» في الصيف ضيّعت اللبن » مثل يستحضره العقلاء ويغفل عنه السفهاء
» في الصيف ضيّعت اللبن » مثل يستحضره العقلاء ويغفل عنه السفهاء
محمد شركي
الأصل في هذا المثل الشهير أن امرأة في الجاهلية تدعى دختنوس بنت لقيط كانت زوجة عمرو بن عدس ، وكان شيخا موسرا ، فأبغضته فطلقها ، فتزوجت بعده شابا جميل المحيا صفر اليدين ، فأجدبت السنة ، فبعثت إلى طليقها تطلب منه حلوبة فقال لها : » في الصيف ضيّعت اللبن » ، وصارت عبارته مثلا يضرب لكل من يطلب شيئا قد فوّته على نفسه .
ولمّا كان الناس صنفين : عقلاء وسفهاء ، أما العقلاء فلا يفوّتون على أنفسهم أشياء أو فرصا ولا يفرطون فيها ، ولا يصيبهم ندم ولا حسرة ، وأما السفهاء وهم من أهل طيش فيفوّتون على أنفسهم ما لا يجب أن يفوتهم، ويكون مصيرهم الندم والحسرة ، ومن الندم ما يقتل .
وكثيرات هن مثيلات دختنوس يعشن في بحبوحة عيش ، وفي دلال في بيوت الزوجية لكنهن لا يقدرن ما هن فيه من نعم ، فينشزن بأزواجهن ويتمردن عليهم مستعصيات ويبغضنهم حتى إذا ضاق الأزواج ذرعا بنشوزهن ، وأعرضوا عنهن وطلبوا بدائل عنهن أو طلقوهن، ومر عليهن بعد ذلك زمن وذهب عنهن طيشهن ، وعدن فيه إلى رشدهن ،ندمن على ما فرطن فيه ، وفكرن في استدراك واستعادة ما فوتن على أنفسهن وقد فاتهن الأوان، لأن كسر المودة ككسر الزجاج لا يجبر كما قال الشاعر :
إن القلوب إذا تنافر ودها = مثل الزجاج كسرها لا يجبر
وهو بيت ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
وعلى مثال دختنوس ومثيلاتها في كل عصر ومصر يقاس أزواج أيضا ينشزون على نسائهن بسوء عشرتهن وإذايتهن وجفائهن، وهن صالحات مطيعات محبات لهم ، فيضيعون على أنفسهم ما جعل فيه الله عز وجل خيرا كثيرا ، ويكون ذلك منهم سفه ، حتى إذا كسروا المودة كسر الزجاج وندموا على ذلك ، وأرادوا استدراك ما لا سبيل لاستدراكه فاتهم الأوان .
وأمثال هؤلاء من يفرطون في قرابة أو صداقة أو زمالة … ،لا يقدرون قيمتها ولا يرعونها حق رعايتها بسبب لحظة سفاهة أو طيش أو غضب أو سوء ظن أو وشاية كاذبة …فيمضي عليهم زمن يستعيدون بعده حلمهم ، ويفكرون في إصلاح ما أفسدوه أو جبر ما كسروه ، فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا ، ويندمون شديد الندم ولات حين مندم على ما فوتوا على أنفسهم ، وعلى ما ضاع منهم ، ولا سبيل لتداركه .
وأمثال هؤلاء من يضيعون فرص دراسة أو عمل أو سفر أو تجارة … زاهدين في ذلك لحظة سفه أو طيش أو غرور منهم حتى إذا عادوا إلى رشدهم وصوابهم ندموا على ما كان منهم ، فضاع كل جهد بذلوه لتدارك ما فاتهم .
وأمثال هؤلاء من فرطوا في نعمة صحتهم لحظة سفه وطيش حتى إذا ذهب الله عز وجل بنعمتهم ندموا على تفريطهم ، والتمسوا استعادة ما ضاع منهم بعلاج بلا طائل ولا فائدة ، ولم يستدركوا ما لا سبيل إلى استدراكه ، وقتلهم الندم قبل العلل ومن الندم ما يقتل .
وشر من كل هؤلاء من فرطوا في دينهم وغرتهم الحياة الدنيا وزينتها ، وسوفوا فضاعت أعمارهم حتى جاء أجلهم وغرغروا وقد بلغت الحلقوم ، ندموا على تفريطهم ، وأعلنوا توبة لا تنفع ساعتئذ ، ولا تشفع ، ورحلوا وهم في غبن لا مثيل له.
كل هؤلاء لو أنهم وقفوا في حياتهم لحظة اعتبارعند مثل عمرو بن عدس : » في الصيف ضيّعت اللبن » لما ضاع منهم لبن .وما أكثر الألبان الضائعة في الصيف، وما أكثر من تضيع منهم . ومن الأمثال الشعبية المغربية قولهم : « لي نفخ في اللبن يشتاقو » ، وهو يعني من فرط في اللبن اشتاق إليه . وقد يكون قائل هذا المثل قد نظر في مثل عمرو بن عدس فصاغ مثله على مثله .
Aucun commentaire