Home»National»شْلومو واسْحَقْ :مغربيان،بصداقتين مذهلتين

شْلومو واسْحَقْ :مغربيان،بصداقتين مذهلتين

1
Shares
PinterestGoogle+

رمضان مصباح الادريسي

في الترحيب باليهود المغاربة ،القاطنين بالخارج .

القصة الواقعية الأولى: شلومو والعجوز الحمقاء:

في مدينة الدار البيضاء،العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية ؛وقُرب الملاح حيث سكنَ اليهود المغاربة،منذ القديم،كانت تقيم امرأة مغربية مسلمة ،قاربت الشيخوخة.
(بكل المدن المغربية العتيقة ،كان يوجد حيٌّ يطلق عليه الملاح،يُخصص لسكن اليهود المغاربة؛وهذا لا يعني أنهم كانوا يعيشون بمعزل عن المجتمع المغربي ،بل بالعكس ،كان هناك اختلاط دائمٌ – عدا الشؤون الدينية- كما أن الملاح كان مقصدا للمغاربة المسلمين ،في كل ما يخص الحرف اليدوية،وما يرتبط بها من تجارة)
بجوارهذه المرأة كان يسكن يهودي شابٌّ اسمه « شلومو »،فقدَ والديه ،وهو صغيرٌ.
كان يحلو له أن ينادي جارته،مازِحا ،بالعجوز الحمْقاء.
أما هي فكانت تستعْذِب منه هذا الشغب ؛لكنها ترد عليه في الحال:
وأنت يا يهودِي.
يضحكان ويمضي كلُّ واحد لمشاغله اليومية.
كان للمرأة أبناء ،وكانت تعتبر شلومو واحِدا منهم.
ولهذا ما أن يجتمعَ الأبناء للطعام،حتى يكون شلومو جالِسا بينهم؛يأكل مِما تطبخه له خصيصا ،مراعاة لديانته.
في أيام السبت كان شلومو يذهب لزيارة عمِّه ،حيث يقضي معه اليومَ؛ولا يمكن أن تمْضي سائر الأيام الأخرى، دون زيارة صديقته « العجوز الحمقاء  » وأبنائِها.
وتمضي الأيام على هذه الوتيرة،في أكبرِ المدن المغربية ،حيث كانت تتعايش مُختلف الجنسيات ،والديانات.
الى أن حل اليومُ الحزين ؛حيث قصد شلومو صديقتَه ،ليخبرها بعزمه على الرَّحيل الى اسرائيل ،ليحقِّق هناك المستقبل الذي يحلمُ به.
حزِنت المرأة حزن أم موشكة على توديع أحد ابنائها؛حاولت جاهدة أن تُثنِيه عن عزمه ،بتخويفه من بلاد لا توجد بها غيرُ الرمال والأحجار ،حسب قولها.
لكن شلومو كان قد أكمل جميع الاستعدادات لسفَرٍ بدون عودة؛ولم يكن ممكنا ثنيُه عن ذلك.
يوم الوداع ،كان بمثابة يوم جنازة لأحدِ أبنائها ،حزنت وبكت ،لكن الله قدَّر هذا الفراق؛وهاهي تحتضن شلومو بين ذراعيها باكية ؛ شلومو ابنها الذي لم تلِده.
وبكى بدوره هذه الأم الثانية التي لا يُمكن أن تتذكر أبناءها دون ذكره بينهم.
في الشهور الأولى لرحيل شلومو الى اسرائيل ،كانت تتوصل منه برسائلَ ؛ابتدأت مواظبةً لكنها مع الزمن أصبحت متباعِدة ،الى أن انقطعت تماما.
حياةٌ جديدة ،أصدقاء جددٌ، وربما اسرةٌ وأبناء؛هكذا كانت العجوز تفكر ،لتجِد العذر لانقطاع الرسائل.
مضت على هذه الحال عشرون عاما ؛الى كان ذات يومٍ ،وهي جالسةٌ في منزلها، الى صينية شايٍ، فإذا بطرقٍ على الباب يتناهى الى سمعِها.
حينما فتحت وجدت نفسها وجها لوجه ،مع فتىً في سن المراهقة.
حياها أفضلَ تحية وهو يقول:
سيدتي جئت لرُؤيتك من قِبل شخص تعرفينَه جيِّدا.
هي لا تعرف هذا الفتى ،فمن يكون هذا الذي أرسلَه؟
لِيُخرجها الفتى من حيرتها ، أردَف قائلا:
لدي رسالةٌٌ منه اليكِ:
انه يقول لك: أيتها العجوزُ الحمقاءُ.
آآآآآآآآآآآآآآآه شلومو؛ومن غيرُه كان يجرؤُ على نَعتي بالحمقاء؟
شلومو يا ابنِي العزيز.
ما أن نطقت بها ،والدموعُ تنهمر من عينيها ،حتى رأته واقفا خلف ابنِه؛انهُ هو شلومو.
سمُن والتَحَى لكن كلَّ هذا لا يمكن أن أن يحول دون أن تتعرف عليه عجوزُه الحمقاء.
تعانق الصديقان ،وبللتهُما دموعُهما،وهي أبلغ من الكلامِ ؛بعد عشرين عاما من الفراق.
قدِم شلومو،رفقة ابنه من اسرائيل ،ضمن مجموعةٍ سياحية؛وليس في قائمة رحْلته غير رؤية عجوزِه الحمقاء وأبنائها.
خلال يومين قضاهما في ضيافتها حكَى لها – كما يفعل الابن مع أمه- عن كل شيء:
عن العمل ،عن التجنيد،عن الزواج،عن الأبناء..
كانت تستمع اليه بشغَف، تُسرُّ لسروره وتحزَن لحزنه،وتقلقُ لقلقه؛وقد أسعدها أنه كوَّن اسرة ،وأصبح ابا مسؤولا.
وبعد هذا كان الفراق ،عاد شلومو الى اسرائيل ،وانقطعت أخبارُه.
أما هي فشعرت بغمٍّ كبير انزاح عن صدرها،اذ قدَّر لها الله أن ترى ابنها الروحي من جديد ، شلومو الابن الذي لم تلده.
بعد الزيارة بزمن وجيزٍ رحلت « العجوز الحمقاء » الى دارِ البقاء.
يقول الراوي:
هذه المرأة كانت جدتي رحمها الله.

القصة الواقعية الثانية: اسحق ،البائع القروي المتجول

في مُستهل القرن الماضي،بالمملكة المغربية ،كان أغلبُ البائعين المُتجولين من اليهود المغاربة.
كانوا يجوبون الدواوير (تجمعات سكانية في البوادي) عبرَ السهول والجبال ،صيفا وشتاء،حاملين بضاعتَهم على الحمير.
عدا الأسواق وهؤلاء الباعة المُتجولين ،لم تكن هناك فرصٌ أخرى للبيع والشراء؛ولهذا كان حلولُ بائع يهودي متجول بالدوار،يعتبر حدثا تجاريا مهما.
البائع المتجول ،بطلُ هذه القصة الواقعية،اسمه اسحق.
ذات صباح ربيعي باكرٍ حل بدوار من دواوير تادلة بالمغرب –قرب مدينة بني ملال- وكعادة الباعة اليهود ،اختارَ موقعا وسطا بين الساكنة،فأنزل كلَّ بضاعته من على ظهر حماره،وانتحى جانبا ينتظر الزبائِن.
فعلا ما هي سوى دقائق حتى أحاطت به نساءُ الدوار ،وأطفالُه ،وشرعوا في تفحُّص سلعه المُكونة أساسا من:
مناديل الرأس ،الأمشاط،الملاعق والسكاكين ،العقود،الأقراط ،الأقمشة ،وعلب الكبريت الخ..
اضافةً طبعا الى أصناف الحلوى الملونة والرخيصة،المُغرية للأطفال.
هذا ما كان يروج وقتها في كل البوادي المغربية،ولا وجودَ لمن يحمله الى الناس ،حتى في قمم الجبال الثلجية عدا اليهود.
قضى اسحق يومه في بيع بضاعتِه ،أحيانا بدراهمَ ،وأحيانا بمقايضَتها بالصوف أو الحبوب أو البيض.
حينما حل الظلامُ شق على اسحق أن يظل حيثُ هو ،بعيدا عن المساكن ،وصعُب عليه أن يغامر في الطرقات ،لكثرة المخاطر ،خصوصا لمن هو مثله؛يحمل سِلعا ومالا.
نظر الى المساكن المحيطة به ،فاختار أكبرَها ؛ربما عملا بالمقولة الشعبية:من أراد القِرى-الكرم- فعليه بالمنازل الكبيرة.
حمل ما تبقى من بضاعته على حماره، واتجه صوب المنزل الكبير.
لما اقترب نادى على جدِّ أبي – يقول الراوي- وطلب ضيافة الله،وِفق الجاري به العملُ.
رحب به المسلم ،وأنزلَه في مكانٍ قريب بضيعته .
وبعد أن نصب خيمته الصغيرة ،وقام بشعائرِه الدينية،دعاه مضيفُه لتناول العشاء معه.
اعتذر اسحق ،مُتحججا بكونه لا يأكل اللحم.
فهِم الجد ما يعنيه بهذا الكلام ،وطلب من احدى زوجاته احضارَ ديك ؛سلمه له ليتدبَّر أكله كما تشاء له دِيانتُه.
وبعد أن فرغ من طعامه دعاه الجد للسمر ،وشرب الشاي .
وأمضيا ساعاتٍ طِوالا في الحديث عن كل شيء؛مما جعل المسلمَ يكتشف في اليهودي رجلا ذا ثقافة واسعة،بمقاييس ذلك الزمان.
