Home»International»دلالة الاستعمار في القرآن الكريم

دلالة الاستعمار في القرآن الكريم

2
Shares
PinterestGoogle+

لفظة استعمار قد تثير اشمئزاز بعض النفوس ، ولكنها في كتاب الله عز وجل أبعد ما تكون عن إثارة الاشمئزاز ، بل هي لفظة محببة للنفوس ، تدل على أكبر نعمة أنعم بها الله عز وجل على الإنسان . وقد وردت في قوله جل من قائل : (( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها )) . ففعل استعمر في هذه الآية الكريمة ، المزيد بحروف زيادة تفيد الطلب يحيلنا على أصله ،عمر ، يعمرـ بكسر الميم وضمها ـ عمرا وعمارة يعني عبد ، وخدم ،وأطاع . فقولنا : عمر فلان ربه بمعنى عبده بصلاة وصيام وغيرهما . والعمر ـ بتسكين الميم وتحريكها بالفتح ـ هو الدين ، لهذا يقسم به فيقال : لعمري ، ولعمر الله ، وعمر الله أي أقسم بديني ودين الله . والعمر ـ بضم العين وتسكين الميم ـ يطلق على مكان العبادة سواء كان مسجدا أم غيره . والعمار ـ بتضعيف الميم وفتحها ـ المتدين القوي الإيمان . فالآية الكريمة بقدر ما تدل على إسكان الله عز وجل الإنسان في الأرض التي خلق من ترابها ، فإنها تدل على أن الغاية من خلقه منها وفيها هي العبادة التي هي مجموع الطاعات المتضمنة في الدين .

ويكون المعنى الوارد في الآية الكريمة إلى جانب الدلالة على السكن في الأرض والإقامة هو طاعة الله عز وجل . وبهذه الدلالة يكون المفهوم من الآية أن الله عز وجل أنشأ البشر من الأرض ، وطلب منهم التدين أي الطاعة في الأرض. وطاعة الله عز وجل في الأرض عبارة عن تحقيق إرادته جل شـأنه فيها . ومن إرادة الله عز وجل أن توجد الحياة ، وتستمر ، وتستقيم ، ومن مقتضيات وجودها واستمرارها واستقامتها سعي الإنسان فيها وفق إرادة الخالق جل شأنه. وإرادة الله تعالى أن يكون سعي الإنسان في الأرض منسجما مع طبيعة خلقها التي هي الخضوع للحق لقوله تعالى : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق )) فالله عز وجل الحق أي الموجود لذاته أزلا وأبدا كل ما أوجده هو حق ، ولا وجود لباطل فيما أوجد . والله تعالى الذي استعمر الإنسان في الأرض أي طلب منه التدين من خلال طاعات حددها له لا يقبل منه سعيا باطلا ، فهو سبحانه يقذف بالحق على كل سعي باطل فيدمعه ويزهقه . وكل سعي صادر عن الإنسان لا يحترم النواميس الإلهية الضابطة لما أوجد الله تعالى بحق يعتبر باطلا يكون الإنسان مسؤولا عنه أمام خالقه يوم القيامة. والملاحظ أن كل ما تعاني منه البشرية من مشاكل ومتاعب ومصائب إنما مصدرها ملابسة الباطل لسعي الإنسان في الأرض ، وهو باطل يتسلط على الموجودات التي أوجدها الله عز وجل بحق لتشويهها ، أو إحلال الباطل محل ما وراءها من حق .

وعليه فالاستعمار هو الدين الذي تعبدنا الله عز وجل به في الأرض لتوجد فيها الحياة ، وتستمر ، وتستقيم على الحق الذي خلقت عليه . والدين إنما هو مجموع الطاعات سواء تعلق الأمر بطاعات العبادات أم بطاعات المعاملات . لقد استغرب الملائكة الكرام إرادة استعمار آدم وذريته في الأرض ، مع وجود طبيعتهم المفسدة أي مع احتمال إحلالهم الباطل محل الحق في هذه الأرض ، وهو ما نقله لنا القرآن الكريم في قوله تعالى : (( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )) لقد أخبر الله عز وجل ملائكته بأنه جعل في الأرض من يخلف غيرهم من المخلوقات ويقوم مقامها ، فاستغربوا أن يكون من الإنسان الإفساد فيها أي إحلال الباطل فيها محل الحق ، خصوصا وأنهم لا يعرفون إلا الطاعة التامة الكاملة التي عبروا عنها بالتسبيح والتقديس.

وقد نبههم الله تعالى إلى أن علمهم قاصر على ما علمهم ، وكان مبلغ علمهم أن العبادة تقتصر على التقديس والتسبيح بينما جعل الله تعالى عبادة الإنسان فضلا عن التسبيح والتقديس الذي تعرفه الملائكة السعي في الأرض لتوجد الحياة وتستمر وتستقيم . وهكذا تزيد عبادة البشر على عبادة الملائكة بشطر المعاملات فضلا عن شطر العبادات ، ذلك أن الملائكة لهم طبيعة تختلف عن طبيعة البشر ، فهم لا يتناسلون ولا يأكلون ولا يشربون … لهذا لا يحتاجون إلى سعي وكد كما يحتاج البشر إلى ذلك من أجل الوجود ، ولهذا كانت عبادتهم قاصرة على التسبيح والتقديس ، بينما تشمل عبادة البشر التسبيح والتقديس بكيفية تختلف عن كيفية الملائكة ، وتناسب طبيعتهم إلى جانب عبادة السعي والعمل من أجل المحافظة على وجود الحياة واستمرارها واستقامتها. فالله عز وجل جعل كل ما يتعلق بحياة الإنسان محكوما بالحق ، فتناسل الإنسان عندما يحكمه الحق يكون عبارة عن نكاح شرعي ، وعندما يحكمه الباطل يصير زنا محرما ، وأكل وشرب الإنسان عندما يحكمهما الحق يكونان عبارة عن أكل وشرب طيبين حلالين ، وعندما يحكمهما الباطل يصيران خبيثين محرمين .

وعلى هذين الحالين تقاس كل الأحوال التي يكون عليها الإنسان . ولهذا تعبد الله الإنسان واستعمره في الأرض ليكون سعيه فيها متناسقا مع الخلق الحق لهذه الأرض وللسماء التي تظلها وما بينهما ، ولا يكون سعيه فيها باطلا ، يوهم بأنها مجرد لهو ولعب . إن مفهوم الاستعمار في القرآن لا يقف عند حد الدلالة على الحلول والإقامة في الأرض بل يتعداه إلى الطاعة والتدين أي السعي المضبوط وفق إرادة الله عز وجل التي أساسها الحق لأن مصدرها الحق .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. ابو علي
    20/03/2010 at 14:31

    لقد سبقك الى هذه الفكرة المجاهد والمثقف الجزائري مولود ابت بلقاسم حين اشار الى عدم تطابق معنى مفردة الاستعمار لغويا مع معناها الاصطلاحي واقترح استعمال بدلها مفردة الاستضمار

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *