Home»International»تهافت فكرة فصل الدين عن بعض شؤون الدنيا

تهافت فكرة فصل الدين عن بعض شؤون الدنيا

0
Shares
PinterestGoogle+
 

تهافت فكرة فصل الدين عن  بعض شؤون الدنيا

محمد شركي

استوقفني مقال في أحد المواقع على الشبكة العنكبوتية تضمن بعض الإحصائيات المتعلقة باستجواب أجرته جهة ما في الشرق الأوسط  بخصوص فكرة فصل السياسة عن الدين ، وقد نسبت هذه الجهة  أعلى نسبة  في هذه الإحصائيات إلى الفئة التي تقول بهذا الفصل . ومعلوم أن فكرة فصل السياسة عن الدين فكرة وافدة على المجتمعات الإسلامية من المجتمعات الغربية التي كان الدين فيها مستغلا من طرف الرهبان الذين كان شغلهم الشاغل هو جمع الأموال والثروات، فضلا عن كون التحريف الذي لحق الكتاب المقدس كما يشهد بذلك القرآن الكريم كان يحول في وقت ما دون انتقال المجتمعات الغربية من وضعية التخلف إلى وضعية التطور، وهذا ما جعل الإنسان الغربي يثور ضد الدين ويفصله عن الحياة بكل مظاهرها ، وهذا  أيضا ما جعل العلمانية تهيمن على المجتمعات الغربية  التي كان يهيمن عليها الدين المنحرف عن تعاليم السماء. ومع أن قياس الإسلام على المسيحية قياس خاطىء ، فإن بعض المنتسبين إلى الإسلام ـ والله أعلم بصدق انتسابهم إليه ونواياهم  ـ يصرون على فكرة فصل الدين بما في ذلك الإسلام عن الدنيا، الشيء الذي يعكس  إما سوء نواياهم أو جهلهم الواضح بطبيعة الإسلام الذي هو منهاج حياة لا يمكن استثناء جانب من جوانبها سياسة  كان أو اقتصادا أو اجتماعا من تغطيته وضبطه، ذلك أن الله عز وجل إنما خلق الإنسان للعبادة  أي ليختبره ويمتحنه  وهو يمارس الحياة ، والعبادة  وهي طاعة الخالق سبحانه إنما هي ممارسة الحياة وخوض غمارها  بكل ما فيها دون أن يستثنى منها شيء ، وإلا لا معنى للاختبار والابتلاء ، ولا يستقيم القول أن الله عز وجل يختبر الإنسان في أمور دون أخرى ، ويحصي عليه أمورا دون أخرى ، ويحاسبه عن أمور دون أخرى ، ولا معنى لقياسه سبحانه أعمال الخلق بمثقال الذرة وهو مثقال في منتهى الدقة إذا ما وجدت أمور في  هذه الحياة خارجة عن إطارالمراقبة والمساءلة والمحاسبة أي خارجة عن إطار تغطية الإسلام لها .  ولا نحتاج إلى إثبات تغطية الإسلام لكل جوانب الحياة انطلاقا من شواهد الوحي الناطقة  ، وانطلاقا من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان سلوكه كله  في ممارسته للحياة يوجهه ويحكمه ويضبطه الوحي،ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن عظمة خلقه كما وصفه الوحي :  » كان خلقه القرآن  » ولا يستقيم أن يقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف بالقرآن في أمور من حياته ، ويعطله في أمور أخرى . والتحدي مرفوع  وسيظل كذلك أبدا أمام كل من يزعم أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيها ما يخضع للدين ، وما  لا يخضع له ، وعلى من يزعم ذلك أن يأتي ببينة . ولا توجد وضعية يكون عليها الإنسان في الحياة لا يحكمها الإسلام مصداقا لقوله تعالى : ((  وما تكون  في شأن وما تتلو منه  من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة  في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) . ففي هذه الآية الكريمة لا يريد الله عز وجل مجرد إخبار الخلق بدقة علمه بما يجري في ملكوته ، بل أراد تنبيههم إلى أنه كما يعلم كل شيء مهما دق ، فإنه يحصي عليهم  كل ما يصدر عنهم من أعمال أو  أقوال  مهما كانت ، وهذه الآية كافية وحدها لدحض فكرة فصل الدين عن  بعض شؤون الدنيا . والله تعالى لم يستثن  من شهادته  على ما يصدر من الخلق عملا من أعمالهم حين يفيضون فيه ، وهو يقيس كل ما يصدر عنهم ما صغر منه وما كبر بمثقال الذرة ، وهو أدق مقياس ، الشيء الذي يجعل من المستحيل أن يوجد عمل من أعمال البشر خارج إطار المراقبة  والمساءلة والمحاسبة في دين الإسلام أو خارج التدين ، ولن يقل أي عمل من أعمال البشر عن  قياسه بمثقال الذرة أو أصغر من ذلك .

ولن تكون الأعمال المحسوبة على السياسة خارج المراقبة والمساءلة كما يزعم الذين يقولون بفصل السياسة عن الدين  وهي شأن من شؤون الحياة . ولئن كان قصد من يطالبون بفصل السياسة عن الدين هو عدم استغلال الدين في سياسة لا يضبطها الإسلام فهم على حق ، أما إذا كان قصدهم استثناء السياسة من الخضوع للدين وهو إخراجه من إطار التدين ، فهم  إنما يخبطون خبط عشواء . ونسألهم أين سيصنفون  ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم  من غزو من أجل التمكين للإسلام ، وما أبرمه من معاهدات ، وما أرسله من مراسلات إلى عظماء زمانه ، وهل كان هؤلاء سيقبلون منه ذلك لو لم يكن سياسيا عندهم يمثل دولة ويتحدث باسمها ؟ أليس هذا من صميم العمل السياسي ؟ وهل قام ويقوم الساسة بغير هذا الذي قام به  عليه السلام ؟ أليس إخراجه العرب من مفهوم القبلية إلى مفهوم الأمة عملا سياسيا ؟ ألم يؤسس النبي عليه السلام  دولة  على نفس الأسس التي  قامت وتقوم عليها  كل الدول ؟ إن الإسلام منهاج حياة يحتويها وينظمها ويخضعها لإرادة الخالق جل في علاه ، ويتم ذلك عن طريق الفعل البشري الموجه بالوحي في كل المجالات وفي كل الآفاق ، ولهذا لا يصح أبدا أن يستثنى بعض ما يفعله أو يقوله البشر من التدين. ومخطىء من يعتقد أنه توجد لحظات في حياته بعد بلوغه سن التكليف لا يكون فيها ممارسا للدين أو متدينا ، علما بأن التدين يشمل عبادات ومعاملات ، وأن العبادات وجدت للمساعدة على إنجاز المعاملات على الوجه الصحيح . أليست عبادة الصلاة على سبيل المثال لا الحصر تنهى عن الفحشاء والمنكر ؟ وهل يوجد المنكر والفاحش إلا في المعاملات ؟ أليست الصلاة بهذه الوظيفة موجهة للمعاملات ؟ ولا يستقيم أبدا أن يعتقد الإنسان أنه حين يصلي أو يصوم أو يحج أو يزكي فقط يكون في تدين ، وحين ينصرف إلى أمور الحياة الأخرى يكون خارج إطار التدين ،علما بأن الله عز وجل تعبده بأمور قد يظن أنها لا تدخل في إطار التدين من قبيل أكله وشربه ولباسه ووقاعه … فهل يستطيع الإنسان وهو على دين الإسلام أن يأكل ويشرب ما شاء، ومتى شاء ؟ ألم يمنعه خالقه من الأكل والشرب إذا لم يكن ذلك مما أحل له أو كان مما أحل له ولكن كان كسبه أو الحصول عليه بطريقة غير مشروعة ؟ ألم يتدخل في لباسه  ويأمر بستر ما يجب ستره عند الذكور وعند الإناث ؟ ألم يقنن لهم الوقاع ويضبطه بضابط النكاح المشروع ؟ ويكفي أن نستشهد بحديث واحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنؤكد أنه لا يوجد عمل خارج إطار التدين في دين الإسلام ، ويتعلق الأمر بالحديث المشهور :  » ذهب أهل الدثور بالأجور  » الذي جاء فيه قوله عليه السلام  بعد أن بين بعض أوجه التدين مما يصدر عن الناس من أفعال وأقوال :  »  وفي بضع ـ بضم الباء وتسكين الضاد ـ أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر » .

فإذا كان هذا في الوقاع، فما بالكم إذا كان الأمر سياسة أو اقتصادا أو اجتماعا ؟ إن الأمر في الإسلام يقوم على ثنائية الحلال والحرام ، وهي ثنائية تشمل كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل بل وحتى  ما يكون من خاطر لأن الله عز وجل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . وقد يكون الفعل واحدا كالوقاع على سبيل المثال ، فيصدر من شخصين أحدهما يؤجر عليه لأن الأمر يتعلق بنكاح شرعي ، والآخر يحاسب عليه لأن الأمر يتعلق بسفاح . وهكذا يغطي الإسلام الحياة البشرية بكل تفاصيلها الدقيقة ، وهو بذلك منهاج حياة وليس مجرد طقوس كما هو الشأن في ديانات وضعية أو ديانات سماوية طالها التحريف .  ومن المعلوم أن الغربيين إنما نادوا بفصل السياسة عن الدين لأن الرهبان عندهم كما مر بنا كان همهم جمع الأموال والثروات، وذلك باستغلال الدين حتى بلغ بهم الأمر حد الارتزاق بما يسمى صكوك الغفران ، والغربيون محقون في مطالبتهم بفصل السياسة عن الدين لهذا السبب . ويعذر بعض المسلمين أيضا حين يتابعون الغربيين في المطالبة بفصل السياسة عن الدين وهم يرون استغلال الساسة والمحسوبين على الدين  للدين  لخدمة مصالحهم . ألا يستعل النظام الشيعي  في إيران  وهو نظام ولاية الفقيه على سبيل المثال لا الحصر الدين لجمع الثروات والأموال تحت ما يسمى بالخمس ، وهو أمر يقدم لبسطاء الشيعة ومغفليهم على أنه من صميم التدين ؟.ألا تستغل الطرق الصوفية  وهي على صلة بالأنظمة من يخضع لها من بسطاء ومغفلين لنهب أموالهم أيضا ؟ وعلى غرار ذلك تستغل جماعات محسوبة على الدين أتباعها وتفرض عليهم دفع أموال لها باسم الدين .  وفي المقابل تستغل الأنظمة الدين لتبرير ما تسوس به شعوبها مما لم ينزل به الله عز وجل سلطانا ، وهو ما يجعل البعض يطالب بفصل السياسة عن الدين ، وهو  ما تطالب به هذه الأنظمة أيضا والتي تستأثر وحدها بتوظيف الدين لخدمة مصالحها وسياساتها  . وأخيرا نقول إن فكرة فصل الدين عن بعض شؤون الدنيا فكرة متهافتة سواء كانت صادرة عن أفراد أو عن جماعات وأحزاب  وهيئات أو عن أنظمة .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.