Home»National»حب على ضفاف البحر الأزرق:أخيرا اللقاء ـ الحلقة 5 ـ

حب على ضفاف البحر الأزرق:أخيرا اللقاء ـ الحلقة 5 ـ

3
Shares
PinterestGoogle+

رمضان مصباح الادريسي

الحلقة:5
وهل يُثرثَرُ في غير النيل الأزرق؟

في المساء ،وقبل التحلق حول طاولة العشاء ،انصرف كل فرد من أفراد أسرة سامية الى مشاغلهم الخاصة ؛التي لم يعد أي أحد يحتاج فيها الى الآخر،ولا حتى الى الكلام.
عيون زرق تلاحق ومضات شاشات زرقاء.
الا الصغيرة ريمة، فهي لا تزال مشروع فيسبوكية؛لأن حلمها في الحصول على « تابليط » لم يتحقق بعد؛ وهي لا ترغب فيها إلا لتعرف هذا البحر الذي يقولون بأن الداخل اليه مفقود،والخارج منه مولود.
هي تراه فعلا يستغرق أغلب وقت أختها سامية.
تُرى ماذا تفعل في هذا البحر؟ مع من تتحدث ؟ ولماذا تبدو أحيانا مصفرَّة الوجه ،قلقة ؟
حول الطاولة أثنى الأب على أحمد ،كبيرِ ابنائه ،قائلا:
عرفت من ترتيب كتبي في الخزانة،أنك مررت من هناك.
أنت لا تعرف أن الكتب كالناس ،يأوي كلُّ واحد الى فراشه.حينما تتصفح كتابا ما أعده الى موضعه من الخزانة.
طيب قل لي :هل تشتغل هذه الأيام على عرض أدبي؟
أراك لا تهتم إلا بكتب الأدب هذه الأيام.
نعم يا والدي، نُعد في النادي لمسرحية شعرية؛ولهذا تراني أقلِّب يمنة ويسرة عساني أجد ما يفيد.
أعرف أنه في الأخير لن يسعفنا غيرُ غوغل. كم أصبح صعبا حتى تلمُّس الكتب الورقية؛خصوصا كتبك القديمة.
ما أن أفتح كتابا حتى تداهمني حساسية الورق القديم ،الى درجة أنها تنسيني حتى في الموضوع الذي ابحث فيه.
يتاسف الأب وهو رجل تعليم مخضرم:
فعلا، لا يزال هولاكو في بغداد يداهم خزاناتها ،ويهدر دماءها.
بفارق الاسم فقط؛فهو اليوم غوغل ،ورديفه الفيس بوك.
وهلم قتلا لكتب أسلافنا ؛وقد لا يبقى في النهاية غير قرآننا الكريم .
هو ذاك يا ابتي ؛قل لي ماذا تعرف عن تأبط شرا.
يقهقه الأب:تسألني عن تأبط شرا ،وأنت تتأبطه كل ساعات النهار ،وتضعه تحت وسادتك ليلا.
انه السمارت فون يا ولدي .
لم يتأبط تأبط شرا الشر إلا مرة واحدة ،وذهب كما أخبرت أمه الصديق الذي جاء يسأل عنه.
أما أنت فتتأبطه كل ساعة وكل دقيقة.
على أي اسأل سامية أختك فهي بدورها سألتني عن أمور من الشعر القديم؛وعن كلمات وكلمات.
دعني الآن يا أحمد فأنا أفكر في درس الغد ؛وأي عناصر سأركز عليها.
ماهو الدرس يا والدي؟
نصوص من ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ.
آه بالمناسبة يا والدي قل لي :هل يقصد النيل الأبيض أم النيل الأزرق؟
النيل الأزرق طبعا ؛وهل تعتقد أنه كان سينال جائزة نوبل ،لو لم يكن صاحب اشراقات كشفت له عن مستقبل العرب ،وكشفت العرب لغيرهم.
كان يقصد النيل الأزرق الذي نسبح فيه اليوم جميعا .
وهل يثرثر في غير النيل الأزرق؟
استغرق الجميع في ضحك طفولي ،وكأنهم من شخصيات نجيب محفوظ، في عوامة فوق النيل .. الأزرق طبعا.
وتواصلت الحياة هكذا ، لا جديد فيها غير فسبكات تثير نقاشا كرويا حادا بين أحمد وأبيه.
تتدخل الأم مهدئة ،فيتحول النقاش من الكرة الى المثيرات الفنية.
سبع ملايين مشاهدة لشريط أغنية بيوتوب؛في ظرف اسبوع.بمعدل مليون مشاهدة في اليوم.
ماذا تقول الأغنية ليحدث كل هذا التهافت اليوتوبي (من اليوتوب وليس اليوتوبيا الفلسفية،فلم يعد لنا شأن بالفلسفة)
تقول: يا امعللللللللللللللللم ،مِنَّك نتعللللللللللم..
رحم الله أم كلثوم، التي كانت تحول العمارات الحديثة البناء الى أطلال، تتهاوى حزنا؛ أربع ساعات من الغناء الفصيح ،ولِتراتٍ من الدموع..
كل هذا وجمهورها لا يتجاوز الألف.
تغني فدوى المالكي ما تشاء من قصائد فحول الشعراء ،وشيوخ التصوف الشعري،ولا تحصل إلا على آلاف المشاهدات.
لم يشاهد « السيف اصدق أنباء من الكتب » لأبي تمام غير مئات من المشاهدين؛رغم أنها كانت معركة فاصلة بين الروم والمسلمين؛ورغم أن ابا تمام أجاد فيها حد سماع قرع السيوف، وصفير النبال وصهيل الخيول..
ورغم ذلك لا حياة شعرية لمن تنادي.
وما أن دعانا نجيب محفوظ لثرثرة فوق النيل حتى » نَوْبلوه »؛بل أبدعوا نيلا آخر أزرق دائم الفيضان.

أستاذ اللغة العربية لا يزال يَعد الأسئلة التي تطرح عليه، قبل تقاعده ؛أصبح الآن يستمع الى اسئلة لغوية عديدة من سامية.
تسأل عن معاني كلمات بعينها ،لها وقع خاص على نفسها كأنثى.
أحيانا يجيبها الأستاذ ،وأحيانا يتحرج فيحيلها على مراجع خزانة والدها؛فهو صديقه من أيام قصائد البحتري وأبي العتاهية والمتنبي ،في مركز تكوين الأساتذة.
أحيانا يبحث الوالد في الخزانة عن الكتاب فيجده غائبا ؛فتقول الزوجة:
تاريخ الأدب لحنا الفاخوري؟ آه انتظر ،تذهب الى غرفة سامية وتعود به.
شبح الفيسبوك يواصل دغدغاته لسامية؛وقد تواصلت حيرتها:
من يكون؟
هل يكون من اصدقائها في الفصل؟
لالا أعتقد أنهم من هذه الفئة من الذكور، الذين ما أن تراهم الأنثى حتى تشعر بأنها أنثى.
لالا هم زرق وما شأن الزرق بالحب والعشق،ولغة الجسد.
كل اصدقائها من ذوي التسريحات التي تتغير ،عقب مقابلات كرة القدم العالمية.
كيف كانت تسريحة « نايمار » ؟اذن فليمض الأسبوع كله مع تسريحته.
حياة مضبوطة على ايقاع مقابلات البارصا، والريال، وباري سانجرمان.
وكل الدروس في القسم مضبوطة على ومضات فيسبوكية ،ترحل بها أنى شاءت.
وحده الاستاذ يتحدث عن تاريخ لم يعد أحد يهتم به؛وعن حروب لم تعد في غير قصائد المتنبي وأبي تمام.
وتستمر يا امعللللم في حشد مشاهدات وصلت الى مئات الملايين.
حاولت سامية أن تستعين بأخ صديقة لها ؛وهو مهندسٌ في الاعلاميات.
رجته أن يكشف لها عن شخصية الشبح الفيسبوكي ،الذي اصبحت الآن مدمنة على كلامه.
حاول المهندس لكنه لم يفلح لأن الخلفية الرقمية السوداء للفيس الأزرق، لم تكشف له عن شيء.
اعتذر لها ونسي الموضوع.
وفي الغد وجدته يعرض عليها الانضمام الى اصدقائها فرفضت.

أخيرا اللقاء:

في بداية اقتحامه لحياتها الزرقاء لم يكن يهمه اللقاء الفعلي ؛كان كل همه أن يثير فيها الرغبة في حديث الجسد.
لم تكن فسبكاته غير كلمات عربية فصيحة ،اختطفها من أفواه امرئ القيس،عنترة،عروة بن الورد،وعمر بن ابي ربيعة.بل لم تسلم من غاراته حتى دواوين العشق الحديث.
هي انقادت الى رغبته ،فبدأت تبحث في قواميس والدها وأجوبة استاذ اللغة العربية عن جمرات لغوية تلهب بها فروسيته.
هو بدوره لم يكن في البداية غير شخص أزرق عابث، كما يعبث بنو زرقٍ كلهم؛لكنه لم يفلح في استمالتها الى عالمه ،لتفاهة تعبيراته الفيسبوكية.
ثم جرب وجرب كلمات وكلمات،الى أن آنس منها اشتعالات واشتعالات؛فصار يعمق قواميسه التي أسسها البناة الأوائل .

هما الآن على موجة رقمية واحدة ،داخل العالم الأزرق ؛لكن في نفس الوقت داخل عالم الصحراء والضباء، ورمضاء الصيف التي ظلت تلهب أجساد التائهين من الشعراء.
هما داخل النيل الأزرق ،حيث يُعلم نجيب محفوظ الثرثرة؛لكن بعقل لا ينفك يفكر في معلقات الكعبة ،وباقي قصائد كل الفحول.
جرى هذا هكذا بدون أفق ،بدون نداء للقاء ،الى أن فسبك لها ذات صباح كلمات ليست كالكلمات:

سوف أحبك عند دخول القرن الواحد والعشرين
وعند دخول القرن الخامس والعشرين
وعند دخول القرن التاسع والعشرين

يا سيدتي ،أنت خلاصة كل الشعر
ووردة كل الحريات
يكفي أن أتهجى اسمك
حتى أصبح ملك الشعر
وفرعون الكلمات
ويكفي أن تعشقني امرأة مثلك
حتى أدخل في كتب التاريخ
وترفع من أجلي الرايات.
* كلمات سرقها من نزار قباني، وهو يعرف أنه يشجعه على مثل هذه السرقات ،ما دامت في خدمة المرأة والحب.
أوقعتها هذه الكلمات العذبة في حيرة؛هل تستمر هكذا ،مستسلمة لسياط الجسد ،من كلام ولا شيء غير الكلام؛هل تتنكر لكل خلايا الشوق فيها،وكل المعاني التي رسبتها الكلمات الدافئة في وجدانها؛وتمضي سابحة في البحر الأزرق ،تتعقب تسريحات زملائها الزرق،وفيديوهات لفناني الصعقة والرعشة ،لكن بملايين المشاهدات.
تائهة حائرة؛خصوصا وهذا الشبح لا يظهر بصورته وعلى حقيقته ،حتى يتحقق لها ما يتحقق للأنثى من اشباع النظر.
عزمت وقررت أن تطلب لقاءه ؛على الأقل ستتحقق من وجوده الآدمي ؛فمن يدري مع كل التقنيات الرقمية المتوفرة ماذا يمكن أن يجري.
كل شيء أصبح ممكنا.
تفسبك:
متى اللقاء ،وأين؟
يرد: في حديقة الأمم المتحدة.
ترد ضاحكة: الأمم المتحدة،مرة واحدة؛وهل ستحضر القبعاتُ الزرق لحمايتك مني؟
لا لا لم أعد أطيق اللون الأزرق،سأحْضِر لك مائة من النوق العصافير مهرا؛كما فعل عنترة مع عبلة.
طيب ؛وكيف سأعرِفك؟
يفسبك:سأحضر يوم الخميس على العاشرة صباحا ،مرتديا قميصا أحمر،وبيدي كتاب.
وأنت ماذا سترتدين؟
قميصا أزرق.
يرد الشبح: ستكون آخر مرة ترتدين فيها الأزرق؛لأنه ليس لون الصحراء ،حيث ستُقيمين معي.
صباح الخميس ارتدت سامية أفضل قميص أزرق لديها ،وانتابها خوفٌ، اذ فكرت بأنه آخر يوم لها مع هذا اللون؛ ثم تساءلت في سرها:
ها أنتِ من الآن تستسلمين لهذا العربي القادم من المعلقات السبع.
أهذا من سحر الجزيرة؟
سارت في طريق الحديقة وهي تضغط ،منفعلة، على يد أختها الصغرى ريمة.
قررت أن تصحبها معها ؛لأنها لا يمكن أن تكون وحيدة مع شبح ،بكل كلماته المؤثرة التي تعرف.
وهي لا تريد أن تُرى معه ،ولا ثالث لهما ،غير شعراء العشق.
هكذا فكرت؛أما ريمة فكل همها أن ترضي اختها ،عساها تفتح لها نافذة معها على النيل الأزرق،عساها تركبها زورقا من زوارقه.
ومن يدري فقد تكون لوحة سامية من نصيبها، اذا ما قررت أن تشتري أخرى جديدة.
تطوف في أرجاء الحديقة وتتجه صوب المكان المحدد ؛وقد كان منزويا في ركن ظليل.
انه هناك ،بقميصه الأحمر كما وعد؛وبيده كتاب .
تقترب منه وتقترب ،وهو منهمكٌ في القراءة ،لا يرفع رأسه.
ما أن دنت حتى خفق قلبُها بشدة ؛حتى ظنته طائرا خرج من صدرها.
ماذا أرى؟
أنت. أنت أحمد أخي؛يا لَلهول ..
يقف يحاول أن يتكلم لكن لسانه يخونه ؛يتلعثم ويسكت .
وهل يكفي أن يتلعثم ؛لماذا لا ينهار كلية؟
وهي وهي ،ألا يجب أن تتشقق الأرض وتخسِف بها ،حتى لا تذكر لا أزرق ولا أحمر ولا صحراء ولا الحياة بأسرها.
وجود ريمة كان حِكمة هذا الصباح ،الذي أخرجتْه المفاجأة من رحمها ،وألقته في وجه الأخوين أحمد وسامية.
تقول ريمة بكل براءة الأطفال:
لماذا لم تخبرنا بأنك قادمٌ الى هنا حتى نترافق جميعا؟
بماذا يرد الآن على هذا السؤال، الذي لا لون له عدا لون البراءة؟
تشعر سامية وكأن الرحمة تذكرتها ،وعاودت القواميس لسانها،فتقول:
كان علي أن أخبرَه حتى ينتظرنا ؛أنا المسؤولة عن كل هذا؟
يتشجع أحمد ويجيب وهو لا ينظر الى عيني سامية:
اسمعي يا سامية ،لا أحد منا يتحمل المسؤولية؛انه الطوفان الأزرق ،أو النيل الأزرق ،هو المسؤول عن كل هذا.
كانت ثرثرة وقد جفت كل حروفها اللحظة.
تتدخل ريمة ببراءتها: عن ماذا تتحدثان ،أنا لم أذكر نهرا ولا بحرا.
لا شيء يا ريمة لا شيء.
لكن خذي ،فهذه اللوحة الالكترونية ملكٌ لك من اليوم؛اسبحي فيها كما تشائين ،لكن بعيدا عن شواطئ البحر الأزرق.
أما أحمد ،وقد استعاد هدوءه كاملا ،فرفع كتابه الى شفتيه وقبله وقال:
اسمعي يا أختي سامية ؛من اليوم لن أفتح غير كتبي وكتب والدي؛ولا يهمني أن تكون بيضاء أو صفراء؛المهم ألا تكون زرقاء.
ضحك الأخوان ،واعتذرا لبعضهما البعض ،وطفقا راجعين الى المنزل.
أما ريمة فكانت سعادتها باللوحة أكثر من أن تترك لها مجالا للضحك.
ضمتها وقبلتها وقبلت أخويها ،ونطت أمامهما كغزال صغير.
استغرقتهما الدراسة ؛حيث تحسن مستواهما بكيفية ملحوظة.
استعادت الأسرة علاقاتها الطبيعة،مصرة على وقت ،في المساء،مخصص للحديث المباشر ،ومناقشة قضاياها،وقضايا الوطن والأمة.
بعد تقاعد الوالد، لم يعد له من شغل آخر عدا توجيه نقاش ابنائه ،ومساعدتهم في التوسع في دروسهم.
لعلها الحمامة ،عادت مرة أخرى بطين في أظافرها ،وصاح كل من في الفلك:
اليابسة،اليابسة ،انتهى الطوفان..
وبعد سنوات دخلت سامية الجامعة؛ودخلت عُش الزوجية في نفس الوقت.
لم يكن العريس غير المهندس مهند ،الذي حاول اكتشاف الشبح ،لكنه اكتشف حبه الكبيرلسامية.
أما أحمد فاختار مهنة الوالد،والتحق بأكاديمية التربية.
وكلما تذكر أستاذ العربية الذي ظل يتمنى أن يُطرح عليه سؤال في دروسه؛قبل أن يتقاعد ؛الا وتساءل بينه وبين نفسه:
أين الخلل؟
في الأستاذ،أم في المناهج التعليمية،أم في التلاميذ؟
حينما طرح سؤاله على أستاذ،بالمعهد، متخصص في الحضارة كان الجواب:
تنمو شجرة الحضارة ،حيث تربتها الأصلية،و عروقها وماؤها ؛أغلب أشجارنا مستوردة ،وبعروق ترفضها تربتنا.
نعم للجداول العذبة،ولا للطوفان الجارف.

انتهى

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *