Home»International»رسائل من التاريخ: أبتي الحبيب (1)

رسائل من التاريخ: أبتي الحبيب (1)

1
Shares
PinterestGoogle+
 

أحمد الجبلي
من المؤكد أن عالم القراءة عالم فريد، ممتع، مميز، خصوصا قراءة التاريخ وتراث الأجداد العظام، إذ يمكن وصفه بما لا يحصى أو يعد من الأوصاف، فيمكن مثلا أن نسميه رحلة مشوقة عبر الزمن في اتجاه كل مكان، كما يمكن تسميته بالغوص في أحلى أنواع العسل حيث تأبى الخروج ورفع الرأس نظرا لما تجده من شهد المعرفة ونور الحكمة ولطائف التجارب الرائعة التي دونت بمداد من ذهب. كما يمكن تسميتها بأنها عملية حجز لمقعد في قاعة لا محدودة من أجل المشاهدة والاطلاع على أصل الجينات الحقيقية التي تجري في عروقنا، حيث  إن هؤلاء العظماء الذي صنعوا هذا التاريخ هم أصولنا وأصول جيناتنا، حتى أن أسماءنا لا تختلف في شيء عن أسمائهم، وأياديهم كانت متوضئة بنفس المقدار من الماء الذي لازلنا نتوضأ به،  إن القراءة تعد وسيلتنا الوحيدة لربط الاتصال بهم ومساءلتهم، والتتلمذ على أيديهم، ومعرفة كل شيء عنهم.
إن القراءة بمعنى آخر هي فتح الباب أمامهم ليحكوا لنا ما قالوه وما فعلوه وما أنجزوه، أن يحكوا لنا عن أحلى ما قدموه لهذه البشرية، وأن نبقى ممعنين في الإنصات والتدبر والفهم، لأن هذا الفهم عنهم هو البوابة الوحيدة التي تخول لنا أن ندخل من جديد إلى المجد والرقي والحضارة.
ولقد ٍارتأيت أن أستلهم من تاريخ أجدادنا فقط الرسائل التاريخية العظيمة التي تحمل دلالات واسعة تتحدث عن واقع العظمة والقوة وقمة الإبداع والمعرفة.
أولى هذه الرسائل رسالة أرسلها شاب مريض في إحدى مستشفيات أمتنا العربية الإسلامية أيام الأندلس قبل عشرة قرون من الآن، وهذه الرسالة عثرت عليها المستشرقة الألمانية الكبيرة والمنصفة لتاريخ وأمجاد أجدادنا زيغرد هونكه، فضمنتها كتابها الشهير « شمس العرب تسطع على الغرب » تحت عنوان:  » مستشفيات مثالية وأطباء لم ير العالم لهم مثيلا »
إن هذه الرسالة، ككل الرسائل التي سنتناولها، إنما نبتغي بها أن تصل لمسلمي هذا العصر كي يعرفوا أن الطريق الوحيد الذي جعل من أجدادنا عظماء وأقوياء ولهم بصمات لا تمحى من التاريخ إنما فعلوا ذلك بالمعرفة والعلم وليس بأي شيء غيرهما، وهذه الرسالة تتحدث بشكل عجيب عن المستشفيات والخدمات وطرق التسيير التي كانت سائدة حينها مما يثير العجب والاستغراب، ويوحي لنا أن عجلة الزمن تدور بالمقلوب، لأن أجدادنا قد سبقونا بآلاف السنين تطورا وازدهارا ورقيا وإبداعا.  وإليكم الرسالة:
أبتي الحبيب :
تسألني إن كنتُ بحاجة إلى نقود، فأخبرك بأني عندما أخرج من المشفى سأحصل على لباس جديد وخمسِ قطع ذهبية، حتى لا أضطر إلى العمل حال خروجي مباشرة، فلستَ بحاجة إذن إلى أن تبيع بعض ماشيتك، ولكن عليك بالإسراع في المجيء إذا أردت أن تلقاني هنا.
إني الآن في قسم معالجات تشوهات المفاصل والعظام ( orthopadie) بقرب قاعة الجراحة وعندما تدخل من البوابة الكبيرة، تعبر القاعة الخارجية الجنوبية وهي مركز الإسعافات الأولية  العامة ( poliklinik) حيث أخذوني بعد سقوطي، وحيث يذهب كل مريض أولَ ما يذهب لكي يعاينه الأطباء المساعدون وطلابُ الطب، ومن لا يحتاج منهم إلى معالجة دائمة في المستشفى تعطى له وصفته فيحصل بموجبها على الدواء من صيدلية الدار.
وأما أنا فلقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحممني حماماً ساخناً وألبسني ثياباً نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائراً نحو اليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الجراحي مروراً عابراً.
فإذا سمعت موسيقى تنبعث من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها ، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النقه (النقاهة) حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.
واليوم صباحاً، جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه، ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئاً لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحاً وبوسعي الخروج قريباً من المشفى صحيح الجسم معافى.
إني والله لكاره هذا الأمر، (أي الخروج من المستشفى) فكل شيء هنا جميل للغاية ونظيف جداً: الأَسِرَّة وثيرة وأغطيتها بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المشفى تجد الماء جارياً فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تُدفأ كلُ الغرف. وأما الطعام فحدّث عنه ولا حرج، فهناك الدجاج أو لحم الماشية يُقدم يومياً لكل من بوسعه أن يهضمه.
إن لي جاراً ادّعى المرض الشديد أسبوعا كاملاً أكثر مما كان عليه حقيقةً، رغبةً منه في التمتع بشرائح لحم الدجاج اللذيذ بضعة أيام أخرى، ولكن رئيس الأطباء شك في الأمر وأرسله بالأمس إلى بيته بعد أن اتضح له صحةُ المريض الجيدة بدليل تمكنه من التهام دجاجة كاملة وقطعة كبيرة من الخبز وحده .
لذلك تعال يا أبتي وأسرع بالمجيء قبل أن تحمّر دجاجتي الأخيرة.
هكذا إذن كانت مستشفياتنا قبل ألف سنة، أنموذج من الإنسانية والإتقان في العمل والاهتمام بالمرضى في أبهى الصور، وأي مريض يدخل هذا المشفى حتما سيأبى الخروج !! ولذلك من الطبيعي أن يتمنى كل إنسان ويدعو على نفسه أن يصيبه المرض ليحضى بالدخول لمستشفى كهذا،  إن واقع مستشفياتنا في القرن الواحد والعشرين الميلادي جعلنا ندعو بشكل معاكس تماما، إذ جعلنا ندعو من أعماق قلوبنا على مستشفياتنا قائلين: (لهلا يدي لتمة شي مسلم)؟؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.