Home»Enseignement»هل تصدق مقولة :  » القيام للمعلم وتبجيله  » على كل من علّم ؟

هل تصدق مقولة :  » القيام للمعلم وتبجيله  » على كل من علّم ؟

0
Shares
PinterestGoogle+
 

هل تصدق مقولة :  » القيام للمعلم وتبجيله   » على كل من علّم ؟

محمد شركي

كثيرا ما يردد الناس قول أمير الشعراء أحمد شوقي :

قم للمعلم وفّه التبجيلا = كاد المعلم أن يكون رسولا

أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي= يبني  وينشىء أنفسا وعقولا

يردد البعض هذين البيتين من الشعر دون تحفظ وكأنهما من آي الذكر الحكيم الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، والحقيقة أنهما  إن صدقا على صنف من المعلمين لا يصدقان على صنف آخر . وبيان ذلك ما سجلته ذاكرة المتعلمين من ممارسات  سيئة منسوبة إلى الصنف الذي لا يمكن  أن يحوز التبجيل في حقه، وما تطالعنا به الأخبار بين الحين والآخر من تلك الممارسات التي يستهجنها الرأي العام ، ويندد بها بشدة .

 أما ما سجلته الذاكرة المتعلمة  عن تلك الممارسات ،فيعود إلى فترة سنوات الرصاص التي لم تكن فترة استبداد سياسي فقط ، بل كان الاستبداد يطبع كل نواحي الحياة وكل المجالات بما في ذلك المجال التربوي الذي عرف استبدادا لا مثيل له ضد المتعلمين تمثل في عنف  كان المعلمون يمارسونه عليهم  وقد تجاوز كل الحدود. وغالبا ما يتحدث جيل تلك الفترة عن جدية المعلمين وعن مردوديتهم وعن المستوى الجيد للتعليم  يومئذ دون الحديث عما كان يصاحب ذلك من عنف وإهانة يمارسهما المعلمون على المتعلمين . والذين يذكرون إيجابيات التعليم في تلك الفترة ، ويغضون الطرف عن سلبياته، شأنهم شأن الذين يعجبون بالمآثر التاريخية التي خلفها  العظماء الأقدمون دون الالتفات إلى جرائمهم بل إلى  فظائعهم ضد الإنسانية ،فعلى سبيل المثال لا الحصر شاد الفراعنة الأهرام ،وهي من عجائب الدنيا، ولكن الأشد عجبا  منها ،والذي لا يلتفت إليه أحد هو ما ارتكبوه من فظائع ضد الإنسانية من قبيل ما سجلته آخر رسالة سماوية حيث شهد رب العباد جل جلاله على جرائمهم  الفظيعة . وما قيمة أهرام أمام قيمة أرواح بشرية بريئة  أزهقت ظلما وعدوانا. وعلى غرار فعل  الفراعنة  تشييدا وطغيانا كان كل الملوك  والحكام إلا أن التاريخ يسجل ما شادوه، ولا يذكر ما اقترفوا من جرائم إلا نادرا .

لا أحد ينكر جدية المعلمين مع بداية عهد الاستقلال ،وكانت الجدية هي الطابع الغالب عليهم  مع بعض الاستثناءات إذ لا يخلو زمن ممن لا يقدر واجبه، ولا يتقي الله في أمانته  ولا يخشاه ، ولكن لا يمكن أن تكون الجدية مبررا لتصرف هؤلاء المعلمين بقسوة مع الناشئة المتعلمة . ومما كان سائدا يومئذ أن من مؤشرات الجدية  شدة القسوة المبالغ فيها حتى صارت صفة  » معلم واعر » واللفظة اسم فاعل لفعل وعر ـ فتح الواو وكسر العين ـ يوعر ، وهو وصف  يوصف به المكان إذا  صعب السير فيه ، ويطلق الوعر على الجبل  لصعوبة مسالكه  . ونظرا لصعوبة التعلم على يد المعلم يومئذ كان يوصف هذا الأخير بهذا الوصف الذي كان يعتبره هو مدحا لا قدحا .

ولا يوجد من كان متعلما في سنوات الرصاص لا يحتفظ في ذاكرته بذكريات سيئة عن عنف مورس عليه من طرف من كانوا يعلمونه أو بذكريات إهانة لحقته ، وغالبا ما تتداول أخبار ذلك العنف ،وتلك الإهانة بين هؤلاء حين يستعرضون ذكريات طفولتهم  في الفصول الدراسية . وغالبا ما يتحدثون عن يوم مشؤوم كانوا يحسبون له ألف حساب في صبيحة أو في زوال ما  حيث كانت بعض الحصص الدراسية تخرج عن إطار التعلم والتحصيل بسبب العنف الذي يطغى عليها حتى تكاد تسمى حصص العنف ، وكان أفواج المتعلمين يسأل بعضهم بعضا عن وعورتها أو صعوبتها  بحيث لا تعنيهم مضامينها بل كل ما يعنيهم منها حجم و درجة قسوة عنف المعلمين . وكان المتعلمون يعانون من نوع من الإسهال والتبول لا تعود أسبابهما لأكل أو شرب أو علة بل كان سببهما الرعب الذي يصابون به من جراء عنف المربين .

ولا بأس من سرد بعض الوقائع التي سجلتها ذاكرتي وأنا تلميذ، وذاكرة غيري من معارفي وأقاربي وهم تلاميذ ، وتتعلق بتعنيف وإهانة بعض المعلمين  للمتعلمين غفر الله لهم إن جاز الدعاء لهم بالمغفرة . فمما أذكره، ولا يمكن أن  أنساه أبدا ما حدث لي وأنا في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي في الستينيات ، وقد ضاعت مني  خرقة كانت تسد مسد ممسحة لوحة حجرية كنت أكتب عليها ، فأخذت أمسح جيرها بيدي، و أمررها على وجهي لأمسحه  أوأطرد الذباب عنه وأنا لا أشعر بأثر غبرة الطباشيرعليه ، فإذا بالمعلم ينتبه إلي فيعلق على صدري ورقة فيها  عبارة مهينة لي، ويأمر تلميذا من أبناء الأعيان أن يسوقني بين  صفوف المتعلمين في كل فصول المدرسة ليبصقوا على وجهي، وليسخروا مني  حتى  تصبب وجهي بصاقا ونخاما، وقد اختلطا بدموعي . وأنا اليوم أتساءل لو نقل  مثل هذا المشهد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ماذا سيكون مصير هذا المعلم ومصير المعلمين الذين سمحوا بمرور هذا المشهد  أمام أعينهم في فصولهم مطاوعة لتصرف طائش من زميل لهم فقد إنسانيته يومئذ ؟ ولا أنسى أيضا وأنا في الصف الخامس  يوم رفضت حلق شعري، فبلغ ذلك إلى علم المعلم ، فظل يترصدني منذ الصباح لينزل بي عقابا كان قد قرره  في نفسه ، وما زال يطالبني باستظهار كل مكتوب في الكراسات ليجد إلى معاقبتي سبيلا ، وأنا أجيبه عما يسأل أتوقع منه العقاب كل لحظة  ، فلما أوشكت الحصة المسائية على النهاية طلب من مجموع القسم إنشاد محفوظة  » الضرير  » التي مطلعها : « يا أم ما شكل السماء وما الضياء وما القمر؟ » وصرت أنشد معهم، وكنت أحفظها عن ظهر قلب أوقف الجميع عن الإنشاء ، وفاجأني بوجه مقطب  مكشرا عن أنيابه ،ومزمجرا بصوت عنيف وقد انتفخت أوداجه بالإنشاد وحدي ،فما كدت ألتقط أنفاسي لأواصل الإنشاد حتى عمد إلى شعر رأسي ينتفه نتفا، ويلقي بالنتف أرضا ويوجه إلى وجهي لكمات وفمه تصدر عنه كلمات نابية ، وكان لا يتورع عن سب الرب والملة والدين، ولو أجري عليه حكم الفقهاء يومئذ لأفتوا بكفره وبإهدار دمه  جزاء على كبيرته الشنيعة . وأتساءل مرة أخرى لو نقلت وسائل التواصل الاجتماعي  اليوم هذا المشهد المخزي، ماذا سيكون مصير المعلم الحلاق بدون موسى ولا آلة حلاقة ؟ وأكتفى بهاتين الحادثتين لأسوق نماذج مما عاينته أو روي لي . فمما عاينته نوعا من العذاب كان أحد المعلمين وكان شقيا قد نزع الله عز وجل الرحمة من قلبه  يمارسه على أحد المتعلمين ، وكان هذا الأخير إذا مر زمن على الحصة الدراسية امتلأت مثانته، واحتاج إلى إفراغها ليتخلص من ألمه، فيسأل المعلم  متوسلا إليه بالذات الإلهية وبما عز عنده ليسمح له  بالخروج لقضاء حاجته ،  فيأبى  السماح له  بذلك، فتزداد برحاء التلميذ المسكين، ويتصبب جبينه عرقا ، وهو يحرك ساقيه ويضع يديه على حجره لمنع نزول بوله  ، وكان تلاميذ الفصل يتألمون لمعاناته ، وكان كثيرا ما يجبر على  التبول في الفصل، ويعاقب على ذلك أشد العقاب ، وقلما كان المعلم السادي يسمح له بالخروج إلى ساحة المدرسة التي كان ركن منها يسد مسد دورات المياه . ومما روي لي أحد الإخوة الفضلاء أن أحد المعلمين وكان شديد القسوة على تلاميذه  بما يثيره في نفوسهم  من رعب إذا انكب على تصحيح كراساتهم  وقد كلفهم بإنجاز بعض التمارين ثم سمع أدنى صوت أو همس من أحدهم فيأمره بالقيام لينال عقابه  ، فتقوم مجموعة من التلاميذ ظنا منهم أنهم جميعا معنيون بأمره، وقد استشكل عليهم أمر الخطأ المستحق للعقاب إذ لا يخلو قسم من همس، وكان هذا المعلم ممن يحب سماع طنين الذباب في الفصل لأن ذلك دليل ضبطه لمن يعلمهم أو بالأحرى لمن يرهبهم .

أما أساليب ممارسة العنف فكانت بعدد الوسائل المستعملة  وتنوعها ، فمن المعلمين من كان يستعمل أعود الشجر المختلفة الأحجام  ، وكانت الأنواع المفضلة لديهم ما كان زيتونا أو سفرجلا أو غيرهما  مما لا تلين له قناة . ومنهم من بلغ به  الأمر حد استعمال قضبان من حديد كان بعضها يستعمل مزلاجا لغلق النوافذ . ومنهم من كان يستعمل الطوق أو الحزام المطاطي المستعمل في محرك السيارة . ومنهم من كان يستعمل الحبل المبلل بالماء  أو حزام سرواله وهو من الجلد الخالص مع إبزيم من معدن يترك أثرا حيثما نزل على أجساد الصغار . وأرق المعلمين  قلبا من كانت أداة العقاب عنده مسطرة أو بركارا . وكان عقاب المسطرة أحيانا أشد على المتعلمين من  عقاب العيدان والقضبان والأحزمة والحبال خصوصا حينما يكون الوقت شتاء، فيأمر المعلم المتعلم بجمع أصابعه المتجمدة بفعل القر الشديد ثم ينهال على أنامه بالمسطرة وكان  بعضها  أحيانا من معدن ، أو يضع المسطرة  بين سبابة المتعلم  ووسطاه، ويجمعهما ثم يحركها بينهما  بعنف ، أو يضربه  بها على ظهر يده  في عز الشتاء. وكان البعض الآخر يعاقب المتعلم برفع إحدى رجليه ويداه مرفوعتان إلى الأعلى كالمتبتل طيلة حصة الدرس . وكان بعضهم يسجن المتعلم في دورة مياه مظلمة وروائحها الكريهة تصيبه بالغثيان . ولا نتحدث عن الصفع على الوجه والقفا حتى يرى المصفوع النجوم في وضح النهار ، ولا نتحدث عن الركل والرفس حتى يعجز المركول عن الجلوس على مؤخرته أياما ذوات العدد .

كل ذلك كان يحدث والآباء والأولياء يومئذ يشجعون هؤلاء المعلمين من ذوي الطبائع الوحشية بالقول :  » اقتلوا وسنتولى نحن الدفن  » ،وكانت هذه العبارة تطربهم ونتشون بها انتشاء وهم لا يخجلون من أنفسهم مما  كانوا يرتكبونه من فظائع في حق الطفولة البريئة . ولو قدر للمتعلمين ضحايا عنف المعلمين يومئذ  مقاضاتهم لأحيلوا على محاكمة الجنايات الدولية للبث فيما اقترفوا مما يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية ، وهل يوجد أفظع من جرائم ضد الطفولة المتعلمة في سن البراءة ؟  ولو قدر للمتعلمين الاستفادة من مشروع الإنصاف والمصالحة لاضطرت الوزارة الوصية عن قطاع التربية إلى صرف مبالغ مالية طائلة لجبر ضرر المتعلمين ضحايا عنف سنوات الرصاص داخل الفصول الدراسية . ومن الضرر اللاحق ببعضهم ما لا سبيل لجبره  لما تركه في النفوس من جروح عميقة غائرة ستظل نازفة ، ولا تقضي فيها إلا عدالة السماء يوم يخيب من حمل ظلما .

وأخيرا وبعد هذا الذي ذكرنا  وهو غيض من فيض هل ما زالت قناعة  البعض مصرة على  أن  مقولة أمير الشعراء بالقيام للمعلم وتبجيله تصدق على  كل معلم ؟ وهل ما زال نموذج معلم سنوات الرصاص  العنيف موجودا  في مؤسساتنا التربوية ؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.