من كثرة تِجواله ،ربما،ومخالطته لأصناف عديدة من الناس.
ومضت العلاقة بينهما على هذا النَّهج؛كل ثلاثة أشهر يحلُّ اسحق بالدوار ،وفي المساء ،يقصد نفس المكان بالضيعة؛وفي الليل يستأنف مع صديقه كلَّ الأحاديث التي بقيت عالقة ،وما معها من مستجدات القبائل والدواوير والسير في الطرقات.
استمرت هذه الصداقة أربعين عاما ؛ظل فيها المُسلم مسلما واليهودي يهوديا ؛لكنَّ وشائج العلاقة بينهما كانت ضاربة في عمق المشترك الانساني، الذي يعلو على كل الاختلافات.
ثم انقطعت أخبارُ اسحق كُلية؛ولم يعد يحضر في وقته ؛لا الى الدُّوار ،ولا الى تادلة كلها.
احتار الجد ،يقول الراوي،ولم يترك أحدا من الباعة المتجولين ،وعابري السبيل ،والرُّحل ،إلا سأله عن اسحق ؛لكن بدون طائل.
حزن كثيرا واغتم ،وفي الأخير سلم بقضاء الله ،في غياب صديقه الحميم.
الى أن كان ذات يوم،سمع فيه بساحة منزله نداء بائعٍ متجول من شباب اليهود.
أقبلْ سيدي ،يقول الشاب:
عظمَ الله أجرَك في صديقك اسحق،لقد رحل الى دار البقا ء،منذ مدة.
ثم أكمل:
لم يعِش بعد وفاة زوجته سوى شهورٍ معدودة ،فلحِق بها.
بكى الجد للخبر طويلا ،واستفسر الشاب عن كلِّ التفاصيل؛وأكمل بالترحيب به ليُقيم، ان شاء، في نفس المكان من ضيعته.
وقبل انصراف البائع سلَّم للجد لفَّافة وهو يقول:
هذه أمانة تركها لك اسحق ،وهي أعزُّ ما يملك؛لقد قال لي :ان صديقي أفضلُ من يهتم بها ،مادمتُ بدون أبناء.
ثم انصرف وترك الجد جالسا مع كلِّ أحزانه،يتراءى له من خلالها صديقُه اسحق وهو يلوح له مُودعا.
في الليل ،فتح اللفافة ،وسط زوَجاته وأبنائه؛والكلُّ صامت ،وكأن على رؤوسهم الطير.
بدأ برسالة وداعٍ، من صديقه، بكى لها الجميع.
ثم ماذا؟
منديلٌ حريري ،من لوازم الصلاة عند اليهود؛كان اسحق يلفُّ به عنقَه .
منديل برَمزية كبيرة ،لا يسلِّمه اليهودي لغير اليهودي.
لكنْ للصداقة الحق استثناءات.
بعد زمن استغلَّ الجد احدى زياراته لمدينة فاس ،فقصد بيعة اليهود بالملاح ،وقصَّ على « الرَّبِّي » القائم عليها ،كل حكايته مع اسحق؛وسلَّم له منديلَ صلاته،ثم انصرف باكيا،وكلماتُ الشكر في أثره.
يقول الراوي:
لم يعش جدُّ أبي بعدها سوى شهورٍ معدودة.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *