Home»International»ماذا تعرف عن السلطان عبد الحميد الثاني؟ الحلقة الأولى

ماذا تعرف عن السلطان عبد الحميد الثاني؟ الحلقة الأولى

1
Shares
PinterestGoogle+

أحمد الجبلي
لقد برزت السينما التركية الملتزمة بشكل قوي خلال السنوات الأخيرة، وقد جاءت، في جزء منها، ردا على أعمال درامية منفرة ومزورة للتاريخ، وعابثة بتاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية تحديدا، مثل « حريم السلطان » الذي عمل على تحويل السلاطين العثمانيين، الذين كانوا يحملون أكفانهم في عمائمهم دلالة على الجهاد والتصدي للمخططات التمزيقية والتدميرية للإسلام، إلى سلاطين مشوهين شهوانيين لا هم لهم سوى النساء والجواري.
لقد مثل مسلسل الغازي أرطغرل عملا فنيا كبيرا أبرز للعالم أن تركيا العثمانية تحمل في جيناتها أصولا تضرب في عمق التاريخ الذي زين ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه يوم قال: « لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش » فكان ثناء تاريخيا وتزكية منه صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأبطال.
وإذا كان مسلسل قيامة أرطغرل قد اكتسح القنوات العربية وباقي قنوات العالم واستهوى الشعوب العربية وغير العربية حيث بلغ عدد الذين شاهدوه ثلاث مليارات مشاهد، فإن مسلسل عبد الحميد الثاني قد جاء ليغير ما تم تلقينه للعالم الإسلامي من أن الأمبراطورية العثمانية كانت أمبراطورية استعمارية توسعية، وأنها كانت عبارة عن رجل مريض، وأن آخر سلاطينها الفعليين السلطان عبد الحميد الثاني كان مستبدا دمويا.
إن مسلسل عبد الحميد الثاني، أو « عاصمة السلطان عبد الحميد الثاني » عبارة عن تحفة فنية وتاريخية تناولت حقيقة ما جرى أثناء 13 سنة الأخيرة من حكم السلطان عبد الحميد أي بين 1896 وسنة 1909، وهي سنوات تؤرخ لمرحلة النهضة بعد السقوط وتحديدا في المجال العسكري والصحي والتعليمي، كما تتحدث بدقة عن المخططات التدميرية التي كان الغرب أن يحيكها من أجل القضاء على الخلافة وتقسيم الأمبراطورية العثمانية، ولهذا قد أغاض المسلسل الكثير من الدول منها بني صهيون والإنجليز والروس والفرنسيين ودولا أخرى في أوربا، فبمجرد أن عرضت الحلقات الأولى منه على القناة التركية الأولى حتى انطلقت التهديدات، وبدأت التحركات، محاولة إيقاف مسلسل يفضح جرائمها ومخططاتها، فكانت محاولات استبدادية معادية كلية للحرية والديموقراطية قد ذكرتنا تماما بنفس العقلية التي ناهضت وحاربت جميع المشاريع النهضوية والوحدوية على عهد عبد الحميد الثاني الذي صمد بشكل معجز في وجه جميع مخططات التمزيق والتخريب التي استهدفت أمته المترامية الأطراف، كما صمد في وجه جميع المغريات والرشاوي مقابل أن يبيع بعضا من أرض الإسلام لكيان صهيوني لقيط ومشتت.
لقد اعتمدت أحداث المسلسل تحديدا على مذكرات عبد الحميد الثاني ومذكرات ابنته عائشة « والدي عبد الحميد الثاني » ومذكرات ابنته شادية « الأيام الحلوة والمرة » وكذا مذكرات العديد من قادته على رأسهم صديقه وأمين سره ورئيس دائرة الكتابة بقصر يلدز تحسين باشا « السلطان عبد الحميد » فضلا عن مذكرات قادة آخرين بمن فيهم قيادات في « الاتحاد والترقي ». ولكن بما أن الفيلم ليس فيلما وثائقيا، تم إدخال الأحداث التاريخية في سياق درامي تلفزيوني مشوق ومثير، يأخذ بفكر المشاهد وعقله وهو يتابع أحداثا متفرعة ومتناسقة سواء داخل القصر أو خارجه، داخل معاقل العدو أو في مقرات القنصليات، وأحيانا أخرى يجد نفسه متابعا لأحداث تقع في شوارع استنبول أو في مينائها أو في باخرات تبحر في مضيق البوسفور أو الدردنيل أو بحر مرمرة.
إن ما بينه المسلسل من ذكاء خارق كان يتميز به السلطان عبد الحميد الثاني، لم يكن مبالغا فيه، كما لم يكن من صنع الخيال أو من إبداعات صاحب السيناريو، فلكي نعلم بأن السلطان عبد الحميد كان عبقريا ودبلوماسيا محنكا فطنا يكفي أن نذكر بعضا مما شهد به أعداؤه: يقول المستشار الألماني والسياسي الكبير ومؤسس الأمبراطورية الألمانية بيسمارك: « لقد أوتي السلطان عبد الحميد 95 في المائة من الذكاء، وأوتيت 4 في المائة منه، أما 1 في المائة فيتقاسمه باقي زعماء العالم »، كما قال إدوارد جراي السياسي الليبرالي الإنجليزي بعدما سمع بوفاة عبد الحميد الثاني: « يا لها من خسارة كبيرة، لقد كان عدوي ولكننا الآن فقدنا متعة دبلوماسيته بعد موته »، ويقول أحد قناصلة الإنجليز في العاصمة استنبول: « لقد كانت معركتنا مع السلطان عبد الحميد كأننا نلعب الشطرنج، ولم نستطع أن نأخذ منه ولو بيدقا واحدا ».
وأما في مذكراته رحمه الله فهو نفسه يقول في الصفحة 259 حينما جاءه طلعت باشا زعيم الانقلابيين ورئيس الاتحاد والترقي يطلب منه الاستشارة بعدما أغرقوا الدولة في حروب مجانية نظرا لغبائهم وعدم تمرسهم في السياسة:  » لقد تعقبتم من بعدي {أي بعد عزله} سياسة مختلفة تماما عن سياستي. جعلتم مشكلة البوسنة والهرسك تخرج من إطارها الذي رسمته أنا لها، وهو أنها مشكلة نمساوية- روسية, {أي أن عبد الحميد بذكائه واستعانة من مخابراته صنع مكائد جعلته يمسك بخيوط القضية ويلاعب بها الروس والنمسا ليأمن شرهم} فجعلتموها مشكلة عثمانية روسية. وأخرجتم مشكلة كريت من كونها مشكلة إنجليزية روسية، وجعلتموها مشكلة عثمانية- يونانية. ووقعتم في خطإ كبير عندما أزلتم بأنفسكم الخلاف بين الكنيستين اليونانية والبلغارية، وبذلك أوجدتم الفرصة أمام تحالف البلقان، وجعلتم الباب مفتوحا لكي تقوم كل من الصرب والجبل الأسود وإيطاليا بإثارة الألبان الذين حافظوا على علاقاتهم بالدولة العثمانية ببعض الامتيازات الخاصة. وجعلتم حق القرار في مجلس « المبعوثان » مسرحا لنتائج خطيرة من شأنها تقديم الإمكانات الحيوية لاتحاد غير المسلمين. وبكل هذه الأخطاء خرج محور التوازن السياسي الذي تستند إليه الدولة عن مجراه. » هكذا في هذا التقييم الوجيز، رغم أن الأخبار لم تكن تصله في منفاه الأول في سلانيك، كما أنه منع من الجرائد والمجلات. أي أن الرجل قد اعتمد فقط على المعطيات التي قدمها طعلت باشا ليخرج منها بهذا التحليل السريع لجوهر المشكلة التي وقع فيها الانقلابيون الذين اعتبر بعضهم، إقرارا منه، أن أكبر خطأ وقعوا فيه هو عزلهم للسلطان عبد الحميد. وقد عبر أحدهم وهو الفيلسوف والمفكر التركي رضا توفيق وهو من كبار « الاتحاد والترقي » بعد وفاة السلطان عبد الحميد بقوله:
عندما يذكر التاريخ اسمك
يكون الحق في جانبك ومعك أيها السلطان العظيم
كنا نحن الذين افترينا دون حياء
على أعظم سياسيي العصر
قلنا: إن السلطان ظالم وإن السلطان مجنون
قلنا لابد من الثورة على السلطان
وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان
وعملنا على أيقاظ الفتنة
لم تكن أنت المجنون بل نحن ولم نكن ندري
علقنا القلادة على فتيل واه
لم نكن مجانين فحسب، بل كنا قد عدمنا الأخلاق
فلقد بصقنا أيها السلطان العظيم
على قبلة الأجداد.
كما أن التاريخ يسجل للسلطان عبد الحميد لينه ورحمته حتى بخصومه، ولكنهما لين ورحمة ممزوجتان بحكمة وبعد نظر، فعندما كانت المحكمة الشرعية تصدر حكم الإعدام في حق العديد من الخونة، كان يحول هذا الإعدام إلى منفى مع توفير جميع ظروف العيش الكريم لهذا المنفي في منفاه، بل وكان يخصص مبلغا ماليا راتبا لعائلة وأبناء هؤلاء الخونة على اعتبار أنه لا يأخذهم بجريرة أبيهم. وهو نفس الشيء الذي فعله حتى مع الذين قتلوا عمه السلطان عبد العزيز إذ أصدر قرارا بالعفو عنهم بعد ما قررت المحكمة إعدامهم، وأرسلهم إلى المنفى وخصص مرتبات لهم ولذويهم. وبعض الخونة كان يتساهل معهم فيمنحهم فرصا أخرى حتى يتراجعوا عن خيانتهم ويقوموا بخدمة وطنهم وأمتهم. بل ولقد كان يدعم ماديا بعض معارضيه فقط لعلهم يعارضوه بشرف. إن أقبح شيء كان السلطان عبد الحميد يمقته ويكرهه هو أن تشترى قياداته العليا في الجيش أو في الصدارة العظمى {رئاسة الوزراء} من طرف الأجانب، يقول في الصفحة 102 من مذكراته:  » لم يهزني شيء في حياتي هزا ضخما قدر شخص يرتفع إلى مقام قيادة الجيش أو إلى مقام الصدارة العظمى ويقبل نقودا من دولة أجنبية كافرة »، أما ما دون ذلك فغالبا ما كان يمنحهم فرصا كما فعل مع حسين عوني باشا قائد الفرقة الثانية التي كانت تحمي قصر يلدز.
أما عن تطبيق وتنفيذ حكم الإعدام الذي كان من اختصاص المحكمة الشرعية، فلم ينفذ إلا في حالة واحدة وقد كانت حالة قصاص، أي لا يمكن أن يشفع فيها أحد حتى ولو كان السلطان نفسه. ورغم ذلك كان أعداؤه وبعض المغرر بهم من المثقفين من أبناء شعبه وأمته يلقبونه بالسلطان الأحمر كناية عن الدم والإجرام. ولو عقلوا قليلا لسألوا أنفسهم قائلين: لماذا لم يأمر جيشه بأن يقف في وجه الانقلابيين وهم يتوجهون نحو قصر يلدز؟ بل من أهم الاقتراحات التي تلقاها حينها من محيطه وقياداته هي إعطاء أوامره لصد الهجوم، وهو نفسه قال: « لو شئت لمنعت الانقلاب ولكن لم أرد لأي جندي أن يموت ». إنه نفس الموقف الذي صدر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ كان أمبراطورا مهيب الجانب ويملك جيشا عرمرم ولكنه قدم دمه ليسفك حتى لا يسفك دم الآخرين، ويكفي هنا أن نقدم شهادة المستشرق المجري اليهودي أرمينيوس فامبيري الذي عاصر عبد الحميد وعرفه عن قرب، إذ يقول:  » إنها لحقيقة تاريخية اليوم: إن السلطان عبد الحميد لم يكن حاكما دمويا ».
