Home»International»« الزمان الإنساني وشروط التكامل الاجتماعي في الإسلام »

« الزمان الإنساني وشروط التكامل الاجتماعي في الإسلام »

2
Shares
PinterestGoogle+
 

بسم لله الرحمن الرحيم   وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

« الزمان الإنساني وشروط التكامل الاجتماعي في الإسلام »

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية

شعبة الدراسات الإسلامية وجدة

 

 أولا: مفهوم الزمن الإنساني في دائرة الزمن الكوني :تقاطع وتضمن

قد يبدو الحديث عن الزمن الإنساني مندمجا بالزمن الكوني عند الوهلة الأولى كأنه بعيد تباعد المجرات فيما بينها وبعد الأرض عن السماء ! ولكن عند التأمل والتحقيق فسنجد أن المسافة مطوية كل الطي ومتداخلة كل التداخل لحد التضمن والتقاطع اللازم في الموضوع.

ولحلِّ هذا الإغلاق وسبر ما فيه من أعماق سنحاول أن نلامس بعض معاني سورة قرآنية كانت وستبقى هي الملهم الرئيسي لنا في تناول هذا الموضوع المرتبط بالتكافل الاجتماعي ارتباطا عضويا ووظيفيا لا مناص منه.

هذه السورة هي : »والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر« .

بحيث قد كانت تمثل في عهد الصحابة رضوان الله عليهم وردا تواصليا بامتياز ولا يتم التوديع بينهم إلا بتلاوتها كعربون على الالتزام المتبادل بمقتضياتها ومضامينها الشاملة والخاصة، حيث يندمج ويذوب الفرد في الجماعة والقول مع مع العمل والعقيدة مع الشريعة والحقوق مع الأخلاق.

فلنتناول هذا العنصر من السورة حتى يكون مفتاحا لباقي الآيات المشيرة إلى الشروط البنيوية والوظيفية الملازمة للزمن وعبوره بسلام وبأقصى ربح واستثمار.

إنه العصر الذي جاء هنا بصيغة القسم ولام التوكيد كما أنه ظهر بحكم العموم المشدود بالألف واللام ،وهو بهذه الصفة قد ترك لنا المجال لكي نتدبر ونتأمل ونعيد النظر لحد أن ينقلب إلينا خاسئا وهو حسير.

فلقد فسر العصر بالزمن عموما وفسر بالزمن خصوصا وفسر بطرفي الزمان المؤسس للدورة الكونية في تعاقب الليل والنهار  كما يقول الشاعر :

    وأمطله العصرين حتى يملني    فيرضى بنصف الدين والأنف راغم

كما أنه قد فسر مرتبطا بعمل ديني تعبدي محض ألا وهو صلاة العصر التي تسمى بالصلاة الوسطى.وفي هذا إشارة استباقية إلى ضرورة ربط الأعمال كلها بالزمن وتنزيلها خاصة على الزمن الإنساني الذي هو مناط التكليف وميدانه ومختبره.

وعند هذه التفسيرات وما توحيه إلينا السورة بهذا المصطلح وسياقاته سنلحظ بعض أوجه الترابط بالخيط الرفيع والذهبي بين الزمن الإنساني والزمن الكوني والذي سيكون حاضرا في العمل التعبدي قد يتلوه ضرورة واقتضاء العمل الاجتماعي الهادف إلى تحقيق القرب من الله تعالى وتأليف القلوب بملء الجيوب وستر العيوب.

فالزمن كتعريف مبدئي عقلي تقريبي هو كما ذهب إليه بعض المتكلمين عبارة عن: مدة بقاء الجرم ساكنا أو متحركا في حين قد يوصف جريانه بأنه مرور مستمر وانقضاء دائم ومضي لا ينقلب ولا يرجع.

وبين التعريفين يقف الإنسان خاضعا للزمن ومتحكما فيه بوجه من الأوجه سواء كان تصوريا أو شعوريا أو وظيفيا.إذ الإنسان يمثل جزء من الكون وكل ما ينطبق عليه من أحكام يكون هو داخلها وضمنها ،فإذن: الإنسان يكون مع الكون بالتضمن كجرم ويكون بالتقاطع كوظيفة وخصوصية وجودية جعلت منه حامل الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض كما في الآية الكريمة: »إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا »[1].

وهنا ستبتدئ مراهنات الربح والخسارة لديه وبالتالي سيأخذ التميز مجراه بينه وبين الكون على مستوى الزمن وعبوره وتعريفه .فالإنسان من حيث عمره هو أقصر من الكون ،ومن حيث وظيفته فهو أرقى من الكون بشرط الالتزام بالأمانة التي ستبعده عن مظاهر الظلم والقطيعة وتضييع حقوق الغير،وأهم هذا الغير بعد حق الله تعالى هو الإنسان نفسه من نوعه وجنسه القريب.

وبهذا التخصيص يمكن لنا تعريف الزمن الإنساني بأنه :مدة بقاء الإنساني حيا أو  ميتا ،وحياته هاته ستمثل حركة صغيرة داخل حركة كبيرة يمكنها أن تمشي مع التيار أو ضده ،وهذه هي الإرادة ومناط التكليف.

وفي القرآن الكريم نجد إشارات واضحة إلى هذه الخصوصية وتفاعلها مع الوجود طردا أو عكسا.

  يقول الله تعالى: »أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون »[2] و » يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم »[3].

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: »مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت »[4].

  إذن، فالإنسان قد يبدو وكأنه يسير في زمن ويتحرك بحسب الحركة الكونية وضمن الأحياء ولكنه في العمق قد يكون ميتا وخارج دائرة الزمن ،بل خارج التاريخ وغير ذي قيمة ،طالما أن حركاته كلها تصب في المآل السكوني العدَمي والمنتهية صلاحيته بنهاية حركته.

ثانيا: الزمن الكوني وتشريفه بفعل الزمن الإنساني :

  إن علاقة الزمن الإنساني بالزمن الكوني من حيث التفاضل والتكامل لهي دقيقة للغاية قد نستلهم بعض جوانبها من خلال نصوص قرآنية وحديثية دالة على ذلك إشارة أو عبارة .

  فأعظم الأزمنة باتفاق العلماء المسلمين هو زمن بعثة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  والذي تناسب مع اكتمال الزمن دورته كإشارة وتفاعل مع الكمال البشري النبوي المحمدي وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: »   إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان ثم قال أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال فأي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلدة قلنا بلى قال فأي يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس يوم النحر قلنا بلى يا رسول الله قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعن بعدي كفارا أو ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال ألا هل بلغت »[5].

  إن تسامي الزمن بتسامي الأعمال قد يعطي لنا دليلا على قيمة الزمن الإنساني حينما يتناسب مع تلك الأعمال ويصبح ذا خاصية متعدية للغير كما نص عليه الحديث في تأسيس قوي للتضامن والتكافل الاجتماعي ودعوة إلى السلم وتفادي الظلم وتخطي الحقوق، وذلك في دائرة وطنية واجتماعية محددة « كحرمة يومكم هذا فيبلدكم هذا في شهركم هذا« .بحيث قد ابتدأ بالزمن وانتهى به باعتباره ممثلا لمسرح الأعمال وميدانا للاختبار.

  وللحفاظ على قيمة هذا الزمن وثروته على سبيل الاسترسال نجد أيضا هذا الحديث المؤسس لخصوصية النجاح وشروطه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : »يأتي زمان يغزو  فئام من الناس فيقال :فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال :نعم .فيفتح .ثم يأتي زمان فيقال:فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقال:نعم.فيفتح،ثم يأتي زمان فيقال :فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟فيقال:نعم ،فيفتح« [6]..

  ومن نماذج قسمة الزمن الكوني وارتباطه بالزمن الإنساني نجد ليلة القدر باعتبارها الزمني والروحاني خيرا من ألف شهر .وهي بهذه القيمة قد أصبحت تمثل فرصة استثمار  كله ربح  مضاعف إلى ما لانهاية ،وهي قد أخذت هذه القيمة بحسب ارتباطها بالزمن الإنساني المتميز وهو زمن الأمة المحمدية وكمال الاعتقاد لديها ونوعية الأعمال المنوطة بها ،وإلا فليلة القدر قد كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فكان الربح فيها محدودا بحسب الإنسان الموجود عندها ونوعية استثماره لها.

   بل حتى في الأمة الإسلامية سنجد التفاوت في هذا الاستثمار لهذه الفترة الزمنية المحدودة وذلك بحسب نوعية التوجه والنوايا التي تنبعث بها النفوس نحو العمل والحركة في إطار زمني معين.

  فهناك من يقوم من أجل ليلة القدر وقوفا مع الليلة كزمن ومع الأجر كثمن، وهذا فيه حظ النفس ورؤية الذات والأعمال التي قد يداخلها غرور وعجب، وبالتالي فيكون الربح محدودا ومحاسبا.وهؤلاء قد يسمون بالأجراء.والأجر يكون بحسب العمل.

  لكن قد يوجد من يقوم الليلة لأجل الاسم الذي أقامه رمضان أو غيره ،أي أنه يقوم بالامتثال لله تعالى ومراعاة اسمه الإله المستحق للعبودية من غير طمع  في أجر ولا لأغراض نفسية أو حتى روحية كما ذكر الله تعالى صنفا من العباد الذين يقومون بعمل التكافل الاجتماعي المطلق: »ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا »[7].

  وفي التمييز بين العملين يطرح موضوع بالغ الأهمية وهو محور الأعمال في الإسلام ومركز التكامل والتكافل الحقيقي المؤدي إلى الربح الذي ما بعده ربح ،ألا وهو مسالة الإخلاص في الأعمال وتحديد النوايا قبل تأسيس الجمعيات والمنظمات وتقنين القوانين .

 وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم :إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى« [8]الحديث.

  وحول عمق هذا الموضوع نجد بعض التعاريف في الفكر الإسلامي كحكمة ابن عطاء الله السكندري : »الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها« ويقول أبو القاسم القشيري في المفاضلة بين العملين : »فالعمل لله يوجب المثوبة والعمل بالله يوجب القربة ،والعمل لله يوجب تحقيق العبادة والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة والعمل لله نعت كل عابد والعمل بالله نعت كل قاصد ،والعمل لله قيام بأحكام الظواهر والعمل بالله قيام بالضمائر« .

  وهنا نقف عند الآية الكريمة « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات » للإشارة إلى أن الذين آمنوا جاؤوا هنا بغير تحديد لموضوع الإيمان مع العلم أنه بالضرورة قد يسبق إلى الذهن مسألة الإيمان بالله تعالى والإيمان بكتابه وبرسوله محور الربح والفلاح ،ومع هذا الإيمان فإنه لزوما ينبغي الإيمان بالعمل الذي ينوي القيام به والقناعة به كل القناعة حتى يزكو وينمو ويثبت.إذ كل عمل لا نؤمن بنتائجه وثمراته قد لا يعطي نتيجة كاملة ومستمرة يصدقها أو يكذبها الزمن كمختبر للأعمال والنوايا كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : »ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان بما وقر في القلب وصدقه العمل « .

 فشرط العمل الصالح هو الإيمان به من كل جوانبه والاقتناع ببعده ونتائجه،وهذا مما قد يتناسب مع مبدأ الأهداف في النظام والمنهج التربوي أو البيداغوجي حتى يصبح فعالا وناجحا.

  وحينما يتحقق هذا الشرط النفسي والروحي للعمل فإنه سيتشكل بحسب باعثه ومحركه ،ومن ثم فقد جاء مقرونا بوصف حميد وليس بجامد ،أي أنه نعت بالعمل الصالح الذي هو ضد الطالح،وعند تلبس العمل بهذا الوصف فإنه سيكون قد مثل استثناء من الخسران العام الذي يلاحق الإنسان حينما لا يستثمر الزمن على وجهه الأحسن والأجمل .

  لا أريد أن أطيل في تحليل مفهوم العمل الإنساني في دائرة الزمن واستثماره كعمق فكري وقاعدة عقدية صابغة للسلوك الفردي والجماعي وأوجه التواصل والتكافل،ولكن حسبي أني قد نبهت إلى أن تناول مبدأ التكافل الاجتماعي من الوسط أو الذنَب قد تكون نتائجه عكسية ولغته خشبية إلى أبعد حد ،لغاية أنه سيتحول مفهوم التكافل إلى معنى التواكل أو التآكل، أي قضم الذات والآخر تحت شعار الأعمال الخيرية والتطوعية وما إلى ذلك، ولكن في الحقيقة قد تصير إلى غايات نفعية ووصولية انتهازية لا غير ،وما أكثر هذه الصور وأخبارها في عصرنا الحالي !!!

ثالثا: التكافل رهن التواصل والتواصل أساس التكامل

  كقاعدة نفسية واجتماعية أو إن شئنا قلنا أنتروبولوجية فإن مبدأ التواصل البشري عامة يقتضي لغة ضرورية ولغة اصطلاحية أي لغة زمانية ولغة فطرية غريزية .

  وعلاقة اللغة بالزمن الإنساني هو أنه هو الذي صاغها بحسب أوجه التواصل بين أفراد مجتمع ما ،ومن ثم تنوعت اللغات وتعددت اللهجات وكانت آية من الآيات التي منَّ الله بها على الإنسان وجعلها وسيلة لتحقيق التواصل وتحديد قاعدة التكافل كما يقول الله تعالى: » ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين « [9].

  فاختلاف الألسنة باختلاف الألوان ،أي ألوان الحياة والظروف والأوطان والمعاشات وليس مجرد اختلاف اللهجة والبشرة .فقد تتعدد الألوان واللغة واحدة ويتحد اللون واللغات متعددة ،لكن تعدد اللغات قد يأتي بحسب المعطيات الواقعية وطبيعة التواصل ومستويات التقارب فيما بينهم وإن اختلفت لهجاتهم وهم في وطن واحد وتحت سقف واحد.

  لهذا فالاصطلاح اللغوي هو نتيجة تواصل وضمان لاستمراره وانتظامها ثم بعد ذلك تبادل المصالح والمنافع بواسطته.

  يقول ابن حزم الأندلسي في هذا الصدد: »والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه من عمل المصطلحين وكل عمل لابد من أن يكون له أول فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليها ،فهذا من الممتنع المحال ضرورة« [10]..

  ولمحدودية مردودية اللغة اصطلاحية واستهجان تضييع الزمن الإنساني في توسيعها والتشدق بها لحد أن تصبح لغة غير تواصلية بمعنى الكلمة، نظرا لما يكتنفها من تعقيد وتلفيق وتصفيق،يقول أبو حامد الغزالي عن أصحاب هذا الاجترار: »وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين والسنة بعلم النحو واللغة فأفنوا أعمارهم في دقائق النحو واللغة وذلك غرور عظيم ،فلوا عقلوا لعلموا أن لغة العرب كلغة الترك والمضيع عمره في لغة العرب كالمضيع عمره في لغة الترك والهند وغيرهم وإنما فارقهم من أجل ورود الشرع ،وكفى من اللغة علم الغريب في الكتاب والسنة وأما التعمق فيه إلى درجة لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه ،وصاحبه مغرور« [11].

  وهذا الخطاب ليس موجها إلى العرب وحدهم وإنما إلى كل الشعوب وأصحاب اللهجات المختلفة التي قد يتخذ منها حصان طروادة لقطع التواصل داخل مجتمع واحد،وإهدار الزمن الإنساني في إعادة تشكيل لغات ولهجات على قواعد سريالية وهجينة ليس الهدف منها سوى التقسيم والرمي بمبدأ التكافل الاجتماعي عبر الحائط .

  لأنه حينما ترسخ العنصرية والعصبية فأكيد ستتبعها عنصرية المناصب والمكاسب والمحسوبية واعتبار الآخر ولو كان مدقعا ومحتاجا كأنه غريب عن الوطن ودخيل على المجتمع،وهذا هو أس الشر الذي يتهدد الشعوب العربية خصوصا والإسلامية عموما، بل دول العالم كافة  حيث لا تواصل متكامل ولا تكافل شامل.

رابعا: التكامل المهني والوظيفي أساس التكافل التنموي والتثقيفي

  من المبادئ التي يمكن افتراضها وتشجيعها هو القول بأن لا تكافل حقيقي من غير تكامل اجتماعي، ولا تكامل اجتماعي بدون تبادل وظيفي وتكاتف حرفي ومهني من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي ثم تصريف الفائض في أعمال الخير والبر ومراعاة حقوق الضعفاء والمحتاجين وذوي الإعاقات ومن هم في وضعية صعبة كما يسمونهم إعلاميا وسياسيا.

  فبدون احترام قيمة الوظائف وتكافؤ المهن وتكاملها،مع تقارب الأجور والمستحقات،فلن يكون هناك تواصل حقيقي مبني على أخلاق الإيثار ونكران الذات في خدمة الآخر من غير حظوظ ولا أطماع شخصية أو سياسية.

  هذا الاحترام قد يكون سادا الباب أمام فئة من الناس من ذوي الإعاقة النفسية والخلقية لكي لا يسعوا إلى إفساد كل عمل خيري أو عرقلته ومنعه من التحقيق .

وهذا الصنف قد يعاني من عاهة مستدامة صفتها: »خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى ،فإنك تجد من لا يشتغل برئاسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه،وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به ،فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته ويقال:البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره »[12].

  لهذا فقد كان واجبا على العلماء والمفكرين أن يعملوا على تثبيت مبدأ التكامل الحِرَفي والوظيفي كمقدمة رئيسية لتحقيق التكامل الاجتماعي ومن ثم التكافل بطواعية وسلامة نفس ومحبة لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى.

  وحول هذا الموضوع يقول الغزالي ومن بعدِه ابن خلدون في نظريته عن المدنية والاقتصاد والفائض : »فإن فتشت علمت أن رغيفا واحدا لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع ،فابتدئ من الملَك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال من جهة الملائكة حتى تنتهي النوبة إلى عمل الإنسان ،فإذا استدار طلبه قريب من سبعة آلاف صانع ،كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق ،ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات ،حتى أن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة لا تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمسا وعشرين مرة ،ويتعاطى في كل مرة منها عملا .فلو لم يجمع الله تعالى البلاد ولم يسخر العباد وافتقرت إلى عمل المنجل الذي تحصد به البر مثلا بعد نباته لنفد عمرك وعجزت عنه … »[13]..

  وهذا النص قد أضاف إلينا عنصرا آخر يدخل في حكم ضرورة التكامل ألا وهو التكامل الصناعي شأنه شأن الاقتصادي والاجتماعي الذي يؤدي إلى تحقيق الفائض  ووجود  السيولة النقدية عصب الحياة والمجتمع وبالتالي توفير التكافل الاجتماعي في شكله المريح والمربح.

  فالمال للاستثمار والتوظيف لصالح المجتمع طالما أنه مؤسس على التكامل الذي هو في حقيقته تكافل مبدئي بالرغم مما قد يبدو على الجامعين له كأنهم هم المالكون له بالأصالة ،ولكن عند النظر فهم لم يستطيعوا كأفراد أو حتى مجتمع محدود العدد والوظائف أن يوفروا خبزة أو يصنعوا إبرة بمعزل عن العالم وتكامل الشعوب والحضارت واللغات.

  فكنز المال وعدم توظيفه في أعمال البر والخير بمثابة وضع الحاكم في الأسر كما يشبهه بعض العلماء ،كما أن المال ليس له انتساب إلى أحد سوى أنه وسيلة للتواصل والتكامل والتكافل من أجل تحقيق الأغراض والأرباح المباشرة عوض الخسران كما دلت على ذلك سورة العصر وأسالت لنا القلم لكتابة هذه السطور المتواضعة.

  وبهذا جاء الشرط لحماية الفرد والمجتمع من الخسران الدنيوي والأخروي معا ولتقنين الوظائف وتحديد الحقوق العينية والمعنوية في تراتبها وتشارطها بين الحاكم والمحكوم وصاحب المال والمعدَم والمعطي والآخذ وذلك في قول الله تعالى: »وتواصوا بالحق » الذي هنا قد جاء بصيغة العموم شأنه شأن العصر ومقتضياته وتنزيلاته.

  في حين أن الشرط الأساسي لحماية الحقوق والثبات على رعايتها سيكون هو مبدأ الصبر  الذي هو « نصف الإيمان » في قول الله تعالى: »وتواصوا بالصبر« .

  باعتبار الصبر خلقا أساسيا لتحقيق العبور وتيسير الوصول واستمرار التواصل، وهو مختبر الرجال وبواسطته تتفاضل الأقوال والأعمال.قال أبو يزيد البسطامي:ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ.قدم علينا حاجا فقال لي:يا أبا يزيد:ما حد الزهد عندكم؟ قلت إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا .فقال:هكذا عندنا كلاب بلخ !فقلت له:وما حد الزهد عندكم ؟ قال:إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا« .

  وما هذا المعنى إلا نموذجا مقتبسا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته  في باب التكافل والتكامل وحسن التواصل فكان منهم من  » يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة« [14]. » ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة و الكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون« [15]..صدق الله العظيم مؤلف القلوب وخالق الإنسان في أحسن تقويم .

[1]  سورة الأحزاب آية 72

[2] سورة الأنعام آية 122

[3] سورة الأنفال آية 24

[4] رواه البخاري

[5] رواه مسلم

[6] رواه البخاري في كتاب الجهادوالسير

[7] سورة الإنسان آية 8-9

[8] رواه البخاري ومسلم

[9] سورة الروم آية 22

[10] ابن حزم: الأحكام في أصول الإحكام ج1ص29

[11]  الغزالي: الكشف والتبيين في بيان غرور الخلق أجمعين مكتبة الجندي ص 273.

[12] الغزالي :إحياء علوم الدين ج3ص174

[13]  الغزالي:إحياء علوم الدين ج4ص104

[14] سورة الحشر آية 9

[15] سورة البقرة آية 177

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.