا لأنه مركز التعبير والتعيير وذلك كرد فعل طبيعي على دكتاتورية المنازل !!!
كما أن الحادثة ستترك في نفسه شعورا بمرارة الغدر الذي يصدر من الإنسان ،قد لا يضاهيه ولا يصل إلى عشر معشار غدر الكلاب وإن هم كشروا ما كشروا من أنياب،حتى قد يقال في العلم الحديث بأن عضة الإنسان أكثر سُمّية من عضة الكلب بمائة مرة !!!.وربما بقيت تلك الرجّة يعاود أثرها دماغه بين الفينة والأخرى حتى قد تدور به الدنيا ويشعر بهوانها وضيقها وظلاميتها لا يستطيع مقاومتها،فلم يجد لها تعبيرا سوى تعبير شعبي بمصطلح كوميدي جبلي هو: »الطَّرْنونة » .أي دوخة ودوار لا يعرف سببه وخلفيته.فكلما عاودته قال :جاءتني الطرنونة وغابت عني الطَّرنونة وتطَرْنَنْت بالطّرنونة، وما تصرف منها من أفعال واشتق منها من مصادر.
فلقد ترسخ في المنطقة من الحكم الشعبية أقوال كثيرة عن الكلاب بحكم القرب والمعاملة من بينها: »الكلب يقول اضربني ولا ترعبني » وذلك عند تفسير صراخه وأنينه حينما يصوب نحوه بحجر أو حديدة وهراوة فتجده يصيح قبل أن يصيبه الهدف(كْعاوْ كْعاوْ كْعاوْ).
بحيث إنه يفضل وصول الضربة المباشرة على أن يُرهب ،إذ الإرهاب لا يحتمل سواء عند الإنسان أو الكلب.فهو مستعد للتحمل ولكن في مكان واحد ومعين ،أما أن يبقى مترقبا وهو يعيش التوقعات والاحتمالات المُرّة،إما في رأسه أو ظهره، فهذا هو التعذيب وليس التأديب،وهذا هو الظلم الذي لا يقاس ولا يطاق.لأنه بالنسبة إليه بمثابة الغدر، والكلب لا يغدِر ولا يقبل أن يُغدَر به لأنه وفيٌّ ،ولا يأتي منه الغدر إلا إذا أوذي.والبادئ أظلم. » وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ « .
وفي تعذيب نفسي للكلب يقال أيضا: »الْعب معَ كَلبك يلحس وجهك »وبالدارج المغربي »الْعب مْع كَلبكْ يِشَلْهَطْلَكْ وَجهكْ ».وهذا مثال شبيه بالمثال العربي القديم: »سمِّن كلبك يأكلك ».
بل قد يذهب التعذيب النفسي للكلب لحد أن يمنع من قضاء حاجته فيعمل له الثّقاف ! وذلك حينما يشاهده بعض الغلمان وهو المسكين يريد أن يتخلص من فضلاته فينادي بعضهم البعض لتشبيك أصغر الأصابع ببعضها :خنصرا بخنصر،وذلك بقوة حتى يكون مفعول الثقاف ساريا.فيتوهم حينها أن الكلب لم يتمكن من قضاء حاجته بسبب هذا الإجراء.فكان هذا هو مبدأ نشوء الشعوذة في المجتمع وتطورها من الصبا حتى الشيخوخة ،حتى قد أصبح يستغل عظمه وضرسه وشعره في السحر وما يليه !.
والعجب كل العجب من هذه النفسية التي لا تريد أن تطعم الكلب وإن هو أطعم فقد تمنعه حتى من التخلص من فضلاتها.فأي مدرسة درسوا فيها هذا العلم وهذه الأخلاق ؟ !!!
ومع هذا الاحتقار فقد كان الكلب له قيمته في الحي، فهذا منزل العمة عْويشة وذاك منزل الخال أو عمي عْلي وتلك غرسة للاّ الصافية وهذه برّاكة السي قدّور…كل هذه الدور وأشباهها ستأخذ نصيبا من الاحترام والتوقير طالما أن بها كلبا يحرسها،بل أصحابها قد يحترمون من خلال كلابهم .بحيث يشرف الجار وتعطى له قيمة بقيمة كلبه وهيبته !
والأمثلة قد تضرب في حق الكلب كما هي في حق الإنس وذلك عند سلوك معين ،إلا أنه سيأخذ بعدا قاسيا غايته التهميش والإهانة والقمع ،وحساب المسافات بحسب المقامات.أي تأسيس الطبقية والعنصرية ومبدأ التعالي والنرجسية وما إليها.و هذه الأمراض قد لا توجد في الكلب المسكين، وإنما هو محب لصاحبه وفيٌّ في صحبته له لا يتخلى عنه وقت الشدائد والمحن مهما كان الثمن…فحتى التعبير عن الحب وما يختلج الوجدان قد يمنع عليه !!!…
إلى جانب هؤلاء القوم وتناقضاتهم ،بالرغم من قسوتهم المتوارثة والمتراكمة والتواصل والتوادد النسبي من جهة أخرى ، فقد كان يوجد كلاب ،وذلك طبيعي عندما تكون الزرائب(أو السياج من القصب) على مقربة من الدروب،وقد تفضل الكلاب المقام هناك،تطل على القوم لمَّا تجوع وتغيب حينما تشبع،بل منها من قد يقتات على فضلات بطون القوم عندما يشح الطعام ،والذي قد كان شحيحا في المدينة بشح طبيعتها وشح أهلها اشتهارا ،تماما كما ذكر الجاحظ عن أهل مروة بفارس وعموم بخل أهلها،فيما يشاع ويذاع.ولقد أحسن البعض التعبير كما يحكى عن هذا الشاب الصوفي من مدينة بلَخ الأفغانية حينما سأل أبا يزيد البسطامي عند الحج : » ما حد الزهد عندكم؟فقلت:إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا ! فقال:هكذا عندنا كلاب بلخ !،فقلت له:فما هو عندكم؟،فقال:إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا ».
فكم من مرة ستهجم هذه الكلاب في شكل استعراضي على أزقة الحي وطرقاته تريد قوتا وتلتمس صدقة أو صداقة حينما يضيق بها الحال ويطول صبرها إلى ماطل الآجال ،فمنها المحظوظة ومنها البائسة ومنها المعذبة ومنها المكلّبة المدرّبة.كل له مقام بحسب اليد التي تتناوله أو تطاله وتنهال عليه .
وكم من شخص يكون حاله معها إما محظوظا أو معضوضا ،بحسب الحال وطريقة الاستقبال.فالويل ثم الويل لمن مرّ بزريبة أو سياج حقل أو حائط حديقة أو باب منزل جله من القصب والقصدير !فليست إلا برهة حتى يفاجأ بنباح كلب ،هذا إن كان محظوظا ،أما غير ذلك فليس له سوى الصبر أو الهرب ثم الضرب إن بقيت له شجاعة ،حيث الكلاب من ورائه والسياج أو الحائط من أمامه.
زرياب مع هذا الاحتكاك الطبيعي قد كان يحب الكلاب بالرغم من عيوبها ويسعى إلى اقتنائها ولو لفترة بسيطة ،بحكم الطفولة وبراءتها، بل قد يساوم عليها ويأخذها قراضا ومعاوضة، سرعان ما يهملها ويتركها لأن البيت ليس بالمتسع لاستقبال الكلاب ،كما أن أفراد المجتمع ينظرون إليها على أنها نجسة وطاردة للملائكة بالاستناد إلى أحاديث وعظهم بها بعض الخطباء النقلة في المساجد.ولكن مع ذلك فالكلاب فارضة وجودها بالرغم من رفضها ،لأنها كائن حي يتغذى وينمو وله الحق في مشاركة القوم في ما تنتجه الأرض وما يستخرج من البحر وينبع من العيون !
أفلم يقرأوا القرآن ويتدبروه أم أنهم لا يرون إلا من زاوية أنفسهم وقياسهم المقوَّس؟ففي سورة الكهف دليل على حضور الكلب مع الإنسان حتى في قبره وربما قد يدخل معه الجنة ،يقول الله تعالى: » وَتَحْسبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا » » سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ».
فالكلب ملازم لأهل الكهف بالمصاحبة كما هو داخل معهم في العدد إضافة قارة حيث به يكمل الرابع والسادس والثامن.فهو منهم ومعهم بحكم الحساب والرياضيات والنحو والحيوانية وحكم الشرع،وهو الحارس الأمين الذي لا يتخلى عن صاحبه في أحلك الظروف وأشدها ويسهر على حمايته إن هو نام،يجود بنفسه من أجل صاحبه مهما كلفه الدفاع من ثمن.
ومن هنا فأخلاق الكلب هاته قد تتجاوز سلبيات نجاسته المحتملة والمؤولة على غير وجهها الصحيح.لكن القوم أبوا إلا أن يسقطوا عيوبهم على الكلب المسكين ويحملوه ما لا يحتمل ،بل يؤذوه أشد مما يؤذيهم ويرموه بالنجاسة أفظع مما يرميهم.فهل رأيتم كلبا يأكل أخاه ميتا و يتلذذ به حتى كرهتموه؟ !!!
كانت المدينة العليا التي يسكنها زرياب تحيط بها الجبال وتتسلقها من جميع الجهات، أو قل جبلين ممتدين وحاصرين للسكان ومتنفسهم،ولم تكن بها سهول تذكر أو تستغل سوى قربها من الشاطيء البحري الذي يقع في غالب سواحله من الشرق الشمالي. وحينما تهب رياح شرقية تجعل من المدينة وأهلها مزاجا كئيبا عصبيا وعصيبا، ومثبطا للعزائم والهمم ،قد يؤخر الاستيقاظ ويجرُّه لدى غالبية السكان إلى وقت متأخر .
وهذا فيه خير، ولكن للكلاب فقط ،لأنها قد تجد الفرصة للتجول في المدينة من غير إحراج أو زحام وتنغيص وئام. فتطلب القمامة بحثا وبعثرة وتقسم المهام فيما بينها على شتى المجموعات والفصائل ،حتى إنها قد تتزوج وتتعرّس وتفرح في تلك الفترة على غفلة من أهلها البشر مصدر النكد والكدر بالنسبة إليها.
وفي كثير من الأحيان قد تفاجأ وهي بعد لم تتم مراسيم عرسها الجماعي فلا يكاد يتفرق القوم إلا على وقع الحجر والهراوات والركل،فينقلب عرسها إلى مأتم وألم ومن فرح إلى قرح،وتمنع من حقها الطبيعي ومقتضيات غريزتها المشروعة.ولربّما في بعض الأحيان وبين فينة وأخرى قد تتعرض للخطف والقنص مبكّرا بواسطة عمال البلدية المتخصصين في صيد الكلاب شنقا وليس بالرصاص كما هو الأمر حاليا،بحيث تنصب لها مشنقة بحبل مثبَّة على عود حديدي لا يكاد يدخل منها رأس الكلب حتى يقع أسيرا فيها فيرمى به في الحاوية أو العربة المخصصة لذلك ،ثم تنفيذ حكم الإعدام من غير محاكمة أو مراجعة الملف أو ظروف التخفيف فلا تسمع عندها إلا عويلا وآخر نبحة وصعقة !!!
هذا الجو الكئيب لدى الإنسان والحيوان قد يدفع الكثير من السكان إلى قضاء فترات من الاستجمام والراحة وعند العطل المدرسية الصيفية خاصة خارج المدينة ،وبالتحديد في البادية الملاصقة لها عند مطلع الجبل المواجه للمدينة حيث يفصل بينهما الوادي السابق ذكره بما فيه وعليه من واجبات وحقوق وفوائد وعوائد.

2
زرياب بين سجع كلاب البادية ونغمات الطيور و الماشية

زرياب منذ الصغر قد كان يعشق هذه البادية المقابلة للمدينة،وخاصة قرية بها ،بمئذنتها التاريخية البارزة على الهضبة العليا منها،وبطبيعتها الخلابة وخضرتها الدائمة وأشجارها المثمرة بشتى الفواكه كأحلى وأشهى وأعتق وأصدق فاكهة ونكهة،لأنها طبيعية مائة بالمائة ،ندية ومسكية العطر من ذاتها .تفوح منها رائحة الحياة وتصدح بالتفاؤل والسعادة والشكر للخالق  » الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ».
ومن حسن حظه أنه كان من المحبوبين لدى جدة له تفضله على كل حفدتها وتوليه من الاهتمام والعناية ما لم توليه إياه أمه وأبوه.فكان هو أيضا يبادلها نفس الحب ولا يشعر بحنين وراحة وسعادة إلا في بيتها وبين أشجار أغراسها ،حتى قد كان يساعدها في جني الثمار ويتسلق الأشجار ويجر معها الحمار،بل يصاحبها إلى المدينة ويبيع معها الإجاص والتفاح والبرقوق المتنوع الألوان والأذواق على شكل موسيقى وأنغام ،وباقة أزهار كريشة فنية منمقة، كانت تنعش ذوق زرياب وتصله بزرياب آخر مر بالأندلس والتي بقيت آثارها قريبة جغرافيا وثقافيا بالمدينة التي كان يقطنها ،ولكن ليس له به صلة سوى في تشابه الاسم والميل نحو الموسيقى ومذاهب الجمال.
فلقد كان زريابنا المعني هذا يستمتع بغناء الطيور، كتغريد البلابل وزقزقة العصافير ،التي كانت لها أنغام خاصة بحسب لون الفواكه ومواسمها وبرودتها أو حرارتها،وفي مقابل الطيور كان يوجد خرير المياه والجداول التي تسقى بها البساتين على طول السنة وتشرب منها تلك الطيور نفسها ومعها الكلاب والحشرات والإنسان معا.وكان كلما قرصه جوع أو دفعته شهوة قطف ،من الشجرة مباشرة ،تفاحة غضة أو إجاصة ذات عطر كالمسك ،تذكر بالجنة ونعيمها.
كل هذا في الحقيقة قد كان مؤهلا لأن يجعل من زرياب موسيقيا ماهرا مرهف الشعور والإحساس لطيف الخلق والسلوك واسع الصدر وسليم العقل،ولكنه لم يستغله كما ينبغي ،لأن محيطه قد كان منغلقا على نفسه ،ثقافته محصورة بحد أنفه.بل ،بالرغم من جمال القرية وما أوتيت من خيرات وجمال وفن طبيعي خلاب فقد بقيت خارج التاريخ وخارج الحضارة وخارج التطور مع متاخمتها للمدينة وجها لوجه.ولم يجد زرياب لهذا الحال من تفسير،فقد يكون هذا السكون إيجابيا وقد يكون سلبيا.وليس كل من تحضر ازدهر كما ليس كل من بقي بدويا اندثر.
لكن علاقة زرياب بالكلاب ستكون بالقرية أكيدة وحاضرة أكثر من المدينة وذلك بطبيعة الحال ومقتضيات البداوة وأشغالها .فالراعي لا يرعى إلا والكلب معه ،كما أن كل كوخ أو مسكن إلا وببابه كلب يعلن بقدوم الغريب من بعيد فيستعد أهل البيت لاستقباله أو رفض حضوره.فهم إما أن يجيبوا على النداء أو يسكتوا حتى يمل الزائر ثم يعود أدراجه إلى وقت لاحق.فلم يكن يحتاج هناك إلى كاميرات للمراقبة والإنذار المبكر وإنما للكلب دوره ونعم به من دور.
وقبل أن يصل الزائر إلى مقصده من الديار فإنه لا بد وأن يمر عبر ممر ضيق ،من جانب يوجد المرتفع والحاجز ومن الجانب الآخر يقع المنحدر والمتدحرج أو لنقل جرفا صغيرا، إما يمينا أو يسارا،حيث تختلط فيه الحجارة المسننة ببقايا الأشجار وما يذبل من ألواح الصبار وبقايا روث البقرة والحمار.فلا تكاد تقطع الطريق لمسافة حتى تتفتق ثنايا الأحدية وتلتوي الأرجل ،والويل ثم الويل لمن كان لها حذاء بكعب عالي !
ولكن كل هذا وذاك قد يهون إلى جانب لقاء كلب عند المسير فذاك هو الإحراج والحيرة وتشتت المقاصد.فإما التوقف حتى يمر بأمان وهذا هو الحل الأمثل ،وإما النكوص والرجوع نحو الوراء ،وإما المواجهة وإثارة الغبار والرشق بالأحجار ،فتكون الحرب سجالا ربما قد يتطلب الأمر من الكلب طلب الإمداد فيلتحق بركبه كلاب آخرون وتدخل المواجهة في اليوم العصيب ،ويتقرر المصير للسالك بأن لا يعاود المرور إلى موعد غير محدد.في حين أن تلك الكلاب قد لا تسكت ولا تحترم ولا تهاب إلا أهل قريتها ،تعرفهم شخصًا شخصًا واسما اسما.
وعند قرب هذه الممرات والمداخل كانت تقطن جدة زرياب (وجده الذي توفي قبلها بفترة طويلة) ،ولكي يصل إلى منزلها فكان لابد وأن يخوض المعركة ويستعد للجري والتشمير عن ساق الجِد.وعند المساء وبعد نزول الظلام وسيطرة السكون وتلألؤ النجوم في السماء تبدأ موسيقى الكون الجميلة ،من نقيق الضفادع وعرير الصراصير ونعيق البوم ووُطَّ الخفافيش،وما بين فينة وأخرى تسمع خوار البقر وثغاء المعز أو الخروف ،وأكثرهم تكرارا وسماعا نهيق الحمير وذلك لأنها أكثر الحيوانات تأرقا وعدم استسلام للنوم نظرا لما تتوقعه وتتخوفه من متاعب الغد فيزعجها التفكير في الأمر ويفر عنها الكَرَى فرارا ،أو أنها قد يتسلط عليهم الشيطان فتراه وتردّ عليه بأنكر الأصوات،وهذا قد يدخل في الموسيقى الدرامية والمثيرة للخوف والرعب.
لكن الأكثر سهرا وانتباها في القرية عند الدجى ستكون الكلاب بالدرجة الأولى وذلك لعدة أسباب ومن أجل مهام محددة وجادة.إذ هي لها دور الحراسة ودور الرياسة ودور الإدارة ودور التنبيه .كما أنها قد تتزاور فيما بينها عند تلك الفترة بكل حرية ورومانسية ومن غير منغصات على عكس ما هو عليه حال الكلاب بالمدينة.
وفي هذا الظلام الحالك قد يحلو لها رفع الصوت للتشجع أو لإرسال رسائل مشفرة نحو الأصدقاء والأعداء تعلمهم بأنها حاضرة بقوة عند هذه النقطة أو الخندق من القرية أو تلك.فكل فريق يعرف حدوده ولا يتجرأ على اجتياز منطقة غيره إلا بعد المفاوضات وأخذ الإذن أو الاتفاق بالذهاب إلى عرس خاص بها ! .وكم هو جميل ومؤثر سجع الكلب عند خنادق القرية وما بين تلالها حيث تسمع محاكاة وصدى نباحه بين الجهات المختلفة ،حتى إنه قد يذهب الأرق ويساعد على النوم والخلود للراحة على عكس النباح بالمدينة !!!
وفي بعض الأحيان قد تصدر تلك الكلاب صوتا شبيها بعواء الذئب وكأنها ترسل إليه رسائل بأنها مستعدة للمواجهة وأنه لا يمكن له الاقتراب وإلا كان جزاؤه الفتك والهزيمة المرة.
وهذا العواء كثيرا ما كان يحدث عند الليل ،ولم يجد بعض السذج من أهل القرية بل حتى في المدينة تفسيرا له إلا بأن الكلاب قد ترى الموتى وهم يمر بهم عبر السماء إلى البرزخ أو شيء من هذا القبيل فتصرخ لذلك وتصدر عواءها بهذا الشكل!
وهكذا أصبحت الكلاب لها علم الأرض وعلم السماء ولها حراسة الأرض ومراقبة ما يجري في الفضاء، فهل هناك قيمة أرفع من هاته التي أعطيت لها ،في حين فإن من أراد أن يسب شخصا أو يهينه ويهين أباه وأمه فليكن الكلب في مقدمة السباب :يا الكلب ويا ولْد الكلب يا أولاد الكلاب وما تصرف منها،بل حتى الدين أو التدين قد نسبوه إلى الكلب فيقول بعضهم لبعض : »ياكْ ألدّينْ دْلْكْلْبْ ».
بينما الكلب بريء من هذه الأوصاف التي قد تسقط عليه من غير عدل ولا مبرر معقول.لأنه وفيٌّ وقنوع كما ينعت بذلك ويسير على غريزته.بل لو تعمقنا في تحليل حاله وتدينه لوجدناه أكثر من كثير من البشر انضباطا وتدينا وتسبيحا لله تعالى ،مصداقا لقوله: » وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا » » أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ».
ولقد كان شبه موضوعي أبو بكر بن خلف المرزَبَان المحولي حينما ألف كتابه »فضل الكتاب على كثير ممن لبس الثياب »أو »تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب » على خلاف حول كلمة فضل وتفضيل ما هي الأصح.
ولكن رؤية زرياب ذي الذوق الموسيقي والفني الرقيق قد تختلف عن المرزبان بحسب نوع المنظار والزمان ودقة الملاحظة وخلفيات السلوك وأبعاده ،وما ينضح عنها تشاؤما وملاما .وذلك فيما عرض عند مطلع كتابه:
ذهبَ الناسُ وانقضت دولة المجد ** فكلٌّ إلا القليلِ كلابُ
مَن لمّ يكن على الناس ذئباً ** أكلتهُ في هذا الزمانِ الذئابُ
لكنهما قد يلتقيان في بعض النقاط التي لا يمكن نكرانها في مثل هذه المواقف:
ذهب الذين إذا مرضت تجهَّلوا وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا
وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
ولا كل من تهوى يحبك قلبه ولا كل من صاحبته لك منصف

3
الكلب الثلجي وممهدات زرياب للتشبث بالكلاب

مرت السنين والأعوام وتغيرت الظروف والأحوال ومات من مات وعاش من عاش وتزوج من تزوج وولد من ولد ورحل من رحل وتوظف من توظف وترف من ترف وهرف ومن هرف وسافر من سافر وصابر من صابر وكابر من كابر وثابر من ثابر وكسل من كسل…تلكم هي دورة الحياة في تبدل وتغير ،تبدل الأماكن وتغير الزمان وتطور المساكن وتنوع القرائن، لا يدوم قرين لقرينه ولا يستقر كائن في مكانه ولا تدوم حالة من غير دالة أو معادلة.كل يمر بحساب وكل ينتهي إلى مآب،يدور ثم يعود إلى المكان الذي دار منه  » اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ».
وبينما زرياب يكون قد انتهى من ذكريات الكلاب وتفرغ لما فيه من تحصيل متطلبات الحياة وعويص تعاريجها ورهابها ومطمأنها ومتطلعها ومستنقعها ،وفي فترة لم تكن بالمتوقعة ولا هي مبرمجة في دفتر اليوميات ولا مدرجة حتى في الكلمات، تطفو مسألة المواجهة مع هذه الكائنات التي ازداد احتقارها في المجتمع فشردت مجاميعها وانسدت عليها الآفاق ،ولم يعد ذلك الوادي الذي كانت تشرب منه بحرية تجده صالحا للري ولم تكد تعثر على مكان للمأوى الآمن والمستقر ولو بغير طعام أو سقف يقيها حر الهجير ولا برد الشتاء .
كما أنها لم تكد تضمن السير في الطريق بهدوء وروية واطمئنان ونخوة وذلك لأن الزمان قد استدار وتغير المركب إلى سيارات الحديد بدل مجرورات الحمار.وهذا ما سيشكل تحديا كبير لحرية الكلاب وتهديدا خطيرا لسلامتها وصحة أبدانها بحيث كم من كلب أعطب ما بين أعرج وكسيح وقرطيط(مقطوع الذنب) وفضخ ورضخ.هكذا يتم رميه في الطريق من غير محاولة إنجاد أو تخفيف ألم ومواساة،وذلك لأن البشر قد اقتلع العشب والشجر ولم يكد يترك للطبيعة الحرة أي أثر.فلم يجد الكلب المسكين غير الاختباء عند هطول الأمطار أو اشتداد لهب الهجير سوى الاختباء تحت هياكل السيارات كميكانيكي متمرس يختبر قاعها ويعد مساميرها وصفائحها كما يستنشق بنزينها ويتمرغ في ما يقطر من زيتها ،فيتسخ جلبابه وتنتن رائحته ويختل مخه ومستوى شمه.
هذا مما يتعلق بمسكنه ودار إقامته ،أما مطعمه فهو نكد في نكد ومقاومة وعرة للبقاء من خلال البحث في أكياس البلاستيك إذا وجدت ولم يسحبها عمال النظافة ،فإذا سحبوها فليكن استعمال ما في الجهد للقفز على الحاويات الكبيرة التي ترمى فيها الزبالة في منافسة مع القطط التي قد تكون أحسن حظا من الكلاب في هذا الأمر لأنها ماهرة في القفز السريع وعلى العارضة .ولا يكد يحصل الكلب في الغالب إلا على ما قد ينفلت من فم الهر حينما يريد أن يقفز بمفازته.
لكن المشكلة الكبرى للكلب تكمن في مشربه الذي قد حرمه الإنسان منه من غير رحمة أو انتباه ،فصرف المياه وخزنها وأحكم إغلاق الصنابير وختمها ولم يعد يوجد لغيره ما يستسقي به ،قد طال الحرمان حتى الطيور التي تطير فما بالك بالكلب ذي الأربع قوائم، والذي » إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ « .بحيث هذا اللهث قد يسبب له عطشا متتاليا والذي قابله به الإنسان الحضري بالحرمان والمنع المتسع ،ولم يبال أو يتساءل لماذا يصيبنا القحط، وهل نحن في مقام السخط ؟.
لكنه لم ينتبه إلى هذا الاعتداء على حق الغير المستهان به والذي هو ذي كبد رطب مع ذلك. فلقد كان زمن الصبّانة والوادي أرحم بالكلب والهر والطير من زمن زرياب المتأخر حينما تطورت الكهرباء والكيمياء والفيزياء ،وكثرت مصادر الهضم والقضم والاستهلاك والامتلاك.فغيبت العيون وغوِّرت ،وجفّت السواقي وتقحلت.
ولم يبق للكلب مورد يرده لإرواء عطشه سوى أن يهلك أو يصيبه السعار غضبا من القوم وعتوهم ،وخاصة في فصل الصيف الحار حيث لا يوجد في الحاضرة سوى الأسوار الآجورية النارية والدخاخين الكربونية المحترقة، ولا شجر ولا أخضر يخفف من وطأة الحر والعطش ،فلم يعد يرى سوى السراب » حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ « .
وحساب الكلب سينقلب على البشر بالخوف وبالجوع ونقص الثمرات وما إلى ذلك ،كما قد يتطور إذا لم يستدرك إلى » كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ » فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.ألم يقرأ القوم حديث النبي صلى الله عليه وسلم حول الذي أو التي، غفر الله لها ،أو له ،بالرغم من كبر خطاياه أو خطاياها، بمجرد أنه أو أنها أروت أو أروى كلبا عطشا بكفيه أو كفيها؟.
وإذا قرئ الحديث بمنطق الخلف فقد لا يغفر لمن ترك كلبا أو هرا يموت عطشا ولا يرويه لأنه مسئول عنه.حتى إنك قد تجد المدينة على طولها وعرضها لا يوجد بها محقن أو دلو وإناء يوضع عند الدرب أو باب الزقاق والحي كصدقة ترحم بها الحيوانات من كلاب وهررة وطيور وحتى حشرات !!!بينما المياه تصب صبًّا في التفاهات تبذيرا وتبخترا.
لكن زرياب بالرغم من قلبه الحنون هذا ورقة مشاعره نحو الآخر ،الذي قد يبكيه كثيرا لحد النّواح بمجرد أن يرى بؤسه ظاهرا وعابرا ،لم يكن ليتفطن إلى هذا المطب الذي وقع فيه هو و مجتمعه بقساوته المقصودة وغير المقصودة،وليس كل مجتمعه قاسيا ولا هو متعنتا ،ولكن ظروف الحضارة والتطور بغير ضوابط خلقية وتوازن مدروس جعل من الخيّرين أشباه الشريرين ومن الشريرين في صدور الميادين ،هم من يقررون وهم من يخططون وهم من يستغلون وهم من يأكلون ويلتهمون.وكيف بمن لم يأبه بأكل أخيه من جنسه أن يلتفت إلى حال غير جنسه وخاصة الكلاب مظنّ النبذ والبعد؟.
وفي ذات صيف حار وبمدينة حارة وعلى غير موعد وقصد ،ومن صلة قريبة ومصاهرة، زاره زوار يقربون إليه بقرابة صهر ومعهم أطفالهم، وعلى غير المعتاد قد كان معهم كلبهم.كلب من بلد بارد ثلجي اللون أزرق العينين جميل المنظر والمخبر يضحك ضحكا ويطير فرحا ويتحرك طربا.دخل على زرياب الكلب في منزله فلم يستأذن حيث يجلس أو يقف وإنما في لحظة كالبرق جاب البيوت والأماكن من مكان لمكان لا يكاد يلحق به ولا يمسك به،لأنه في تصوره يعتبر أن الجميع يرحب به والكل يقبل زيارته ولم لا لمسه ،لكنه لا يكتفي باللمس وإنما يسعى إلى اللحس والشم كعادته وطبعه ،إذ حبه أقوى من حب صاحبه وتعبيره أعمق من تعبير مقتنيه.فهو لا يجامل ولا يسلم تسليم العائف والمتكلف ولا يبدي أنيابه إلا لمن هو له مهدد أو مخوف.
زرياب لم يستطع أن يتمالك نفسه وفي حضرة صاحب الكلب حتى صاح:- أبعدوا عني الكلب ولا تتركوه يقترب مني.أبعدوه ثم أبعدوه فلا أريد أن ألمسه ولا أطيق أن يلحسني، فقد ينجس ثوبي وأنا مقبل على الصلاة فيبطلها.
أجابه زائره ،كأخ عزيز عليه ،بعفوية وأريحية: لا عليك فقد لا يؤذيك ،بل هو فرح بك.
رد زرياب :- وإن يكن، فليس لي حاجة في الكلاب ولدي وسواس النظافة ،فكلما شمني أو لمسني فقد أذهب لغسل يدي أو بقعة من الثوب حيث حاذى بأنفه شيئا مني.
عقب صاحبه:يا أخي إن هذا الكلب قد وجدت معه نشاطا وسرورا كبيرا ،وقد أدخل علينا الفرحة ،كما أنه يزيل الكآبة،هكذا يقال …
توقف زرياب قليلا ثم عقب:ولكن الكلاب فيها نجاسة وتسبب أمراضا كثيرة قد يقال لها الدودة الشريطية وأمراضا أخرى يعاني منها الغربيون ومن في حكمهم ممن يقتنون الكلاب ويسكنونها معهم في المنازل.
هكذا جرى الحديث بين زرياب وصاحبه في مناظرة أخوية وضحك وسرور لم يعهداه ولم يعهده أهل البيتين من قبل، بالرغم من قرابتهم الوثيقة.مناظرة فيها أخذ ورد هذا يصف صاحبه بالوسواس والآخر يعتبره مهملا ومفرّطا في حكم الشرع بخصوص الكلاب والنظافة ،ومع هذا فهما متفاهمان لأنهما رأيا فرح أطفالهما بما لم يعهدوه من قبل ولم يستطع قريب أو بعيد أن يهبهم هذه الفرصة للتنفيس وتغيير المناخ.
مناخ قد كان جله ضيق وقمع وإسكات وسين وجيم …لكنه الآن تغير إلى مشاركة جماعية في الحوار واللعب مع الكلب والجري وراءه والهروب منه ولعب الغُمَّيضة معه،وإرسال الكرة عالية وبعيدة فيسرع لقطفها في الهواء ثم العودة بها فرحا مبتهجا، ليس له إلا هذا ولا يعرف للكآبة والغم والهم وحسابات ولا للمجاملة الزائفة والتكلف طريقا إلى نفسه.
مر الكلب الثلجي من بيت زرياب عابرا ومخلفا وراءه ذكريات ومباهج وانتعاشا في عطلة صيفيةلم تكن تمر سوى بالزفير وشدة الحرارة وما يشبه الغم والاكتئاب ،إذ فرص الاستجمام قليلة في تلك المنطقة التي قد تختلف عما هي عليه حالة المدينة الأولى، بالرغم من كآبتها ورطوبتها وضغطها الجوي الذي يولد الكسل وينمي الرغبة في العنف والعبوس والجدل العقيم ،وما يتبعه من سوء تفاهم ليس له من سبب سوى المناخ وما حوى ونوع الماء الذي به يرتوى.
ولم يكن العيب في المناخ ولا في الماء ولا الموقع ،ولكن العيب كان في زرياب الذي أبى على نفسه سوى الاكتئاب بمبررات سيندم عليها فيما تقدم من عمره وسيرته.فحرم نفسه وأهله من مباهج الحياة وضيق عليهم في وقت الاستجمام والسفر والعطل ،وخاصة عطلة الصيف التي لا تليق سوى بالتنقل من بلد إلى بلد وتغيير المناخ إلى آخر عكسه حتى يتم تجديد الطاقة وتجديد خلايا المخ والعلاج بالمضادات المناخية والجوية والمائية .
فلم يكن يرتاد البحر ،سواء في النهار أو في المساء، بالرغم من قربه للمدينة التي كان يقطنها على بعد كيلومترات قد تعد على أصابع اليد الواحدة، وذلك بمبرر عدم جدوى الانخراط في وسط العري والاختلاط وما إلى ذلك كغيرة والتزام ،هذا مع ما كان يتذرع به من أن الميزانية قد لا تسمح والظروف غير مواتية…،وهذا حق ومعقول في بعض منه ،ولكن كان لا بد من البحث عن البديل وإلا فالموت البطيء هو المنتظر حينما يسافر كل الناس وتبقى أنت وأهلك بين أربع حيطان آجورية تلهب مخك ومخهم ،وتضيّق صدرك وصدرهم، وتقطع نفسك ونفسهم، فينعكس ذلك على سلوكك وسلوكهم بالسلب والتوتر وتبادل اللوم وامتداد الاحتقان الذي قد يؤدي في بعض الأحيان إلى الانفجار وتقرير زيارة طبيب الأعصاب ،ولم لا طلب الاستضافة في مستشفى الحمّاق (الأمراض العقلية والنفسية)!. ولم ينتبه زرياب لهذا الخطر المحدق به والمنغص للعيش والنفس إلا بعد فوات الأوان بالرغم من ذوقه الفني واستحلائه للغناء وحبه لجمال المنظر والإيقاع الذي اكتسبه بالقرية السابق ذكرها.
فلقد كانت زيارة الكلب الثلجي كأنها جاءت على موعد مع طبيب، في حين ستكون موازية لبعض الانفتاح الذي بدأ يعرفه زرياب بخصوص توفير فرص الترفيه لأهله وتغيير أسلوب التعامل مع المحيط والمتوسط ،بحيث سيخطو خطوات محتشمة نحو ارتياد بعض أماكن الاستجمام العامة والتي كان يفضل هو وأهله أن تكون مصطافات غابوية لأنها أقل إحراجا من البحر ومذاهبه ووساوسه.
لكن ،بعد الملاحظة وبعض استراق للنظر سيجد أن الأمر يكاد يكون سيان، ولايوجد الفرق إلا في نوعية الماء المستحم به ،هذا عذب بارد سائغ للشاربين وذاك مالح أجاج فاتر ينعش العظام ويغسل الأعين ويحمر الأجسام لحد السمرة أو الحرقة مع إعادة الكرة تلو الكرة.فتذكر حينها زرياب قصة أو لنقل نكتة شعبية مستوحاة من ثقافة أهل الجبل والبادية،وذلك أن أحدهم سمع صاحبه يتلو قول الله تعالى »ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ »،فأجابه للتو: بل حتى عندنا في الجبل !.أي أنه قد توهم بأن الآية ربما تكون قد أغفلت الجبل بالاسم من هذا الحكم وذلك لما بدأ يتساوى فيه أهل الحاضرة مع أهل البادية من سلوك ومظاهر بسبب التطور وسرعة التواصل.
لكن زرياب قد كان واعيا بهذا التغير ولكنه كان يغالب الأمر ويعاند الواقع أملا في أن يحدث يوما تغير وتطور ،ويتم تنظيم هذه المصطافات وتخصيص ما هو للحرية وما هو للمقيد عند مسئولي البلد ،وهذا توهم واستئناس لحرق الزمن وغصة ضيقه ونغصه.
فهو ليس لنفسه ،ولو كان الأمر كذلك لبقي في بيته وعزلته مختبئا ومنزويا في ركنه قد تعود على هذا الحال واستمرأه ،بل سبب له خوافا وارتعابا من الخروج والابتعاد عن دائرة مدينته ولم لا حتى حيه وزقاقه حيث يقيم.وكأنه هنا يعيش ذكريات المدينة في زمن الصبّانة والمزرعة والخوف من قطاع الطرق ومباغتة الكلاب وعفاريت الوادي.
لكن وفي فترة من فترات الصيف كان زرياب بمعية إحدى بناته ،ابنته الصغرى، يتنزه بين الأشجار بحديقة عمومية بالمدينة التي سكنها في آخر مطافه ،وهي تبعد عن الأولى مئات الكيلومترات وتختلف كما قلنا بيئة وثقافة ومناخا وأيضا هضابا وكلابا.
فإذا بهذه البنت النجيبة تجول به جولة في نواحي الحديقة ،وفي نيتها قصد ما، ثم تلح على أن تبحث عن نادي سمعت بأنه خاص بركوب الخيل .كعادته فقد استبعد زرياب وجود هذا النادي ،بل حاول بكل ما أوتي من أسلوب في أن يصرف بنته عن التفكير في هذا الأمر ،هذا مع اعتباره أن ركوب الخيل ليس من بالمناسب للفتيات كما هو ليس من حظ الطبقة الفقيرة مثله ومن في شاكلته أو أقل منها ،لأن المعروف والمشهور هو أن رياضة ركوب الخيل هي رياضة الملوك وما دخل الغوغاء والدهماء بل حتى العلماء في هذا الشأن؟
لكن عزيمة البنت قد كانت أشد من عزيمة أبيها ،وإرادتها أقوى من إرادته ،وطموحها أبعد من طموحه ! فلم يكن بد من أن يجاريها ويستجيب لطلبها في البحث حتى عثرا على مقر النادي والذي كان خاليا في صيف محرق ومرهق .إذ الخيول كانت تستجيب للراحة في هذه الفترة ،فلا ركوض ولا قفز على الحواجز ولا استعراض.
كان زرياب مستبعدا كل البعد أن يسجل بنته في هذا النادي نظرا للأحكام المسبقة التي كان يخزنها في ذهنه المقوقع وخارج التغطية.يستبعد من حيث اعتبار القبول بسبب الانتماء الطبقي، ويستبعد بحسب المصاريف التي ستكلفه للتسجيل والانخراط،فقدم رجلا وأخر أخرى، لكن الرجل التي تقدمت هي التي غلبت وذلك لغلبة إرادة بنته وقرة عينه وفاتحة أمل التغيير في حياته وحياة البيت كله.
فما أن تقدم للسؤال عن إجراءات الانخراط في النادي حتى فوجئ بأن التكاليف جد زهيدة وأن الأمر لا يعدو سوى بعض الدراهم قد تدفع رمزيا كدعم لبعض أمور الصيانة.وبسرعة تم التسجيل وتحقق الحلم وبدأت الفرحة تدخل البيت بفعل حضور حصص التدريب الذي كان يتم بانضباط تام والتزام ،ويحمل الطابع العسكري دقة واحتراما وصرامة.
فلقد كان المدربون في أغلبهم من أجود الناس خلقا وتواضعا وصبرا وحرصا على تدريب من يتولون تدريبه مما شجع وحبب لزرياب وأهله الحضور شبه يوميا لرؤية حصص التدريب والتباري بالقفز على الحواجز وكل ما تقتضيه رياضة ركوب الخيل،فكان يلتقي في بعض الأحيان مع رجال وأطر من درجات عليا في صف الجيش يشرفون على تسيير النادي فلا يرى في غالبيتهم سوى التواضع وحسن الخلق والمعاملة والتشجيع ،فكان أن تغيرت نظرة زرياب إلى رجال جيش في بلده وحماة الديار من أمته، على عكس ما كان يتوهم ويسبق إلى ذهنه من سوء ظن وتوقع خشونة وكبر مترسخ …فتولدت بينه وبينهم صداقة واحترام متبادل فتح باب الأمل لديه بأن البلد قد يكون بخير ما دام مثل هؤلاء من يتولون حمايته.
بدأت الرحلة مع الخيول وتنوعت الأنشطة وزالت كثير من العقد والأحكام الزائفة المسبقة ،فكان زرياب يفرح كثيرا حينما يرى بنته الصغرى وهي تستيقظ مبكرا ،والفرح والسرور يعلو محياها، فتستحضر معها ما يلزم من أدوات ولباس خاص بركوب الخيل ،هذا مع ما يتطلبه الأمر من علاقة ود بين الفارس وفرسه والذي يعجبه كثيرا طعم الجزر وبعض المرطبات من الخضر.فكانت تأخذ معها ما أمكن من تلك الفواكه إرضاء للخيل وإرضاء للضمير وتسلية ما بعدها من تسلية.إذ « الخيل معقود في نواصيها الخير ».
فلقد كانت عزيمة البنت وإرادتها قوية وكان طموحها أن تحصل على الدرجات الأولى في التباري منذ البداية ،وفعلا تحقق لها ذلك جزئيا فنالت جوائز رمزية محدودة طبعا بحسب سنها ومستوى التباري في ناديها ،ولكن ذلك شجعها في دراستها وتكريس طموحها نحو المراتب العلى وركوب مطايا العلوم وارتياد أصعبها وأشدها على النفوس دقة وصرامة وتعقيدا.
ومع كل هذا وما قدمه الخيل من تحفيز نحو الطموح فقد بقيت ذكريات الكلب تطفو بين وقت وآخر على حديث البنت ،خاصة وأن أبناء الخالة الصغار كانوا قد أرغموا والدهم على أن يعوضهم عن ذاك الكلب الثلجي بآخر مباشرة ،بعد موته بشكل مفاجئ وبسبب إهمال بعض المروضين له إما من نقص نظافة أو بسبب شرب ماء أو طعام مسموم لم يكتشف حينها سبب موته.
فكانت هذه الحادثة صدمة لأولئك الأطفال وذويهم ومعهم حتى أهل زرياب، لغاية أن بكوا عليه وانتحبوا.فكان يأخذه العجب وربما يلومهم على هذا الحزن الذي يراه من منظوره الضيق نحو الكلاب بأنه مبالغ فيه وأنها لا تستحق حتى أن يحزن عليها فما بالك بأن تصير مبكى ومأتما.
هذه الأحداث والتواصل عبر الهواتف واستخبار حال الكلاب جعلت من بنت زرياب هي الأخرى أن مهتمة بها كاهتمامها بالخيول أو أكثر ،فبدأت بين فينة وأخرى تحاول أن تستدرجه نحو سوق يعرف بسوق الكلاب بالمدينة لمجرد الاطلاع على أشكالها والتعرف على أنواعها وأصولها ،فكان في بعض الأحيان يجاريها ويمر معها بالسوق بعد الفراغ من ركوب الخيل حتى جاء الموعد المحتوم وتبدأ الرحلة بما فيها من أبطال ونجوم.
ولقد كانت البنت بهذا المسعى للجمع بين رياضة الخيول واقتناء الكلاب تعبر من حيث قصدت أو لم تقصد عن قاعدة فلسفية وأخلاقية سلوكية جد عميقة،إذ كما هو معروف في فلسفة أفلاطون أن قوى النفس الإنسانية تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:القوة العاقلة والقوة الشهوية والقوة الغضبية.ولتحقيق التوازن النفسي والضبط السلوكي فلابد من أن تكون القوة العاقلة متحكمة في القوتين بالتوازي وفي آن واحد.ومن هنا فقد يرمز كثير من فلاسفة النفس والأخلاق إلى هذه العملية براكب ،وهو القوة العاقلة،يمتطي عند الصيد وفي مكان أخضر متنوع الكلأ حصانا وهو القوة الشهوية، وبيده اليمنى يتحكم في سرعته بلجامه ، وباليد اليسرى يشد إليه بربطة عنق أو حبل كلبا وهو القوة الغضبية فيمنعه من النباح والتهديد بالعض والهجوم.فكلما جمح الحصان رده بالكلب نبحا وكلما جره الكلب وأكثر النباح والإثارة أوقفه من خلال الحصان قوة ورسوخا،إذ الشهوة تسكن الغضب والغضب يحد من جموحها .أما إذا ترك الحصان يركض من غير لجام والكلب ينبح من غير شد حبل أو حزام فقد يكون ذلك سبب سقوط الفارس شر سقطة.بحيث إن النباح يهيج الحصان وفي هياجه يزيد من نباح الكلب فلا تتهذب النفس الغضبية ولا النفس الشهوية وتضيع معها النفس العاقلة.إذن فلا بد من التلازم والتوازن بين الحصان والكلب والفارس حتى يتم السلوك بأمان وسلام !!!

4
الجِرْو « هايْدي وَانْ » ومؤشرات البهجة والسلوان في بيت زرياب

وفي ذات يوم ليس كسابق الأيام، وبعزم مع قوة حزم، ألحت البنيَّة إلحاحا على أن يذهبا إلى سوق الكلاب لمعاينة بعضها مجرد معاينة ،ولكن البنيَّة كانت تخفي نية وكان زرياب يعلم يقينا تلك النية ويعيها ويتوقع نتائجها ،ومع أنه رافض لها مبدأ إلا أنه لم يكن له بد من مجاراة إلحاح بنته التي أبت إلا أن تقوم بجولة نحو هذا الحي الذي لغته النباح والمواء والتغريد والزقازيق ،ولكنها أصوات حزينة وكئيبة ومقهورة ،تبكي بغير دمع وتنوح من غير تطويح ولا تكميم تعبير ،وإنما كل صنف له سجعه الخاص به يشتكي إلى خالقه من سوء حاله ومحبسه وتجويعه.فلا ترى في هذا السوق ،وأي سوق هذا؟سوى أقفاص متسخة وبالية متآكلة ،تكاد الجراثيم والميكروبات أن تطير بأجنحتها ومخالبها فتهاجم المارة أشد من مهاجمة الكلاب والذئاب للغرباء.وأي أقفاص هاته ؟إنها مجرد أسلاك صدئة وصفائح ألواح قد نخرها السوس ورقاع مهترئة يفترش بها فضلات الراحلين وتراكم زغب الوافدين، فيعشش فيها القمل والبرغوث وما تراه العين وما قد لا تراه ! .تمر من أمام القفص فترى الكلب أو الهر ينظر إليك مستعطفا ومناشدا إياك بعينيه وعويله : – أعطني حريتي وأطلق يدي،أنقذني من هذا السجن والسجان وفك أسري من هذا القيد ولو إلى المشرحة أو النار!.
وبينما زرياب وبنته في هذا التجوال والمجال إذا بهما يلحظان أجْراء أو جِراء(جمع جَرْو) في حانوت هو بدوره يكاد يشبه القفص لضيقه وتشبك مدخله تركيما للأقفاص ومقتنيات الحيوانات الأليفة مع عفونة رائحته كمقوي للمناعة بامتياز.
قالت البنت لأبيها وهي تجره جرا: – تعال يا أبت لننظر إلى هذه الجراء في هذا القفص إنها تبدو من نوع كلاب الحراسة .إنها البِرجي ،إنها الكلب البوليسي ،إنها الدوبرمان…
حاول الأب عبثا أن يصرفها عن التوقف :- دعنا من هذا ،إننا مجرد عابرين ومشاهدين ،وما هذه سوى كلاب عادية لا يفيدنا في شيء أهتمي برياضة ركوب الخيل ودراستك أولى من هذا ،فما ينقصنا غير الكلاب…
استعطفت البنت زرياب لكي يتوقفا ولو هنيهة ومشاهدة الجراء عن قرب ولم لا عن لمس وتفحص فاستجاب لها أخيرا من باب المجملة والمسايرة فقط.
– ما نوع هذه الكلاب يا سيدي ؟يسأل زرياب بائعها بحذر ونية تخلص .
– إنها من نوع البرجي ،وفيها الكلب البوليسي (شيان بوليس) ووو.
تدخلت البنت وهي لها علم بأسماء الكلاب ما لم يعلمه زرياب: – هل البرجي ألمان أم البرجي مالينْوا ،وهل هذا من نوع الروت أم الدوبرمان وأسماء أخرى لا يفهما ولا يعلمها .
انبرى بائع الكلاب لعرض ما لديه من بضاعة فإذا به يعرض على البنت توأمين من الكلاب زعم أنهما من فصيلة البرجي البلجيكي وبالأخص المالينْوا.
نظر زرياب وبنته إلى الجروين فصدقا مزاعم البائع وشرعا يقلبانهما ويحدقان النظر إليهما وهما في حجم كرة اليد،قد فصلا عن أمهما عنوة قبل الفطام أو حتى القدرة على تناول الطعام.وهذا في أوله إجرام وهدر لحقوق الحيوان كمقدمة لهدر حقوق الإنسان.
أقنع البائع زرياب وبنته بجودة الفصيل وصحة الدليل من لون وشكل وأذن ووو.وكم من مرة يلدغ زرياب ويغرر به في مثل هذه المبايع والمشتريات التي لا تستند إلى أي نص قانوني أو ضمانات سوى تمويه البائع أو تنقيص المشترى فيكون حظه دائما هو الخسارة وبيع المحتاج.والقانون لا يحمي المغفلين و » الله يجعل الغفلة بين البائع والمشتري »كما يقال في هذا المجال.
تمت الصفقة في الحين على أساس أن الكلب ذكر من صنف البرجي مالينوا وبثمن ليس بالغالي ولا بالبخس ،وذلك حتى لا يتفطن المشتري بأنه إنما اشترى كلبا من كلاب القرية أو المتشردين عبر الأحياء أو من المولدين المتقاطعين بين صنفين مختلفين.
وبعد استشارة أهل البيت والاتفاق على أن هذا الجرو قد يحتفظ به لمدة أسبوع على أعلى تقدير ثم يرد لصاحبه من باب مسايرة رغبة البنت وإلحاحها فقط .
وأخيرا وصل الجرو في صندوق حلوى صغير إلى المنزل فاستقبل كأحسن استقبال وأسعده.فهو أول كلب بهذا الحجم وهذا النوع يدخل دار زرياب ويحمل معه أنغام الكلاب من سجع حلو مزعج وفي نفس الوقت مؤنس.
لم يجد الجرو حرجا في التأقلم السريع مع أهل البيت وفرض حضوره بالقوة .بحيث سرعان ما أصبح الكل يخدمه ويقدم له الطعام والشراب ويفترش له أنفس ما في الألحفة والثياب. هذا يلمس رأسه وذاك يرتب على ظهره وتلك تحمله بين ذراعيها وأخرى تحاول أن تستنطقه لتسمع نباحه ،وهكذا انخرط في تواصل مع الجميع من غير تكلف ولا تطبيع.حتى إن الكلب يكاد ينطبق عليه الحكم بأن حيوان اجتماعي بطبعه.ليس بالضرورة أن يكون بانيا ومشيدا وصانعا ورساما ،إذ أي بناء أجمل وأصدق من بناء الصداقة ومذاهبها ومناقبها؟ .
قضى الجرو ليلته الأولى عند مدخل المنزل محفوفا بكل عناية ورعاية لم ينقصه شيء مما تتطلبه حياته ونموه،فهو إن حرم من أمه ولم ينل حظه منها بالرضاعة فقد هيأ الله له من يعوضه هذا النقص بحليب البقر ووصفات الطعام من تفنن البشر،رزقه مضمون كيفما كان حاله ومستقره ومآله.
ومنذ الليلة الأولى بدأ الجرو يقوم بمهامه ويعرب عن استعداده لأن يبادل أصحابه بما يليق بمقامهم وعنايتهم به.وعند آذان الفجر كعادته سيذهب زرياب للصلاة بأقرب مسجد في الحي ،هذه الصلاة يجد فيها تخفيفا كبيرا وطمأنينة وتجديد نشاط وتنفس .إذ القيام لصلاة الفجر قد نظم له نعاسه وصرف عنه أرقا مزمنا كان يعاني منه ولم يجد له علاجه.فكان الاستيقاظ المبكر عند الفجر خير منظم لحياته ونومه ويقظته،وخاصة إذا امتد به الاستيقاظ حتى طلوع الشمس أو عند الزوال ،فهذا قد يجعل النوم يسارع إليه بمجرد نزول الظلام ،فلا يكاد يصلي صلاة العشاء القابلة حتى يخلد إلى النوم والراحة التي يطرد بها الوساوس ونكد الحياة وينسى غبن الأصحاب وسوء صلة الجيران و بعض الأقارب أشباه العقارب !!!.
بعد أداء الصلاة يعود زرياب إلى المنزل وهو يتنفس بعمق وتكرار عله يستغل تلك الفترة الصحية من الوجود فينعش مخه وينقي رئته ويسقي ذاته بهواء ورذاذ الصباح كمظهر لبهجة الحياة وسرها ،وفي ذاكرته وعلى لسانه تجري الآية الكريمة: » وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ  » .
فما أن يولج المفتاح في ثقب الباب حتى يسمع صوتا كالزئير ،وليس نباحا متتاليا، صادرا من الجرو كأنه يحذر الداخل ويقول له :احترس فإنك مراقب !.
لم يصدق زرياب سمعه في اليوم الأول ثم ذهب لليوم الثاني فلما رجع سمع نفس الصوت وبنفس الرنة والإيقاع.-عجبا لهذا الجرو الذي يدرك منذ اليوم الأول من هو صاحب الدار من الداخل ومن هو آت من الخارج.فالخارج مضمون والداخل غير مأمون حتى يدلي بشهادته!.يوشوش زرياب في نفسه.
بهذه الإشارة رسخ الجرو مكانه في المنزل وأثبت منذ البداية بأنه كلب حراسة بامتياز فلم يعد هناك لدى زرياب وأهله الرغبة في التخلص منه وإرجاعه إلى سوق الكلاب،فلم لا يحتفظ به عسى أن ينفع الجميع، وخاصة في حي كثر فيه اللصوص ومرتادو المخدرات والمعترضون طريق الصغار والفتيات ،حتى أنه لم يفلح رجال الأمن في ردع هذه الآفة ولا حتى الحد من مظاهرها.
كان من سلوك هذا الجرو أنه في بعض الأحيان يقف على قائمتيه الأوليتين ويدفع بجسمه نحو الأمام حبوا رافعا القائمتين الخلفيتين كأنه يلعب الجمباز الإيقاعي أو الأرضي بالمتوازي ،فكان الجميع يرى هذا المنظر المضحك كسرك من غير ترويض ولا يدرون لماذا يفعل هذه الحركة ،لكن بعد التحري تبين أن الجرو حينما يتخلص من فضلاته كان يسعى إلى تنظيف جسمه بهذه العملية عن طريق دعك مؤخرته بالأرض .بحيث كان الاكتشاف مضحكا ومثيرا في نفس الوقت.هذا الكلب الذي يتهم بالنجاسة والوسخ يعطي منذ كونه جروا درسا للبشر في النظافة والحفاظ على طهارة جسمه وثوبه غريزة وقانونا ،تماما كما يقال من علامة بلوغ الكلب أن يرفع رجله عند التبول لإثبات تحديه وحضوره و حتى لا يصيبه رذاذه .حتى إن الكلاب نفسها قد تتعجب من بعض الكتابات التي تكتب على الحيطان « ممنوع البول يا حمار » فتتساءل كيف يبول الحمار قائما وهذا من شأن الكلاب ؟،فلا يكون المقصود بالحمار هنا سوى قائم على رجلين لا أربع وهذا إما قرد أو شبيه به !. إذن لا بد أن في الأمر سرا ينبغي كشفه.في حين قد يظلم الحمار المسكين بهذا ا لاتهام ويوصف بقلة الحياء والنظافة والغباء بينما هو من أذكى وأغير الحيوانات كما أثبت الدراسات في الماضي والحاضر.
قال حمار الحكيم توما يوما لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب
منذ البداية بدأ التفكير في مأكل الجرو ومدثره وتحديد مكانه من البيت حتى يلزم حدوده ولا يسبب مشاكل الإقامة والنظافة،فكان أن وقع الاختيار بحكم صغر مساحة الدار على أن السطح هو الأنسب، ولكن بشرط أن يبنى له كوخ صغير بمقياس احتوائه وحمايته من برد الشتاء وحر الصيف.
وفعلا تم بناء الكوخ وهيء له بشكل متواضع مع قربه من مجرى صرف المياه ليتمكن من طرح فضلاته من غير حرج.فكان الجرو يلتزم مكانا محددا لا يتجاوزه وفي نفس الوقت يقوم بنفس الحركة البهلوانية كما سبق،كما أنه لم يسبق أن لطخ أو نجس الثوب المكان الذي ينام فيه ،وإنما يبتعد عنه قدر الإمكان فيتخلص من فضلاته!!!.
فقد كان السطح من الدار شبه مهجور ولا يستعمل إلا في العطلة الصيفية كمنتجع ومبرد بالصنبور، وأيضا من أجل نشر الغسيل ورمي كل آنية مستهلكة أو حصير، لكنه سيتحول إلا مكان هو المفضل عند أهل البيت جميعا لما يجدونه من بهجة وسرور ولعب قد يفرضه عليهم الجرو فرضا بسبب نباحه وعناده عند إمساك طرف ثوب أو كرة وعصا ،فلا يكاد يطلقها إلا بعد جر وفر وكر ودوران ،فمرة يعضض الشيء وأخرى ينال من يد صاحبه بأسنان صغيرة مسننة ، قد كانت في البداية لا تكاد تؤذي أو تترك جرحا وألما إلا خدوشا بسيطة و نُدوب لا تضر في شيء سرعان ما تنسحب. فكم من جورب ثقب وكم من حذاء نقب وكم من منشفة تنسلت خيوطها ،ومع ذلك فقد كان الأمر مسليا ومبهجا ومضحكا لحد القهقهة.إنها لفرحة ممتعة وناذرة لم يكن أهل البيت ليجدونها ولو مع أقرب الأحباب والأصدقاء والجيران !!!
حتى الطعام قد كانوا يؤثرونه به من حليب مغلي وطازج وجبن وبيض وسمك ،وأيضا الفاكهة وبعض الخضروات منها الطماطم …
موازاة مع هذا الاهتمام فقد كان لا بد من تخصيص الجرو باسم يلقبونه به حتى يستجيب لكل من يناديه،فبدأت الاقتراحات ،هذا يقترح ركس وتلك تفضل ماكس وصاحبة البيت تقول غاص أو غاصت و زرياب صاحب البيت يميل إلى بوبي التقليدي فيقول:– سموه بوبي أحسن كما قرأناه في الابتدائي:بابا،باب،بوبي ببابي. فلقد كان لجدتي في حقل الإجاص (الغرسة) كلب كنت أحبه اسمه بوبي ،كان جميلا ونشيطا وأسود اللون وبشوشا مبصبصا ،لكنه سيموت مبكرا بسبب مرض ألمَّ به ولم يعالج منه بشيء فترك حزنا في نفس زرياب المراهق حينذاك.
ارتفعت الأصوات :لا لا فهذا اسم قديم قد عفا عنه الزمن ،نريد شيئا معاصرا وخارجا عن أسماء العرب اليوم ،اسما له إيقاع موسيقي ومثير للانتباه…
وبعد الأخذ والرد والشد والجذب سينتهي الاقتراح عند غاصْ أو غاصت أوغارْص ثم آل الاختيار إلى جاصْ Gass ،إنه اسم مختصر وشديد الحروف ويليق بالجرو البرجي الذكر.فبدأ في الحين النداء غاص غاص تعال يا غاص، هيا يا غاص، اذهب يا غاص، ما تفعل ياغاص ؟ نم ياغاص؟ ماذا أكل غاص أين اختفى غاص؟…
بقي الأمر هكذا والكل يعتقد بأن الكلب غاص ذكر وليس أنثى ،لأنه لا أحد كان يبحث في مناطقه الخاصة تحفظا واستحياء.ولم هذا البحث وقد أكد البائع بأن الجرو برِجي ذكر ؟ بل حتى الطبيب البيطري وقد كانت امرأة لم تحدد جنس الجرو ولا حتى صنفه بزعم أنه لا يمكن في تلك الفترة التمييز لصغر عمره.وقد كانت زيارتها من أجل تطعيمه بمصل المضاد للسعار وتفادي الأمراض الفتاكة ،لكن الطبيبة رفضت هذا التلقيح حتى يصل الجرو سنه إلى أشهر متقدمة ،فكانت هذه مقدمة غيبية لمآسي الجرو وتسريع وتيرة سريان قدره.
وذات مرة سيزور أحد أصهار زرياب ،وخال الأطفال، العائلة ،كان قد سبقت له خبرة بتربية الكلاب فما أن رأى الجرو وبحث بين جنبيه حتى طلع على الجميع بنبأ صادم ومخالف لكل التوقعات والتطلعات :- إن الجرو ليس ذكرا بل أنثى !!! – ماذا تقول ،وهل لديك الدليل،وهل أنت متأكد مما تقول وما جئت به من خبر بديل؟
لم يكد الجميع يصدق ولا يريدون أن يصدقوا، لأن الأنثى في العرف مرفوض تربيتها لما يتخلل حياتها من حمل وولادة وتغير مزاج وجراء…وهذا ما لا تتحمله البيوت الصغيرة والسكن الملاصق للجيران الذين في غالبيتهم ممن دار بهم الزمان وشنجتهم البطالة وضيق اليد والخوف من الغد،فليسوا مستعدين لأي إزعاج مضاف !!!.
فكر الكل في الأمر ثم أعادوا التفكير والتدبير ،فمنهم من يقول بضرورة رد الجرو إلى صاحبه لأنه غرر وغش في بيعه ،ومنهم من لا يزال يصدق بأنه ذكر وقد يتبين ويتغير الأمر بعد الكبر ،ومنهم من سلم للواقع وفضل خوض التجربة مع غاص بتحويل اسمه إلى غاصة،إذ لا يفصل بين الجنسين سوى التاء المربوطة ،فلنحولها إذن ولنضفها ولنتكيف معها ولننته من هذا الجدل !.
وعوْدا على بدء سيبدأ الخلاف حول اختيار الاسم من جديد ،فلم يرق للبعض اسم غاصة ولم ينته الاختيار إلى قرار إلا بعد تدخل « مولاة الدار » فقالت: هيا فلنسمها هايْدي ! وإذا أردنا تدليلها نناديها ب:هيدودي…
تردد الجميع وتفاعل الجميع وقبل وسلم الجميع.فعلا إنه اسم جميل وله وقع موسيقي مقبول وموزون.حتى إنه قد بنيت عليه أبيات وأناشيد مطلعها:
هيدودي هيدودي هيدويدي هيدودي
بل إن زرياب قد كان في بعض الأحيان يغني بهذه الكلمات ويصوغها لحنا بشتى الإيقاعات والأسجاع تفننا وتسليا.فكانت هايدي تتفاعل معه برقص وبتحريك ذيلها يمنة وشمالا وقفزا وجريا.
لم يكن أحد يتوقع بأن هذا الاسم سيصبح ظاهرة تعم كلاب الأحياء كلما رؤوا وحيثما وجدوا ،كما لم يكن يخطر ببال هايدي أنها ستصير مدللة لهذا الحد بعدما كانت على وشك أن تطرد من البيت والمكان، لا لشيء سوى أنها أنثى.ولكن لله في خلقه شؤون » وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ».

5
« هايْدي وَانْ »وتثبيت مكانتها وجاذبيتها قبل الوداع

نشأت هايدي في هذا الجو المرحب بها والحذر منها في آن واحد،فقد أصبحت مألوفة عند أهل البيت جميعا يفكرون في أكلها ونومها ونظافتها واللعب معها تسلية وترويحا.ومع ذلك فقد كانت شرسة وعنيفة وحارسة لمكانها ومكانتها،فلا تقبل أن يعتدي أحد عليها ولا أن يرغمها بشيء هي لا تريده حتى ولو كان زرياب،أما إذا رأت الغريب فذلك هو اليوم العصيب ،والويل ثم الويل لمن دخل الدار وترك وحده في بيت الانتظار ففاجأته هايدي من غير أن تعرفه !فلا ينقذه حينذاك سوى امتطاء الأرائك أو الاختفاء وراء الستائر والاستنجاد بأهل المكان صراخا وعويلا !.
هذا السلوك دفع بزرياب للبحث عن مروّض الكلاب عسى أن يخفف من شراسة هايدي فلم يجد ما كان يبحث عنه تحديدا، وذلك لأن غالبية المروضين في المنطقة ليسوا بذوي الكفاءة العالية ولا التجربة العلمية المخولة لهم لفهم نفسيتها.حتى إن بعضهم لما رآها واقترب منها حكم عليها بالإعدام قائلا: إن هذه الكلبة لن تصلح لشيء وإنها جد عصبية ويمكن أن تعضض صاحبها أو تفترس طفلا إن هي كبرت على هذا الحال !!!.
ربما قد كان المروض صادقا بعض الشيء، وربما كان يريد أن يبيع كلبا من كلابه بإظهار عيوب هايدي حتى يمكن التخلص منها وإقصاؤها،إذ التاجر لا يهمه العاطفة والألفة والتعلق وإنما البيع ثم البيع لا غير.
هذا التقرير زاد من قلق زرياب وخوفه من مستقبل هايدي واستعدادها للتمرد في أي وقت وحين،فهو يريد التسلية والترفيه لا إضافة غم على غم وقلق على قلق.
وازداد هذا الانشغال حينما عرض زرياب هايْدي على طبيب بيطري من أجل تلقيحها فرفضت وكشرت أنيابها ورفض في المقابل البيطري إتمام عمله،ثم ذهب إلى بيطري آخر فحصل نفس الشيء ،ولم يكد أو يرد أحد أن يجتهد فيمسكها بكمامة أوسيلة أو أخرى حتى يتم تلقيحها وإنقاذها مما ينتظرها من مخفي قدرها.
فقد كانت هايدي في البداية لا تمثل للأوامر التي تجعل منها ذليلة :اجلس ،قف،نم،لا تبرح مكانك ،ابتعد مكانك،وإنما هي حرة وتمتثل حيث يصفو مزاجها.والسبب في ذلك كما خمن زرياب هو أن تداول التعامل معها بين أفراد العائلة جعلها تفقد لغة التواصل فتداخلت الأوامر والنواهي في برنامج مخها ولم تعد قادرة على تحديد مسارها.
وبعد المراجعة ،وبالأخص حينما اكتشف بأنها ليست من سلالة البرجي الحقيقي وإنما هي بين بين، فقد بدأ الشعور بالزهد في بقائها في البيت ،وبالنهاية قرر زرياب على مضض أن يردها إلى البائع ليبيعها أو يسلمها لأناس قد يعتنون بها ويحسنون إليها ،بحيث قد كان هذا شرط الشروط لتسليمها.
ذهب زرياب متثاقلا ومترددا وكئيبا مع هايدي إلى سوق الكلاب وهي المسكينة المجرورة لا تعلم ما ينتظرها من مآل يخططه لها البشر .فما أن سلمها لبائع الكلاب حتى تبعته من غير تردد أو عناد أو عض ونباح،ثم رمى بها في القفص فلم تنبس ولو ببنت نبحة أو أنين.
سأل زرياب البائع :كيف أمكنك التحكم فيها بهذه السهولة ونحن لم نكد نمسكها أو نسكتها إلا حين ترضى ؟أجاب:- إن هذه موهبة لدي يخاف بها مني الكلاب ويمتثلوا.
كاد زرياب أن يصدق هذا الطرح ،ولكن بعد التمعن والتجربة سيدرك بأن المسالة تتعلق بوجود اندماج قد يحدث بين الإنسان والحيوان بكثرة المصاحبة لغاية أن يصبح الحيوان يشم رائحة جنسه في صاحبه،ومن ثم يكون الامتثال والتكيف والتعاطف.والعكس قد يحصل وهو أن الإنسان هو الذي يصبح منجذبا نحو الحيوان بفعل التأثير عن قرب ،بحيث كلما رأى كلبا أو خيلا أو معزا إلا وحن إليه واقترب منه من غير الشعور برعب أو خوف.فهناك رسائل لا شعورية ترسل بين الطرفين فيتم التقارب،فهل هناك من يعرف لغة المجانين ويتفاعل معهم إلا مجنون مثلهم أو من يرافقهم على طول المدة فيصير في حكمهم ولو كان طبيبا؟.فتعجب زرياب من هذا الاستنتاج وكان تعجبه أكثر وهو يتساءل:كيف يتم الاندماج مع الحيوان العجم ولا يحصل مع كثير من بني الإنسان العاقل ولو عاشرته عشرات السنين وأحسنت إليه أو أحسن إليك بكل ألوان الإحسان؟ !!!.
ودع زرياب هايْدي على مضض وتألم وهي تنظر إليه لا تكاد تصدق أو تفسر ما يحدث لها وقد أو دعت للمرة الثانية في قفص حالك مظلم.فما أن كاد يخطو خطوة نحو الوراء بتثاقل وتلكؤٍ حتى صاحت صيحة وصرخت صراخا تنفطر لها القلوب وترتعد لها النفوس:- أهنا يترك الصديق صديقه ،أم هنا يغدر الوفي بوفيه ،أهنا يغادر الصفي صفيه؟ هل هذه أخلاقكم ونواياكم يا بني البشر؟.
تردد زرياب في الجواب والتوقف مع تبادل معها النظرات، نظرات الوداع والولع،نظرات اللوم والعتاب ،نظرات اليأس والبأس.ثم انصرف مهموما من هول ما سمع ورأى من صوت هايْدي الذي اخترق قلبه وهز كيانه وعاد به إلى نقطة الكآبة المرة والملام المؤلم !!!.
فما أن طرق باب المنزل حتى شعر بضيق لم يعهده في حياته أبدا ،ونزل على صدره ثقل داكن، وخاصة لما صعد الدرج حيث كانت تقيم هايدي فرأى أدواتها ولعبها ومطرحها ،ثم بدأ ينتزع بعض الأسلاك والمسامير التي كانت تحيط بكوخها، فلم يستطع أن يكمل العمل حتى أجهش بالبكاء المر الحزين الذي ما بعده من حزن.ثم رمى بالملقاط والمسامير وتسمر في مكانه يعيد ذكريات هايدي وسروره وعائلته بقدومها ولعبها وكيف أنها كانت تحب أكل الموز والخيار والطماطم حتى لقبت ب »حاضْية ماطِيشة ».
نفس الشعور سينتاب كل العائلة حيث خيم الوجوم على كل الوجوه وارتسمت كآبة جماعية نزلت بكلكلها على كل الصدور.
عجبا عجبا ! يتساءل زرياب بمرارة :أهذا كله من أجل كلبة كانت بالأمس تحسب في قاموس المنبوذ والمطرود والنجس والتعس وما لا قيمة له.أليست هذه مبالغة في التقدير والعواطف في غير محلها، ولربما تكون تعبيرا مرضيا ورد فعل على ما يصدر عن المجتمع من قطيعة ووقيعة ونفور وغرور؟ربما قد يكون شيء من هذا ولكن ليس كله ،فلا بد من تفسير لهذا الحال الذي يحصل بين الحيوانات وأصحابها،ألم توصف تلك الكائنات بأنها حيوانات أليفة؟أليس هذا هو شعور الألفة بكل معانيه ووجدانه؟.
ربما قد يكون هذا الحال انعكاسا لما مر به زرياب من مواقف التخلي والانسحاب في عز الظهر من طرف الأصحاب والأحباب والأصدقاء حينما كان يشتد الوطيس ويتعرض لنكبات وكرب ،ولو بسيطة، قد يحتاج فيها إلى مساندة ما ولو معنوية وعلى سبيل الاستخبار.فقد تعرض لمثل هذه المواقف مرارا ولم يجد بجانبه سوى السراب وربما الشماتة والتشفي وتوقع أو تمني الأسوأ له.في حين قد كان هو في مثلها لا يفرط في صاحبه مهما كان الثمن، بل يغامر بحياته وراحته وعافيته من أجل إنقاذ صديق أو مناصرته أو مساندته والدفاع عن طائفة وجماعة قد كان ينتمي إليها، لكنه في المقابل حينما يقع في مصيدة أو مصيبة فقد لا يجد حتى من يسأل عنه أو يخفف من آلامه وضغطها فبالأحرى فكها ومتابعة من رصدها!هذا مع أن وفاءه لأصحابه وغيرته عليهم قد كان يصل في بعض الأحيان إلى مستوى وفاء الكلاب أو أكثر!
لم يرقأ لزرياب تلك الليلة جفن وهو يفكر في تلك النظرة اللوّامة والصوت المتفجر من هايدي وهي تصرخ :ماذا فعلت بي يازرياب وأين هو ضميرك وعطفك علي،أين غيرتك ووفاؤك المزعوم ودموعك التمساحية الممسوحة ؟ !!!.
وفي النهاية وبعد هذا الأرق والعتاب المضني قرر زرياب أن يسترد هايدي من عند البائع في حالة مالم تكن قد غادرت المكان.فما أن بان الصبح حتى أسرع إلى السوق وهو هلع مترقب هل يجدها أم لا ،وفي النهاية عثر عليها وهي في قفصها مسجونة مهانة.فما أن رأته حتى صاحت صيحة الفرح مشوبا باللوم والعتاب،ثم عاد بها إلى المنزل يبدو عليها السرور والبهجة والطرب وكأنها ولدت من جديد…
استقبلت هايدي في المنزل استقبال الأبطال وهي تجوب كل أركان الدار كأنها تعيد تثبيت مكانتها به.في حين تغير سلوكها بعد المحنة ورضخت إلى نوع من الامتثال كما نقصت بشكل ملحوظ شراستها وخاصة حينما بدأت تلتقي مع بعض بني جنسها من الكلاب،إذ الرفقة قد تغير الشخص وتنقل أخلاق هذا لذاك اقتداء تماما كما لدى الإنسان !!!.
ومع هذا فقد بقيت الرغبة لدى زرياب في أن ينهي قصته هاته مع الكلاب وذلك بالبحث عن شخص قريب أو غريب يمكنه تولي اقتناء هايدي والإحسان إليها ،حيث يمكن رؤيتها بين فينة وأخرى ويطمأن على مصيرها.وبينما الكل يفكر هذا التفكير حتى جاء الجواب من القدر في سرعة لم تكن في الحسبان أو التقدير.
فلقد أصيبت بمرض فيروسي يفتك بالكلاب فتكا ولا يمهلها أكثر من ثمانية وأربعين ساعة حتى يكون قد قضى عليها.أسرع زرياب بهايدي إلى الطبيب البيطري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فوصف لها دواء ولكنه لم يجد شيئا ،فقد كانت هايدي على موعد مع القدر،وهي تقول بلسان حالها :- إذا كانت رغبتكم هي أن أغادر فأنا سأغادر ،ومن مكاني بينكم، ولكن ليس بواسطتكم ولكن بقدري الذي قدره لي خالقي.فهو الذي بيده الرزق وهو الذي بيده الملك وهو الذي بيده الحياة والموت .
اجتمع الكل حول هايدي يعطفون عليها ويستعطفونها بأن لا تغادر.فحلقت فيهم بنظراتها الممزوجة بالألم وهي تقول :الآن جاء وقت الرحيل والفراق إلى الأبد.ثم شرعت في أنين الفراق والوداع المؤلم الممزوج بالمرارة والإحباط ،ومع ذلك فهو مملوء بالعبر ودروس موجهة إلى بني البشر.فكانت ليلة ليست كالليالي وقلقا ليس كالقلق وحزنا ليس كالحزن.
وعند آذان الفجر سكت الأنين وخلدت هايدي إلى الراحة، راحة الأبد حيث لا إزعاج ولا نكد.أيقظ زرياب أهله كلهم وصعدوا إلى السطح حيث وجدوا هايدي قد ذاقت ما ذاقت من عذوبة الموت وسافرت إلى غير رجعة.
فيا له من منظر لم يعهده رزياب !!! كلبة ميتة في منزله ومأتم ليس من جنس مآتم البشر ،وإنما هو بين إنسان وحيوان تربطهما علاقة ود واحترام وعطف وحنان لغاية النواح عند الفراق.
قامت العائلة وهي تذرف الدموع ذرفا وبشكل جماعي من غير استثناء بتجهيز جنازة هايدي وإعطائها حقها من التقدير والاحترام فلفت بلفافات من قماش وثوب ووضعت في كيس، كأنه كفن إنسان قد لا يختلف عنه في شيء.ثم حملها زرياب في صندوقسيارته برفقة ابنه ،الذي قد كان جلدا وصامتا،يساعده في هدوء،لكنه ما أن توسط المسير حتى لم يتمالك نفسه فأجهش بالبكاء المر ،ثم شرع زرياب في حفر حفرة عند أطراف مزرعة شاسعة فدفنا هايدي بها ،معززة مكرمة محفوفة برعاية وعناية لم تعهدها الكلاب أبدا ومودعا إياها إلى الأبد.
عاد زرياب هو وولده إلى المنزل متثاقلين حزينين كأشد ما يكون الحزن، فما أن دخلا المنزل حتى كان هناك شعور بفراغ كبير وأسى وملام نفسي دفين مفاده تساؤل: هل زرياب يتحمل مسؤولية موت هايدي بسبب إيداعها عند البائع وتركها في ذلك القفص النتن والمتسخ والمليء بالجراثيم ،حيث نالها ما نالها من عدوى فتاكة كانت هي القاضية؟،أم أن ذاك هو قدرها ومصيرها وأجلها المحتوم شأنها شأن البشر « لكل أجل كتاب »؟.وهل الحيوانات لها نفس المنظومة والمآل الوجودي الذي يختص به الإنسان أم أنها لها قانونها الخاص ومصيرها المتميز؟هل هايدي التي كانت بالأمس تلعب وتمرح وتأكل وتنبح قد ذهبت من غير رجعة أو حق في النشور والمحاسبة وأخذ حقها من المظلوم ؟وهل ستبقى وجوديا بصورة ما أم أنها فنيت واندثرت ولم يعد لها أثر؟.وهل النفس الحيوانية هي نفس شبيهة بالإنسان أم أنها حرارية وبخارية وما إلى ذلك مما ذهب إليه الفلاسفة وفطاحلة الفكر في العالم؟
كل هذه الأسئلة قد جالت بجهاز التفكير لدى زرياب، مرة قد يجد لها أجوبة ومرة يحتار وفي حين يستأنس بنصوص دينية وخاصة عند قول الله تعالى » إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا »،بحيث كما جاء في التفسير أن الحيوانات لما تقتص من بعضها البعض ستعود ترابا ،والتراب هو ذرات متفرقة من كتلة الأرض العامة .وهل العودة إلى التراب عدم أم هي إعادة تشكيل وجودي يختص الخالق سبحانه بإعادة ترميمه ويفعل في ملكه ما يشاء؟.ومن هنا فقد تدخل هايدي ومثيلاتها في سلك المنظومة الوجودية العامة،وتدخل في حكم الشيء الوجودي الذي من خصائصه التسبيح والتمجيد للخالق  » تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ».
أسئلة عميقة ودقيقة وحائرة تلك التي اخترقت جهاز الإرسال والبرمجة الفكرية لدى زرياب حتى إنه قد وصل به الحال إلى أن ضاق صدره ضيقا ولم يجد النوم إلى جفنيه طريقا.وعند وقت الفجر من اليوم التالي استيقظ للذهاب كالعادة إلى المسجد لأداء صلاة الصبح فإذا به يسمع من بين مفاتيح منزله التي يحملها معه وعند كل خطوة دقة ناقوس خفيفة وسريعة تتخلل تصادمها ،فلما حقق السمع ودققه تذكر ناقوسا جد صغير كان معلقا بربطة عنق لهايدي لما كانت صغيرة وهي تحرك رأسها فيتحرك بموسيقاه معها فتزداد نشاطا ودورانا للتخلص منه، مما قد كان مسليا لها ولكل أهل الدار .لم يتسطع زرياب أن يتمالك نفسه وانتابه ضيق شديد وهو في الطريق للصلاة فألقى بذلك النويقص في حفرة مهجورة وعميقة حتى لا يعود هذا الصوت والنغم الحزين يذكره بهايدي ومأساتها وشجونها وأفراحها وجاذبيتها.

6
« هايْدي تُو »
وفصول مطولة للرحلة الصيفية مع الكلاب

لم تكد « هايدي وان » تودع المكان والزمان وتخلي السطح وتمحي القرح بموتها ونسيان ذكراها حتى استعمرت مكانها كلبة من جنسها ولكنها ليست من فصيلتها وإنما هي من سلالة الكلب الثلجي (الهاسكي)الأبيض الذي سبق وأن زار منزل زرياب يوما ثم ذهب . إنها « مايا » الجميلة والرشيقة،زرقاء العينين بالنهار حمراؤها بالليل، تلبس قناعا يملأ وجهها على شكل هلالين متوازيين يؤلفان بين رمز الليل والنهار في سواد وبياض ،مع أذنين واقفتين كالرادار ترصد سرعة الأخبار،مشيتها على ذروة الأطراف وسرعتها كالسهم المباشر الذي لا يعرف التفاف ،تفرحك وتسرك حينما تقبل عليك مبصبصة لاحسة ومتمططة، وتخيفك عندما تكشر عن أنيابها غاضبة ومحتجة ،لكنها قد لا تؤذي بطبعها الإنسان ،والويل ثم الويل لمن جاراها أو تحداها من بني جنسها الحيوان .وهي الآتية من بلاد بعيد وغريب عن البلاد التي هي موطن هايدي الأصلي،إنه بلاد البرد والثلوج وموطن الذئاب والثعالب والدببة وأناس قريبة شكلها من شكلها وسلوكها من سلوكها تتعايش معها وتتبادل المنافع والمصالح بحسب الضرورة ومقتضى الحال.
ملأت مايا الفراغ من الخريف حتى الصيف حيث بدأ تبادل الزيارات العائلية وقضاء العطلة هنا أو هناك.وبينما الأطفال يلعبون بقارعة الطريق وعند نهاية الدرب ومنعطفه ستطل عليهم كلبة مهزومة محطمة الخطوات شريدة ومعطوبة الرجل ومعوجة الظهر،ربما قد دهستها سيارة أو انهالت عليها هراوة .وكأنها تردد أغنية المطرب عبد الحليم حافظ: »وسرت وحدي شريدا محطم الخطوات تهدني أنفاسي تخيفني لفتاتي كهارب ليس يدري أين أو أين يمشي… »
توقف الأطفال في حيرة وتردد ثم بحكم فطرتهم وطيبوبة نفوسهم وحنانهم عطفوا على الوافدة من غير موعد بشيء من الطعام يسد رمقها،لأنها كانت جائعة وعطشى ولا ماء ولا كلأ يقدم إليها.فما كانت تلك المبادرة إلا أن أطمعتها بالتوقف عند هذه المحطة حيث لا محطة لها غيرها.فلو أنها وجدت من يطعمها ويسقيها في مكان آخر لبقيت فيه ،والنفوس ،أي نفس،مجبولة إلى من يحسن إليها.حتى ولو كانت نفس حيوان وحشرات،تماما كما يذكر ابن خلدون بأن الدار التي تكون دار خير ورزق يقصدها الفئران والهررة والطيور والعصافير والصراصير.أما التي هي دار بخل وقفر فلا يوجد بها سوى المزابل والمنابل والمعاول.
وفي إطلالة من زرياب سيلحظ هذه الكلبة الواقفة موقف المستعطف، المكسرة النفس والرجل الخلفية مع تقوس الظهر، تنظر إليه وكأنها تقول له على شاكلة « جان فلجان » في البؤساء:هل من ملجأ لديكم في هذا الدرب بعدما ضاقت بي السبل ونفرت مني النفوس واعتدي على جسمي ولم أنل تعويضا أو مواساة تذكر؟
نظر زرياب من حوله ثم أعاد النظر فتذكر سوء ظنون الجيران وترصدهم وتبريرهم لكل ما فيه شنآن،فهم لم يرحموا الإنسان فكيف بالحيوان ،وخاصة إذا كان كلبا كما هو الحال لدى سكان مدينة الصبّانة سبق وسردنا.
يكفي زرياب ما قد بدأ يشير به إليه ويتمتموا حوله بعض الجيران من مناوشة وافتعال خصومة بزعم أن الكلب ليس له مكان في الحي وأنه ربما قد يزعج السكان ويؤرقهم…في حين لم يكد أحد منهم أن ينبس ببنت شفة ،أو يتفق على تغيير منكر بتبليغ السلطات ،حينما يسهر عند عتبات بيوتهم وقارعة الطريق وسط الدرب بعض المتسكعين والمخمرين ومدمني المخدرات ،بل حتى المصاحبين للفتيات في قلة حياء واستهتار، فيصيحون ويسبون بأقذع الشتائم والسباب،يتكرر الأمر تقريبا كل ليلة وخاصة عند عطلة نهاية الأسبوع.
لكنهم لم يحل لهم أن يرفعوا أصواتهم وينتقدوا إلا جارهم بكلبه الهادئ والجميل المسلي،حتى إنه قد لا يسمع له نباح إلا في النادر القليل.
فكر زرياب ثم فكر وتوقع فكان ما توقع ،وهو أن حضور هذه الكلبة في الدرب سيكون محسوبا عليه وسيقول الجيران بأنه هو الذي أتى بها وهو الذي حرض على بقائها… فما كان لتفادي هذا المنغص وللحفاظ على حسن الجوار إلا أن سارع بنفسه لطردها من الدرب علها أن لا تعود.
التفتت نحوه في شكل ملام وكأنها تريد أن تقول شيئا ثم انصرفت وغابت إلى حين،وفي يوم الموالي عادت فكرر معها نفس السلوك وردت عليه بنفس الإشارة.ثم لم يكتف زرياب بهذا بل ذهب بمعية مايا خارج الدرب وهو ينوي أن يضللها الطريق فطاف بعيدا وهي تتبعه بل تتبع الكلبة مايا للاستئناس بها وفي قرارة نفسها تشعر وكأنها دون مستوى هذا القرب، وكأنها ضيف ثقيل مرفوض لا يتسحق أن يهتم به .لكن مهما حاول زرياب من تضليل إلا وقالت له :إنني معكم ولن أفارقكم وسأموت عندكم كما ماتت « هايدي وان ».وكأنها تردد اللحن الحزين للموسيقار فريد الأطرش: »لِمين أشكي ويسمعني لمين أبكي ويرحمني… ،ليه الظلم ليه ،ليه الظلم ليه.العمر قضيت حزين مهموم أخلص من هم ألاقي هموم « .
فقد كان هناك تشابه كبير بين شخصية هايدي وهذه الكلبة الوافدة حتى في شكلها وحجمها وعنفها وعزة نفسها،وهذا ما دفع بالأطفال لتسميتها بهايدي الثانية أو » هايدي تو ».
استسلم زرياب للأمر الواقع ،أمر فرضته كلبة ضعيفة بكماء عرجاء لا حيلة لها سوى نظراتها واستعطافها في مواجهة واقع قوم لا يعرفون معنى الرحمة والشفقة والعطف إلا مجاملة وحيث المصالح والفرص.ففضل زرياب أن يغلب واقع الكلبة على واقع البشر ثم بدأ بدوره يطعمها ويسقيها ويهتم بها أكثر مما كان يهتم بهايدي الأولى ومايا ،فخصص لها إناء فيه ماء يملؤه لها كل يوم كما يتذكرها عند كل وجبة طعام فيطعمها ويسقيها وهو مرتاح البال والضمير ويتأمل في سلوكها وما امتحنه الله به من خلالها.
وهكذا أخذت « هايدي تو » مكانها في الدرب بالرغم من كراهية بعض الجيران لوجودها هناك، قد تتفاوت هذه الكراهية فتخف أو تشتد بحسب المزاج.
فعادت أنشودة هايدي إلى الحياة على نفس الإيقاع الذي كان مع الأولى:
هيدودي هيدودي هيدودي هيدودي
لم يكن لهايدي تو مأوى تأوي إليه سوى ظلال بعض العتبات حينما يشتد الهجير أو أنها كالعادة قد تلجأ إلى الاختباء تحت السيارات ،ربما قد كان هذا هو السبب في إعطابها،إذ كم من متسرع قد يحرك سيارته وينطلق من غير انتظار أو تفحص ما تحت سيارته هل هر أم كلب ولم لا إنسان فيدهسه ويدوسه من حيث لا يدري،فقد كثر المتشردون ولا من يؤويهم !!!
وفي كثير من الأحيان قد يفتح زرياب أو أحد أهله لها الباب فتلزم مكانا وراءه لا تتعداه إلى حين يعتدل الحر فتخرج للبحث عن مصالحها.
أخذت هايدي تو مكانها في الدرب ووطنت نفسها حيث يمكن لها أن توطنها،ثم شرعت في تأدية وظيفتها المنوطة بها ،وظيفة من أشرف الوظائف وأنظفها وأعزها ،إنها حماية الدرب من الدخيل والقيام بدور الشرطي من غير سلاح ولا هراوة ولا صراخ ولا عويل،وإنما هي تكشيرة واحدة أو نبحة حتي يكون الأمر قد قضي وولى الغريب هاربا أو رجع القهرى واختار طريقا آخر غير المسلك المقصود !.بل حتى تلك القطط التي كانت تزعج السكان بموائها المرعب وخاصة عند التخاصم أو التناسل لم يعد لها وجود ،ومن كان لا يستطيع ترك سيارته بالليل خوفا من اللصوص والمتطفلين فقد استأمنها عند هايدي تو وهو لا يريد أن يعترف بدورها.إذ غالبية سكان الدرب رأوا فيها كائنا غير مرغوب فيه وأنه توريط للدرب بكلبة مزعجة ومقرفة ومعرضة الجيران والمارة للأمراض وما إلى ذلك من مزاعم لتبرير قرار الطرد.لكنهم كانوا دائما يلمحون إلى زرياب بأنك أنت السبب في هذا المطب.وفي فترة لم يتمالك نفسه حتى استشاط غضبا وحمل المسؤلية عكسا للجيران لأنهم سكتوا منذ اليوم الأول ولم يتخذ أحدهم مبادرة ولا قرار بطرد هايدي من الدرب بينما كان هو أول من حاول ولم يفلح.
بل في فترة ما قرر أن لا يناولها شيئا من الطعام كوسيلة ضغط وحرب نفسية و اقتصادية لكي تبتعد عن الدرب بهذا السبب، فما كان من هايدي وإستراتيجيتها المتحدية إلا أن ذهبت إلى بعض حاويات القمامة والتقطت عظمة معز يابسة عليها بعض بقايا جلد وألياف وغضاريف ثم شرعت تقضمها قضما بالقرب من زرياب:-قْرَطْ قْرطْ قْرطْ.وفي نفس الوقت تنظر إليه فتكرر حركتها ثم تعيد الالتفاتة في شموخ وثقة بالنفس وكأنها تقول له بلسان حالها وعقيدتها في التوكل:- إن كنت تريد أن تحرمني من رزقي وتمنعني من حقي في العيش فهناك من يرزقني ويسقيني دونك.هناك من لا ينساني ولا يحرمني ،هناك من ضمن لي رزقي ولم يساومني على مبادئي وطبيعتي التي خلقني عليها .وكأنها تذكره بقول الله تعالى : » وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ »، » وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ » » وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ».
وصلت الرسالة كالبرق إلى وعي زرياب فندم على ما قرره ونواه ثم حاول استدراك الأمر وجبر الخاطر بتقديم ما ينبغي من الأكل لهايدي ،مع الاعتذار والشعور بالنقص وقلة الوعي بقضايا الحياة ومستلزمات الوجود.
فلقد كان هذا درسا موجها بالمباشر إليه في باب التوكل ،وتذكيره باستحضار وعد الله تعالى للمتوكلين والضامن لأرزاقهم مهما تسلط عليهم اللصوص وضيع الظالمون لهم من حقوق ،فما هو من نصيبك آت آت لا محالة ولو بعد حين، بل الخزي والندم حيث لا ينفع ندم سيعود على المحتكرين والكانزين والمبذرين والمضيعين للمال العام والخاص بغير حق ولا قانون !.
وبعد مرور الزمن بدأت تظهر ثمرات وجود هايدي بوضوح في الدرب مما شجع زرياب على زيادة تكريس حضورها وبقائها هناك.
لم يكن في الدرب بيت يقدم لها ولو كسرة خبز أو حتى شربة ماء،لكن وبعد تحديها الوجودي والوظيفي بدأت بعض الجارات تخصص لها بين الفينة والأخرى بقايا طعام وما شابهه.لكن هايدي لم تكن تقصد غير دار زرياب، فيها الطعام وفيها الشراب ،وفيها الأصدقاء وفيها الأحباب،وفيها الملاذ وفيها المآب.
ولم يقتصر هذا التحول في العلاقات على بني الإنسان بل تعداه أيضا إلى الحيوان،فبعدما كانت القطط لا تكاد تصل إلى عتبة المنزل حتى تهش فيها هايدي بكل ما أوتيت من نبحة أصبحت تعقد معها اتفاقا مؤقتا وتحالفا يسمح لها بمشاركتها في شيء من الطعام والارتواء من الوعاء.لكن ، لكي تحافظ على سرية هذه المعاهدة فقد كانت هايدي في بعض الأحيان تراوغ زرياب وتظهر بأسها وشدتها على القطط وكأنها عدوها اللدود ،وذلك حينما كان يعود من السوق بالسيارة مملوءة بالخضر والسمك،ومؤونة خاصة بها من رؤوس دجاج وأرجلها وأقنصتها…فيصادف هناك هرة واقفة بالباب مطمئنة وبجانبها هايدي يتحدثان ويتشاوران ويستأنسان ،فما أن تراه حتى تنتفض هذه الأخيرة من غير سابق إنذار وتصدر نباحا تحذيريا وهجوميا يقفز معه الهر قفزا ويطير هاربا وكأنه لم يكن منذ اللحظة ذلك الصديق وخير أنيس .فيضحك زرياب ضحكا عميقا ومتأملا في هذا العالم الحيواني الذي لا يكاد يختلف عن الإنساني في شيء سوى الهندام !!!.
مر الصيف وجاء الخريف وبدأ الحنين إلى الدفء والتساكن، ولم لا التزاوج والتوالد ؟.ولم يكن أحد يخطر بباله أن هايدي تو ستسعى لكي تكون أما يوما ما.وكيف لها ذلك وهي عرجاء مكسرة الظهر ومدمرة الحركة لا تكاد تحمل جسمها فكيف بجرائها؟
ولكن الغريزة هي الغريزة وسنة الكون هي سنة الكون ولله في خلقه شؤون.فالقياس العقلي للحكم على طبيعة الكائنات ووظيفتها وعوالمها عاجز عن العثور على الحد الأوسط في كثير من الأحيان.
وفعلا كثر الخطاب وتكاثر العزاب يطلبون يد وود هايدي ،حتى إنهم كانوا يزورونها في مكانها وعند الدرب الذي تقطنه من غير سقف أو لحاف.وكان زرياب لا يكاد يرى تلك الكلاب تمر به حتى يهرع لمطاردتها وصرفها إلى مكان آخر دفعا للحرج وحفاظا على مبادئ اللياقة.فالستر جميل ولو عند الكلاب ،وهذا هو ما يجعل لقاءاتها تكون في غالب الأحيان ليلا أو في مكان بعيد وخال.لكن هايدي بحكم إعاقتها لم تستطع الابتعاد فسبب لها هذا العجز ما سبب من نكد !.
وبعد فترة من فترات تزاوج الكلاب بدأت تظهر على هايدي علامات الحمل وأنها مقبلة على عهد جديد وتحقيق أمنية لم يحققها كثير من بني أو بنات البشر.وجاءها المخاض فكانت تحاول أن تلد ببيت زرياب ،لكن المكان لا يحتمل ،ثم ألجأها الوضع إلى مكان خال وراء الدار فوضعت جراءها بين الحيطان والأعشاب ،حتى استدركها زرياب وبعض الجيران بما يلزم الأم النفساء من لوازم العناية والأغطية والأفرشة ومعها الطعام والشراب ولم لا حتى الدواء !.
فgقد ولدت ما يقرب عن خمسة جراء ،استمتعت بها لفترة قصيرة ،فكان يزورها بين فينة وأخرى شاب ،فقير ومضطرب نفسيا، من نفس الحي والزقاق قد كان يعتبر في حكم المتمردين والمجانين والمعتدين، ولم يستدرك أمره وعلاجه إلا بعد فوات الأوان ،فإذا به سيكون من أرحم أهل الدرب وأكثرهم حنانا وصيانة لهايدي، بحمايتها وإطعامها وسقائها ،حتى لقد نافس زرياب في الأمر ،فكانت هايدي سببا في التصالح بينهما لشنآن وخصومة كانت قد حصلت من قبل ولم تنته فصولها إلا عند نفاس وسبوع جراء هايدي !.
لكن الفرحة لم تكتمل بهذه البساطة ،فما أن هي أيام قلائل حتى ماتت جراؤها كلها أو سلب بعضها منها بفعل فاعل ، وحتى وقفت هايدي بوسط الدرب تشتكي بصوت وعويل وأنين يختلط فيه صوت الحيوان مع تعبير الإنسان وهي تصدح عاليا:-ووووه،ووووه.
يسالها زرياب :- ما بك يا هايدي ماذا دهاك؟ فترد عليه وهي ترفع رأسها إلى السماء شاكية باكية ومتضرعة إلى خالقها:- وووووه،ووووه.
أدرك زرياب في الحين أنها تشتكي من ضياع فلذات كبدها وتسائله :أين ذهبت جرائي ردوا علي أولادي ردوها علي بحق الله…ولم تكتف بهذا الصراخ بل حاولت دخول دار زرياب تجوبه من مكان إلى مكان علها تعثر على أولادها يقينا منها بأنه لا يمكن أن يضرها أو يؤذيها و يسيء إليها على هذا المستوى.
في تلك اللحظة قد كان بجانب زرياب صديق وجار له ،مثقف ومهذب ،يحادثه في أمر ما ،فلما سمع الصراخ قال له:ما بال هذه الكلبة تصرخ هكذا؟.أجابه زرياب والدهشة والدموع تغالبه:- إنها تشكو فقد جرائها وتقول لي ابحث معي عنها.
تعجب الصديق ودهش وأقر بأنه في حياته لم يسمع مثل هذا الصوت وهذا الإيحاء من كلبة يظن أنها محتقرة وشرسة ،ومع ذلك فهي ذات كبد رطب تختلج قلبها الرحمة والشفقة ،بل تعطي لبني الإنسان دروسا ما بعدها من دروس في وفاء الأمومة وعدم التخلي عن فلذة كبدها مهما كلفها الثمن !.
أصرت هايدي على البقاء والتمركز فكانت حياتها ذات تميز،يغلب عليها الإباء والوفاء في آن واحد،وتتعاور حياتها الأفراح والأحزان ولكنها ليست كأحزان الإنسان،بل هي سرعان ما تنسى وتجدد حياتها ،فمرة تصح وتتعافى وتتقوى فتقوم على قوائمها الأربعة حتى يظن أنها قد تلاءمت وجبرت تلك التي كانت مهشمة ،كما قد يستقيم ظهرها ويتراص عمودها الفقري فتبدأ في العدو تجاري قرينتها مايا حينما تخرج للتنفس والاستجمام من سجنها المنزلي.بل كانت هايدي أسعد بكثير من الكلاب المحصورة بالمنازل وذلك لحريتها وتقرير مصيرها بيدها ،بينما الكلاب المقتناة هي أقرب إلى السجن منها إلى الإيواء والعناية.

7
هايْدي تو
بين مقتضيات حب البقاء والتسليم لمجريات القدر

في ظل هذه التقلبات الصحية والمزاجية المصاحبة لها كانت هايدي تعرف في بعض الأحيان ضعفا بدنيا لغاية أن يقال بأنها ربما ستكون هذه القاضية بالنسبة إليها ،وخاصة في فصل الخريف والشتاء حيث البرد القارص والأمطار وهبوب الرياح ،حتى قد كانت في بعض الأوقات تلجأ بإلحاح إلى منزل زرياب فتقف عن الباب تستعطف وتتوسل من أجل الإيواء ولو فترة وجيزة ريثما تمر العاصفة أو يقف هطول المطر.وفعلا كان يفتح لها الباب فتلزم مكانا وراءه لا تتعداه بحسب الاتفاق المبرم بينها وبينه.
وكم مرة فكر وفكر معه أهله في علاج هايدي من عاهتها تلك، وجبر كسرها حتى قد شاور الطبيب البيطري في الأمر وبعد تشخيص الحالة بدا أنها غير قابلة للعلاج لأن الكسر أو خلع العظام قد طالت مدته ودخل في حكم المزمن.
ولكن ما أن يأتي فصل الربيع ويتلوه الصيف إلا وتبدأ هايدي في تجدد وتغير ملحوظ حتى مرت عليها وهي بهذا الحال سنين ربما تجاوز عمرها كثيرا من الكلاب التي كانت سالمة ومعافاة.
وعند تقدم سنها بدأت تعرف نوعا من الفتور في الحركة وقلة النباح أو مطاردة القطط ،بل قد عقدت معها حلفا دائما حتى إنها كانت تقاسمها الطعام والشراب في مكانها المخصص لها .ومع هذا فستعيد الكرة في التوالد والتزاوج وستحمل ثم تلد عند عتبة باب دار لم تكن مسكونة في تلك الفترة.ولكن هذه المرة لم تتمكن من ولادة سوى جروين لا غير، أما أحدهما فقد مات بمجرد خروجه للدنيا ،وأما الآخر فبقي حيا إلى أمد محدود.
وللحفاظ على بقائه قصدت هايدي باب زرياب وطرقته بنباح وأنين وتوسل.فما كان إلا أن أذن لها بالدخول والإقامة تحت سلم المنزل ريثما تتم رضاعة جروها.
لكن الجرو لم يهدأ له صراخ طول الليل وحتى الصباح وامتد به إلى الليل الموالي ثم سكت أنينه ولم يعد له حراك.
لم تكد هايدي تصدق بأن ولدها الوحيد وأملها في هذه الحياة قد لفظ أنفاسه.بل أصرت على أن تضعه تحت بطنها وتحتضنه إلى ما لا نهاية بإصرارا يقطع الأنفاس ويهد القلوب ويلهب المشاعر والوجدان.
أطل زرياب عليها وهي في كوخها متهالكة وكئيبة وحائرة وضعيفة القوى لغاية أنها لم تكد ترضع جروها ،والذي ربما يكون قد مات لغياب لبن أمه عن جوفه وعدم القدرة على إيصاله إلى أحشائه.فما كان منه إلا أن تحدث مع هايدي بخطاب إنساني مباشر قائلا:- يا هيدي إن ولدك قد مات وما عليك سوى الصبر والسلوان،فاتبعني أريك حيث سأدفنه لكي تتأكدي من أنه في أمان.
تبعت هايدي زرياب خطوة خطوة وهو يحمل الجرو الميت إلى أرض خلاء ثم شرع يحفر له حفرة يواريه فيهل بالتراب.ثم عاد وعادت بصحبته تريد أن تقول له شيئا و يريد هو أن يقول لها شيئا.لكن ما أن دخل الدار وأقفل الباب حتى هرعت هايدي إلى المكان الذي دفن فيه جروها ثم نبشته وعادت به تحمله في فمها وتصيح طالبة اللجوء بالمنزل :-ووووه،ووووه !!!.
لكن زرياب حاول إقناعها بأن جروها ميت ولا يمكن أن يبقى هنا وإلا فيسجلب عليه الذباب الأزرق وربما الجراثيم والعلل.فمنعت من الدخول ثم حاولت ثم منعت ،وفي النهاية تأكدت بأن جروها قد مات فعلا ثم لفظته وطرحته أرضا ودخلت المنزل من غير أن تحمله…
أخذ زرياب الجرو ثم أعاده إلى حيث دفنه في المرة الأولى ،ولما انقلب إلى المنزل وجد هايدي ما تزال مصرة تبحث عن جروها فتصعد الدرج ثم تنزل وتطوف بالبيت وتتفقد أركانه وزواياه وذلك في منظر مؤلم جدا ومعبر ليس بعده أشجن من تعبير.
مكثت هايدي بعد هذه الصدمة مدة وهي تطوف ثم تعود إلى بيت زرياب للملمة جراحها والتخفيف من حسرتها حيث ازدادت العناية بها وكأنها إنسان مصاب وقريب عزيز يطلب المواساة والمشاركة في الحب والآلام.وبعد مرور فترة قصيرة بدأ يطرأ عليها الهزال والضعف المتوالي مما ترتب عنه تقرحات جلدية في أماكن معينة من جسدها بسبب الاتكاء المفرط عليها ومن خلال الإعاقة التي كانت تعاني منها في رجلها وظهرها.فكان زرياب وأهله يهتمون بها ويحاولون علاجها مرة بالدهان الجلدي ومرة بالمطهرات والمعقمات ومرة بالعلاج الطبيعي والطب البديل باستعمال بعض الأعشاب الملبخة. فكان ذلك يخفف عنها قليلا ويضعف توسع دائرة التقرحات فتضمر مرة ثم تطفو من جديد.
ونظرا لتوالي ذبول حالها ومنظرها فقد بدأت بعض الألسن من الجيران تريد أن تقصيها من الدرب ،أو تطلب رجال البلدية للتخلص منها،بزعم أنها قد تسبب لهم أمراضا أو تنقل إلى أطفالهم حشرات كالقراد والبرغوث وما إلى ذلك،وكأن الدرب مركز صحي أو مرآة النظافة لا يوجد من يلوثه غير هايدي ،فقد يمر كلاب غيرها ويمر الحمير والمتسكعون من البشر . فكلما رأوا دما أو حشرة عابرة إلا وأسقطوها على هايدي واتهموها بها، تماما كما فعل الذئب مع الحمل لما نوى التخلص منه والتهامه اتهمه بأنه يعكر عليه ماء الشرب ويهدد مورده.بينما الحمل كان يقف في أسفل الجدول والذئب من فوق فكيف يصعد الماء المعكر من تحت نحو الفوق؟ !!!.هذا هو حال كثير من الكائنات التي تسعى إلى إسقاط فشلها وقلة صبرها على غيرها باتهامها بما ليس فيها كمقدمة لإقصائها.
لم تكد إحدى بنات زرياب أن تسمع بهذا النقيق وتصادم العقيق حتى أسرعت للاتصال ببعض الجمعيات الخيرية المخصصة للرفق بالحيوانات وذلك للحيلولة دون أن يتخذ أحد الجيران إجراء يسيء إلى هايدي ويرمي بها إلى المصقلة بغير رحمة أو مبرر معقول،فتم الوصف وتم الجواب وما كاد الغد يأتي حتى جاءت بعض النسوة والفتيات وهن يردن معرفة حال هايدي ومتطلباتها .وبسرعة كالبرق هيء لها الصابون والمعقمات ومقلمات الأظافر والأمشطة،وصعد بها إلى سطح المنزل وبدأ التنظيف والغسل بالماء الدافئ الصيفي المنعش.فكانت مرة تئن وأخرى تنبح نبحا خفيفا محذرا ،ولكنها في النهاية استسلمت وأيقنت أن القوم يريدون بها خيرا،حتى خرجت من المغسل كأنها العروس في ليلة عرسها، لونها وشكلها غير الذي كان من قبل ،ونشاطها أفضل مما سبق. إذ كانت هذا أول استحمام تستحمه هايدي في حياتها وكأنها تجمع بين استحمام الحياة واستحمام الوداع !!!.
ثم سعى أصحاب الجمعية إلى تسجيلها في كناش التعريف الخاص بالكلاب مع تاريخ حقنها بحقنة المقاومة للأمراض والحشرات ،كما دقوا على أبواب الجيران لإعلامهم بأن هايدي قد أصبحت لها صفة المواطنة رسميا وأنها محسوبة على الجمعية وكل مساس بها هو مساس بقانون الجمعية وحقوق الحيوانات !.
شعرت هايدي بعزة وكرامة وأنفة لم تعهدها من قبل،وما أسعد الكائن الحي حينما يعترف به وبحقوقه ويرى أن له مكانا محترما لوجوده؟
وحينما اشتد حر الصيف ولم تعد تجد ذلك الركن أو العتبة التي كانت تستظل بها قبالة بيت زرياب فقد كانت تلجأ إلى منزله فتمكث به ما شاء الله أن تمكث ثم تستأذن للخروج لحاجاتها وأغراضها الخاصة ثم تعود.ففكر عندها بأن ينشئ لها كوخا أو يؤثث صندوقا يكون مقر إقامتها من غير إزعاج عند الباب وتحت النافذة ،نافذة نومه،قد تظللها شجرة خضراء فصلية كانت منصوبة هناك.
فكان يخرج لها يوميا أكلها ويحرص على سقائها ودوائها.كما أن الأطفال كانوا كلما مروا بها إلا ونادوا : هايدي هايدي. فتنبحهم وتكشر في وجوههم ،وربما تحركت كأنها تريد أن تطاردهم، فيفرون وهم مبتهجون مسرورون لم يجدوا في أي درب من الدروب ما كانوا يجدونه من ترفيه ولعب معها ،ويتكرر الحال هكذا في كل يوم تقريبا ،وعند كل خروج من المدرسة المحاذية للزقاق.
وما أن أدبر الصيف بلهيبه وأفراحه وأنسه حتى أقبل الخريف بتقلباته وعبوسه وتساقط أوراقه ،فكانت هايدي على موعد من سقوط ورقتها ، تذكرة السفر ومغادرة المكان والزمان والاختفاء عن المسرح .
فلقد عرفت صحتها تدهورا لم ينفع معه طبيب ولم تعهده من قبل، بعدما عمرت ما عمرت وسعدت بما سعدت وشقيت فيما شقيت ،وتزوجت وولدت،هكذا شأن الكائن الحي إنسانا كان أم حيوانا ،فلا بد له من نهاية ليس هو الذي يختارها أو يحددها ولكن امتلاك ناصيتها يكون بيد من يملك مفاتيح البداية،وهل فينا أحد يملك هذه المفاتيح؟.فالذي يفتح الباب للدخول هو الذي يسدها بنفس المفاتيح للخروج !!!.هذه عقيدة وحكمة وحقيقة ينبغي وضعها في الحسبان قبل التخطيط للمصير والتطاول على ما يخفى عن البشر من تقدير.
فهايدي قد بدأت ترسل رسائل مبطنة بوداع مر ونهاية الرحلة الصيفية التي لا تحتمل الدخول والتوغل في الخريف.حتى إنها في بعض الأحيان بدأت تترك مكانها المغطى تكريما لجرو صغير تعثر به حظه ولجأ إليها ، فتذهب نحو الخارج تجر جسمها النحيل جرا فترمي بنفسها في التراب الخالص ثم تبيت فوقه رغم خشونته وصلابته ،وكأنها تقول له ها أنا عائدة إليك يا أبي الترابي ويا أصلي، ومندمجة بك اندماجا أبديا لا رجعة فيه !.
وفي ذات ليلة ماطرة وخريفية بامتياز ،كان قد بلل الماء كوخها وأغرقه وأتلف أركانه،ستعود هايدي تو إلى منزل زرياب وكأنها تريد الإقامة بالداخل.وكم فرح برجوعها أهل الدار واهتموا بها أيما اهتمام تماما كما كان الحال مع هايدي وان السابقة،فقدم لها الطعام فلم تكثرث به ولم تستمرئ منه بلقمة ،وإنما جابت بعض نواحي المنزل ثم قفلت مودعة لأهله في تعثر ومشية متمايلة تكاد تطرحها أرضا.أسرع زرياب وراءها يناشدها أن تأكل شيئا من حرشة وفطير أو ما كان حاضرا ،فشمته شما ثم جلست القرفصاء في شكل غريب تنظر إليه نظرة معبرة وطويلة ومودعة الوداع الأخير:- وداعا يازرياب وداعا يا أهل بيته الطيبين الرحماء، وداعا يا موطني وملجئي،وداعا يا شقائي وبقائي ،وداعا يا قطط يا أصدقائي ،وداعا يا حياتي وحركتي.
وعند منعطف الدرب توارت هايدي عن الأنظار بهدوء وسكينة وهي تلتفت وراءها التفاتة الوداع على عكس الالتفاتة التي التفتتها لما طاردها زرياب أول مرة وحاول إبعادها من الدرب.بل هي الآن تبادر بهذه المغادرة وبرضا وانتهاء مهمة.
ل م يكن يخطر ببال زرياب وحتى أهله أن هايدي ستختفي بهذا الشكل وهذه السرعة وفي هذه الظروف الخريفية الصعبة.ولكنه الخريف فعلا ،فيه تتساقط الأوراق من غير موعد ولا عد ،قد كانت من بينها ورقة هايدي.فما هما إلا يومان أو ثلاثة حتى سمعت طلقات نارية ومفرقعات قريبة من الدرب لم يجد لها زرياب تفسيرا وإنما إحدى بناته فسرتها بأنها طلقات رصاص ،ربما يكون رجال البلدية هم وراءها في تصيد للكلاب الضالة والتي لم تكن مقصودة ابتداء وعلى موعد بها سوى هايدي.فقد يكون أحد الجيران من بلغ بأمرها ولم يراع مدة إقامتها والاستفادة منها حراسة وتنشيطا وحركية.بل بمجرد ما عجزت وتورمت سيتخذ القرار من وراء الستار للتخلص منها ،وهذا هو شأن كثير من البشر ممن لا يعترف إلا بالعائد المصلحي المادي النفعي ولا ينظر بمنظار آخر فيه صبر وتضحية ووفاء واعتبار عشرة ومرافقة ورحمة.
هذه وجهة نظر من جهة ،ومن ناحية أخرى فقد كان القرار، إن صح تخمينه،لصالح هايدي التي كانت تطلب التخلص من حالها ومتاعبها، فجاءها الحل والاستجابة مباشرة قبل أن تؤول إلى العجز الكلي الذي قد تتعذب عنده ببطء وتموت رويدا رويدا في حسرات وزفرات.فكان هذا قدرها.كما يقول ابن نباتة السعدي الشاعر:
أرى المرء فيما يبتغيه كأنما مــــــداولة الأيام فيه مبـــــــــارد
ويضطرم الجمعان والنقع ثائر فــيسلم مقدام ويهــــــــــــــــــلك خامد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
فصبرا على أهوال الزمان فإنما لــــكم خـــــــلقت أهواله والشدائد
لكن،ومع هذه الأنباء وهذا الاختفاء القسري،لم يكد زرياب وأهله يسلمون بموت هايدي وذلك في معاتبة للضمير بأنهم ربما يكونون قد فرطوا في أمر العناية بها وتركها عرضة لهذا المصير حيث غادرت،حتى إنها قد أصبحت حديثهم وحسرتهم في المنزل في كل ساعة،بل إن زوجته قد كانت تتمنى لو تراها ميتة عن قرب فتكفنها وتسترها كما فعلت مع هايدي وان في السابق،فكان كلما خرج من المنزل وخاصة عند أداء صلاة الصبح إلا والتفت يمنة ويسرة في حسرة يود لو يلاقي هايدي تو في الطريق ،حتى إنه ذات مرة رأى شبحا لكلب من بعيد وهو يبدو عليه العرج ففرح فرحا شديدا في قرارة نفسه على اعتبار أنها هايدي نفسها حتى إذا اقترب منه وجده كلبا آخر، وفي بعض الأحيان قد يتوهمها في شخص قط كبير،ثم يخيب تخمينه.
وذات يوم بينما هو واقف عند باب منزله مهموما ،ما يزال يعاوده الأمل في رجوع هايدي ،حتى فاجأه رجل مسن ،يسكن في درب مجاور، قد كان يمر كثيرا مع بعض أحفاده نحو المدرسة المجاورة، بسؤال مهيّج ومشجن:- يا سيدي أستسمحك بالسؤال عن تلك الكلبة العرجاء القصيرة القامة التي كانت تأوي إلى هذا الدرب أين ذهبت ،فلم أعد أراها منذ مدة؟.
أجابه زرياب بحسرة:- والله يا سيدي لم ندر ما فعل الله بها ،فقد غابت عنا منذ أيام ولم نعد نعلم من أخبارها شيئا.فإما أنها قد اختفت لتموت في أمان وستر وإما قد قتلت من طرف رجال البلدية كما يشاع.
أجاب الرجل الطيب:- يا سيدي لولا معزّتها عندي ما كنت لأسأل عنها ،فقد كانت كلبة هادئة ومسالمة ومؤنسة للدرب ولم تؤذ أحدا من المارة مهما حصل منهم !.
رد عليه زرياب في دهشة وعيناه مغرورقتان بالدموع:- يا سبحان الله ! من كتب له القبول فهو مقبول سواء أكان من إنس أم حيوان،ومن لم يكتب له القبول فهو منبوذ ومستثقل ولو تزين بأصباغ العالم وتوشح الذهب واليواقيت والجواهر !!!.وهايدي قد كانت من صنف المقبولين فهيأ لها الله تعالى حيث تعيش وتكرم وترحم.وإننا لم نُجْلها عنا ولم نحرمها من شيء أو ننهرها.
أجاب الرجل الطيب وهو يضع بلْسما على صدر زرياب:- أجل سيدي ! فقد كنت كلما مررت بالدرب أراقب عنايتك بها وكيف تحن عليها وترأف بها.فجازاك الله خيرا عن هذا العمل.
هذا الحوار سيترك في نفس زرياب أثرا كبيرا ودرسا أخلاقيا عميقا ينبني على مبدأ التناسب في الرؤية حينما تكون النفوس على تقارب في الطيبوبة أو الخبث ،فإما أن يشتركوا في رؤية الخير أو رؤية الشر ،فما يراه الخيِّر خيرا قد يراه الشرير شرا،ولا تنطق الأواني إلا بما سكن.
حينها بدأ زرياب يراجع ذكريات الكلاب ورحلته الصيفية معهم على غير قصد وموعد ،في عالم متسلسل ومتململ،ووفيّ وغادر ،ومتقارب ومتباعد، ومتناقض ومتجانس، ومسلي ومؤلم، لكنه سينتهي حتما بالفراق والوداع المروع .فبدأ يصيح وينوح:- ما لزرياب ولشأن الكلاب، ما لزرياب ولسحر الكلاب، ما لزرياب وللكلاب !!! أهذه هي النهاية يازرياب؟ !!!…
انتهت القصة

فهرس المشاهد
تقديم
1- زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب
2- زرياب بين سجع كلاب البادية ونغمات الطيور و الماشية
3- الكلب الثلجي وممهدات زرياب للتشبث بالكلاب
4- الجِرْو « هايْدي وَانْ » ومؤشرات البهجة والسلوان في بيت زرياب
5- « هايْدي وَانْ »وتثبيت مكانتها وجاذبيتها قبل الوداع
6- « هايْدي تُو » وفصول مطولة للرحلة الصيفية مع الكلاب
7- هايْدي تو بين مقتضيات حب البقاء والتسليم لمجريات القدر
نهاية القصة

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.