Home»International»إنهم يحتفلون بسقوطنا

إنهم يحتفلون بسقوطنا

0
Shares
PinterestGoogle+
 

أحمد الجبلي
لقد درفت الدموع وأنا أتتبع احتفالات إسبانيا بسقوط غرناطة، وعندما تساءلت مع نفسي لماذا بكيت، لماذا أحسست بغصة حارقة تخترق الحلقوم، لم أستطر أن أجد جوابا  خارج سياق الهوان والذلة والنكوص والتردي عما كنا عليه في الأندلس.
ففي الوقت الذي يستهزئ بنا الوحوش قتلة الثيران البريئة ويتلاعبون بتاريخنا تاريخ المجد والعزة والكرامة والعلم والصناعات المبهرة، لازلنا نحن نحصي أرقام أحذية لاعبيهم، وربما سفكنا دماءنا في المقاهي تعصبا لفقاقيع فارغة لا تجدي نفعا غير تدمير عقولنا وشحنها بثقافة السقوط والهزيمة.
نعم لقد بكيت لأنني متيم بقراءة تاريخ الأندلس المجيد، تاريخ أجدادي الفاتحين، تاريخ الحضارة في أبهى معالمها وتمظهراتها،  تاريخ الإنعام على الآخر كي يعيش معنا وفي أحضاننا كيفما يحلو له دون أن تمس شعرة في رأسه، أو ينظر إليه نظرة دونية تشعره أنه ليس في وطنه، أو يُكرَه على فعل شيء، أو يُنتقَصَ من قدره، أو تباع له سلعة معيبة، أو يغلق دونه باب المسلمين إن هو كَل وتَعبَ واحتاج وافتقر، تاريخ الصفحة الوحيدة التي مزقت من التاريخ بعدما أعطت النموذج الذي لن يستطع الغرب الصليبي أن يحذو حدوه، أو يحاكي ظله، أو يستنسخ نضيره، تاريخ التسامح والعيش المشترك والحرية والعيش الرغيد، تاريخ تأسس على فرادة تعدد الملل والنحل ووحدة الوطن، تاريخ المدن الوحيدة عبر كل الأزمنة التي يسير الناس في أزقتها حيث تلتقي الكنيسة بالدير والمسجد، تاريخ الجسد الديني الواحد الذي جمع بين اليد المسيحية والرجل اليهودية والصدر الوثني ولكن بعقل مدبر مسلم،  ولن يمنعني أحد من أن أبكي على الأطلال في وقت ممارسة الإسباني لخيلائه الفارغ، وتصنعه الانتصار المزعوم.
أعرف أن مصدر هذا الاحتفال وبهذه الطريقة المهينة، أتى مما علموه ودرسوه في مقرراته الدراسية وفي جامعاته التي لازالت أسماء أجدادي منقوشة على جدرانها، أعرف أنهم قد علموه أن طارق بن زياد أحرق السفن كي يستروا عورتهم، ويمحوا عارهم، و يختلقوا  لهم مبررا في اندحار أعتى ملوك أوربا الطاغية « لوذريق » بجيشه العرمرم الجرار وجحافله المائة ألف التي انكسرت بعدما ارتطمت بصخرة الأشاوس وهم لا يتجاوزون بضع عشرات من الآلاف. هل يعلم هؤلاء المتعجرفون الإسبان الذين يغذون أطفالهم بهذا الاحتفال كل معاني الكره والعداوة والحقد، أننا لم ندخل بلادهم غزاة معتدين، ولا حتى فاتحين وإنما دخلناها  في حقيقة الأمر محررين، ألم ينقلب الدكتاتور لوذريق على ملكهم الحقيقي غيطشة فقتله واستولى  على أزيد من 3000 ضيعة من ضيعاته وعلى أمواله خيراته، فسام الشعب الإسباني سوء العذاب، فاغتصب النساء منهن ابنة حاكم سبتة يوليان، فأثقل كاهلهم بالضرائب، وأطلق العنان لشح المؤن والغذاء. ألم يدرسوهم أن هناك كان إخوانهم يموتون جوعا وقمعا وبطشا، ألم يدرس هؤلاء الإسبان أن جميع مدن الأندلس فتحت أبوابها في وجه المسلمين ففرحوا واستبشروا إلا المدن التي كان يتواجد فيها جيوش الطاغية الظالم لوذريق. ألم تكن أول مدينة دخلها المسلمون هي إشبيلية؟ ألم تفتح أبوابها فأمن الناس فيها على أموالهم وأنفسهم واحتفظوا بدينهم وكنائسهم، بل ووجدوا في المسلمين ما لم يجدوه في بعضهم البعض، وحينها فقط اطمأنوا وأمنوا وارتاحوا من البطش والطغيان والقتل والتشريد.
ألم تتحول بلادهم بفضل المسلمين إلى مهد الحضارة العالمية، وقبلة القوافل التجارية، والبعثات الدبلوماسية، ألم تتحول بلادهم إلى مراكز العلم والمعرفة وموطن أكبر مكتبات العالم في الوقت الذي كانت أوربا تعيش فيه قمة الجهل والأمية، في الوقت الذي كان الأوربي يضطر لتقديم خمسة خرفان للكنيسة كي يرى بعينه فقط خمس ورقات  في  وضع الحراسة المشددة وليس له الحق حتى في لمسها، ألم تعرف بلادهم بفضل المسلمين آلاف الحمامات في الوقت الذي كان لايزال الأوربي يعتقد أن تراكمات الأوساخ في جلده عبادة يتقرب بها إلى ربه؟ ألم يحول المسلمون ليل شوارع الأندلس إلى نهار بفضل المصابيح في الوقت الذي كانت أوربا تعيش الظلام الدامس؟ وهل يعلم هؤلاء المحتفلون الراقصون على جراحنا بأن فضلنا عليهم لازال مستمرا وسيستمر..ألا يعلمون أن بركات أجدادنا لازالت تذر عليهم بأزيد من 48 مليون سائح سنويا؟ فلماذا يأتي هؤلاء الزوار من كل بلاد العالم؟ أعتقد أنهم يعرفون جيدا أنهم لا يأتون لرؤية الإسباني وهو يمارس جبنه ويبرز عضلاته بذبح الثيران البريئة، وإنما يأتون  ليروا آثار العظمة، والإبداع العمراني، والنقوش الهندسية التي نقشت وفق معادلات رياضية وفلكية، ويروا ليفتحوا أفواههم أمام لغز كيف تشتغل الساعة بالماء، ولماذا هذه المجاري والسواقي لا تتعفن ولا تلتف حولها الحشرات؟ ولماذا عندما كانت تقف الوفود في باحة القصر كانت قلوبهم تمتلئ رهبة من الملك فكيف وظفوا الإضاءة ونور الشمس في اندماج مع الفسيفساء في نسق فريد عجيب، كي لهذا الانسجام العمراني الأخاذ أن يمنح الهبة والعظمة ويزرع الخوف والرعب في الوافدين؟
إنهم حتما يأتون لتملؤوا جيوبكم بفضل تاريخنا وما تركه أجدادنا، ولكن سنعترف لكم بواحدة انهزمنا فيها أمامكم أيما هزيمة، وهي أنكم فعلا لازلتم تتحكمون في شبابنا وفينا لا من خلال عمران ولا فن ولا تاريخ ولاعلم ولا أمجاد وإنما بفضل كرة يكفيها دناءة وخسة أنها ملأى بالهواء.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.