كما كان من المؤكد لو أن السلطان عبد الحميد دمويا لباع فلسطين شأن كل دموي لا دين له ولا قيم، بل إن المغريات والرشاوي التي قدمت له كي يبيع بعضا من أرض فلسطين لو قدمت لكل قادة العالم العربي والإسلامي لسال لعابهم. ولكن الرجل كما يقول في الرسالة التي كتبها إلى شيخه ومربيه بعد عزله: »
« لقد تخلّيت عن الخلافة وأنا لم أتركها وأنا خائن ذليل بل تركتها وأنا مرفوع الرأس. لقد طلبوا مني أن أتنازل لهم عن الأراضي المقدسة وعرضوا عليّ مائة وخمسين مليون ليرة وإنني والله لا أسوّد صحائف المسلمين وصحائف أجدادي العثمانيين بالتنازل حتى ولو عن شبر من بلاد الإسلام ».
كما سجل التاريخ كلمته الخالدة: « انصحوا الدكتور هرتزل ألا يفكر في فلسطين فإني لن أتنازل عن شبر منها لأنها ليست ملك يميني بل هي ملك المسلمين جميعا فليحتفظ اليهود بملايينهم وليعلموا أنهم لن يصلوا إلى فلسطين إلا إذا سقطت الخلافة.. أما وأنا حي فوالله لَعَمَلُ المِبضع في بدني أهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت عن أرض الخلافة ».
عندما قرأ عبد الحميد الثاني ما كتبوه عنه بعد عزله من أكاذيب وافتراءات،
رد على ذلك في مذكراته قائلا: « لقد توليت أمر هذه الأمة أكثر من ثلاثين عاما، وإني والله لم أخن المسلمين أو أفرّط في حقوقهم، بل عملت على خدمتهم وجمع شتاتهم وأقمت فيهم العدل والحق وواجهت الأعداء من كل مكان، إلا أن المؤامرات والخيانة كانت قد تمكّنت من دولة الخلافة من قبل أن أتولى، وبعد أن توليت، ولم أجد من يعينني على أعداء المسلمين فتحالفوا علي وعزلوني ».
إن هذا السلطان الذي وصفوه بالضعف أحيانا وبالحمق والدموية أحيانا أخرى، كان يملك أقوى جهاز استخباراتي في العالم وقتها، وأقوى شبكة تلغراف، لعلمه بأهمية السرعة في إيصال المعلومات ولأن القرارات الصحيحة تبنى على معلومات صحيحة، وهو الذي استلم الحكم وديون الدولة قد وصلت إلى 300 مليون ليرة، واستطاع أن يخفضها إلى 30 مليون ليرة، وأسهم من ماله الشخصي في تسديد معظمها.
وفيما يشبه المستحيل تحدى العالم كله وأنشأ المشروع العملاق مشروع سكة حديد الحجاز على مسافة 1400 كلم، وسنخصص حلقة خاصة بهذا المشروع العالمي العملاق.
إن هذا السلطان الذي كان الغرب يراه متخلفا قد افتتح أول جامعة للفتيات، أي اهتم بتعليم المرأة، واهتم بإدخال الفلسفة في المناهج الدراسية بالرغم من الاحتجاجات عليها لأنها على حد تعبيرهم « مادة كفرية « ، ولكنه كان يقول: « الكفر يأتي من الجهل »، كما أدخل كليات جديدة لم تكن موجودة في الدولة العثمانية ككلية الحقوق .
إن هذا السلطان الذي كرس حياته في خدمة شعبه وجمع شتات أمته ومحاربة أعدائه، تم حجزه في قصر « الاتيني » وهو قصر يهودي إذلالا له، وكأنه عقاب له لكونه أبى أن يبيع أرض فلسطين لليهود، قصر مهجور ليس به ماء ولا كهرباء ولا أثات، ولم يسمحوا لمن معه بأخذ حاجياتهم، فكان أولاده وبناته يغسلون ثيابهم في غرفهم وينتظرون أن تجف وهم عراة، وكان أحد أبنائه لا يتجاوز الثلاث سنوات مريضا لا يجد حليبا ولا دواء.
حاولوا اغتياله، كما حاولوا اغتصاب أميراته، وهو في هذا المنفى، ومن عظم خوفهم منه أن أجبروه بأن يتنازل على ما بقي من ثروته التي لم يتبق منها غير حفنة أموال تكفي فقط لتعليم أولاده، فلقد أنفق معظم ثروته على الدولة وقت أن كان سلطانا يشعر بثقل مسؤوليتها فوق ظهره.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *