Home»International»البانثيون.. أو مرقد العظماء..!!

البانثيون.. أو مرقد العظماء..!!

0
Shares
PinterestGoogle+

المختار عويدي
سررت اليوم وسعدت باكتشاف وزيارة صرح عملاق، ومعلم جبار، يقع في عمق الحي اللاتيني العريق، في الدائرة الباريسية الخامسة، في مكان تحيط به مؤسسات علمية وثقافية وسياسية ودينية وترفيهية تاريخية كبيرة وراقية، من قبيل مكتبة سانت جنفييف التاريخية Bibliothèque Sainte Geneviève، وكنيسة Sainte Étienne de Mont وكلية القانون… وغير بعيد جامعة السوربون التاريخية، ومنتزه لوكسمبورغ..
إنه البانثيون Panthéon (لفظة إغريقية، تعني « كل الأرباب ») ..! نصب هائل، بني ليكون كنيسة للقديسة جنفييف Sainte Geneviève، ولكن انتهى به الأمر، ليصبح مرقدا لعظماء فرنسا وأبنائها الأبرار، من مفكريها، وفلاسفتها، وأدبائها، وسياسييها، وعسكرييها.. الذين قدموا لوطنهم خدمات جليلة، بأريحية ونكران ذات.
شيد المبنى ليكون مكان صلوات وطقوس دينية، بقرار من ملك فرنسا لويس 15، لكنه تحول بقرار من ممثلي الشعب بعد الثورة، إلى محراب لاعتراف الوطن بعظمائه من أبنائه الأبرار، ومكان لتكريمهم وتعظيمهم وتخليد أسمائهم وذكراهم في التاريخ.
شيد لتقرع فيه الأجراس، وتعلو أصوات تراتيل المؤمنين المسيحيين، وصلواتهم وتضرعهم، فإذا به يتحول إلى فضاء تحلق فيه أرواح الفلاسفة، والأدباء، والمفكرين، ورجال السياسة والجندية.. ممن حملوا بين جوانحهم حب الوطن .. تنثر في المكان عبق إبداعاتهم الأدبية، وإنجازاتهم العلمية، وعطاءاتهم الفكرية والفلسفية، ومجدهم السياسي والعسكري،..
ظهر هذا الصرح إلى الوجود فوق تصاميم المهندس المعماري جاك جيرمان سوفلو J. Germain Soufflot عام 1764 بقرار من لويس 15 ككنيسة للقديسة جنفييف، وشرع في تشييده في عهدي لويس 15 ولويس 16، قبل أن تندلع الثورة الفرنسية، ويتخذ ممثلو الأمة في الجمعية التأسيسية في 4 أبريل 1791، قرار تحويل هذا المبنى الشامخ إلى نصب تذكاري، تكريماً لعظماء فرنسا. فتحول بذلك من كنيسة كاثوليكية، إلى مثوى أخير لرجالات فرنسا الأفذاذ وأبنائها الأبرار، من فلاسفة ومفكرين وعلماء وأدباء وسياسيين وعسكريين..
ورغم عمليات المد والجزر التي شهدتها وظيفة هذا الصرح خلال القرن 19، بين الوظيفة الدينية والدور الثقافي الوطني، فقد استقر الأمر به، بعد وفاة فيكتور هيغو 1885 وإقامة جنازة كبيرة له في باريس، بالحسم في وظيفة البانثيون، بجعله مثوى لعظماء البلاد.
تقرر بناء كنيسة القديسة سان جنفييف فوق هذا المرتفع الجميل Mont Sainte Geneviève، الذي يطل على كل أرجاء باريس، وقد اعتمد المهندس المعماري جاك جيرمان سوفلو في تصاميم بنائه، على نموذج الطراز الروماني الاغريقي. مما أعطى البناء جمالاً ومهابة وروعة. وزاده مهابة وعظمة ووقارا، تحويله إلى هذا النصب الذي أهداه الوطن إلى عظمائه. فبعدما كان من المفروض أن ترفع فوق بواباته وسطوحه الصلبان والأجراس والرموز الدينية المختلفة، فإن الثورة الفرنسية والشعب الفرنسي، شاءا أن ترفع عوضها عبارة كبيرة بليغة، تحمل من الدلالات والرموز والدروس ما تحمل، وهي عبارة : Aux grands hommes la patrie reconnaissante. « الوطن ممتن لرجاله العظام ».
وهي العبارة التي ما أن وقع عليها بصري لأول مرة، وقرأتها واستوعبت معناها ومغزاها العميق، وأعدت قراءتها مرات عديدة، إلا وقد فاضت الدموع سخية من عيناي، من دون أعرف السبب. ربما من فرط عمق دلالاتها الوطنية وحمولتها ومعانيها ومغازيها الكبيرة.
فأن يمتن وطن لأبنائه الأبرار، الذين قدموا له خدماتهم الجليلة وتضحياتهم الجسام، فلعمري أن ذلك يمثل قمة الإعتراف والتناغم والتواصل والذوبان، بين وطن جامع مانع، ومواطنيه الأخيار الأبرار. ودرساً بليغا لكل الطغاة حيثما كانوا ووجدوا، من الذين يغتصبون الأوطان ويصادرونها، ويستعبدون مواطنيهم ويذلونهم، ويخلقون القطائع بينهما. درساً عن كيف تبنى الأوطان البناء الصحيح، وكيف تنسج العلاقات السليمة الصحيحة بينها وبين أبنائها، وعن كيف يكون المواطن بارا بوطنه، والوطن كريماً معطاءا تجاه مواطنيه.
إنه الشعور الذي غمرني وأنا ألج البوابة الرئيسية لهذا الصرح، وأقترب أكثر فأكثر من أرواح هؤلاء العظماء، وخاصة منهم فلاسفة عصر الأنوار من جهة، الذين أناروا بفكرهم عتمات وظلمات الفكر السياسي الفرنسي والأوربي والإنساني عموماً. ومن جهة أخرى، أدباء فرنسا المرموقين، الذين دافعوا بمؤلفاتهم والتزامهم عن مبادئ العدالة والتسامح الجمهورية (هوغو – زولا – ألكسندر دوما..) وأغنوا التراث الأدبي الإنساني بروائع أدبية إنسانية فريدة غير مسبوقة.
وجدت الصرح من الداخل لا يقل جمالاً وروعة وإبهارا عنه من الخارج. وجدته ينقسم إلى ثلاث مستويات فائقة التحدي والضخامة والإتقان، وهي :
– المستوى الأرضي : ويشمل فناءا أو بالأحرى صحناً داخلياً واسعاً، تحت القبة الشامخة للصرح، حيث تعرض الكثير من الروائع والتحف الفنية الجميلة، من قبيل اللوحات الجدارية العملاقة، التي يظهر فيها المسيح ونابليون وجان دارك وآخرون. والمنحوتات العديدة، التي تمثل أكبرها في صدر الصحن الفسيح لحظة التوافق الوطني..
– القبو التحت أرضي : وهو المكان الذي يتكون من سراديب طويلة، تضم رفات وقبور عظماء الأمة الفرنسية، الذين تم توزيعهم كالتالي: بعض فلاسفة الأنوار – شخصيات الإمبراطورية الفرنسية – كبار الكتاب والأدباء – الوجوه الكبيرة المعروفة في مجال الدفاع عن المساواة – أصوات حملت بذور الديموقراطية وقيم المواطنة في فجر الثورة الفرنسية – مقاومون شجعان للإحتلال النازي – علماء، إضافة إلى مؤسس الجمهورية الثالثة، ليون كامبيتا.
يتقدم قبور كل هؤلاء العظماء في مدخل القبو، قبرا فيلسوفا الأنوار، فولتير وجان جاك روسو متقابلين.
والحقيقة أنني وأنا أقف أمام قبري هذين الفيلسوفين العظيمين، انتابني شعور غامر من المهابة والتقدير والتعظيم للرجلين، فلم أتردد إلا وقد قرأت الفاتحة، ترحما على روحيهما. وتابعت المسير بإتجاه زيارة قبور باقي الأدباء والعلماء.
– قبة البانثيون : وهي ترتفع إلى مستويات شاهقة، ويزيدها المرتفع الذي بني فوقه البانثيون ارتفاعاً وشموخا. يتيح الصعود إليها رؤية بانورامية جميلة وبعيدة لكل معالم باريس الشهيرة،
يضم البانثيون حالياً، رفات ومقابر 79 شخصية من أبناء فرنسا العظام، من الذين بروا بوطنهم، من قبيل كل من : غابرييل أونوريه دي ميرابو (خطيب الثورة الفرنسية)، الذي يعتبر أول من دفن بنصب البانثيون في 4 أبريل 1791، لكن سرعان ما أخرج منه لاعتبارات سياسية، وجان جاك روسو، وفولتير، وبيار جان جورج كانابي، وأنطوان تيفينار (قائد بحري فرنسي)، وجاك جيرمان سوفلو (مهندس معماري، باني البانثيون)، وفيكتور هيغو، وسادي كارنو (الرئيس الرابع للجمهورية الفرنسية الثالثة، وليون كامبيتا (سياسي فرنسي)، وإميل زولا، وجان جوريس، وبول لانجفان (فيزيائي)، وبيير كوري، وماري كوري.. وشخصيات أخرى عديدة. من بينها أربع نساء.
ولا زالت عملية دفن عظماء البلاد مستمرة دون انقطاع إلى حد الآن. غير أنه اعترتها منذ بداية القرن 20 بعض الأعطاب والانحرافات، من قبيل أن كل الأنظمة والتيارات السياسية، عملت وتعمل على إدخال أيقوناتها وشخصياتها ورموزها إلى البانثيون، مما أدى إلى قيام خلافات حادة بشأن الشخصيات التي تستحق الدفن في البانثيون. وهكذا ففي الوقت الذي كان فيه أديب كفيكتور هيغو محل إجماع وطني من جميع التيارات، كان إيميل زولا وخاصة جان جوريس، محل خلاف حاد. فقد كان دفنه في البانثيون مستفزا لليمين، بل حتى اليسار كان منقسما بشأن تكريمه.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *