Home»Débats»العجوز والبحر.. سانتياغو في الجزائر

العجوز والبحر.. سانتياغو في الجزائر

1
Shares
PinterestGoogle+
 

رمضان مصباح الادريسي

في مواجهة أنياب البحر:
« سانتياغو » هو البطل الوحيد – مع السمكة الضخمة- في رواية العجوز والبحر ل »ارنست هيمنغواي » التي صدرت سنة 1952،وعُدت عروس رواياته التي خولت له نيل جائزة نوبل سنة1954.
بطلً أجهد شيخوخته ،في مركبه الصغير ،من أجل بلوغ ميناء « هافانا » ،بسمكته الضخمة التي جاد بها البحر بعد عشرات من الأيام العجاف ،أفقدته الثقة في نفسه ،وأناخت كبرياءه كصياد عرك البحر وعركه طيلة حياته.
لكن من سوء حظ العجوز أنه لم يكن الوحيد، في البحر، الذي يهمه أمر سمكة القرش الضخمة، التي استطاع بعد جهد كبير أن يشد وثاقها الى زورقه، ويمضي بها صوب بهجة الوصول سالما الى البر ؛بحمل مزدوج من لحم شهي مربح، وشباب مستعاد في أتون الشيخوخة.
كانت هناك أسماك القرش الأخرى، وكان لها راي آخر تجلى في إصرارها على ألا يحظى سانتياغو بكل هذه السعادة المزدوجة، فراحت تغير على المركب الصغير المثقل ،من كل الجهات ،متخطفة من لحم السمكة ؛رغم استماتة العجوز في مقاومتها ،الى أن كَلَّ ساعداه واستسلم للخيبة التامة، وكأن انتصاره أخيرا على البحر، وعلى نحسه، لم يكن سوى حلم أو خلسة مختلس.
حينما وصل أخيرا الى الميناء، في فجر يومه الثالث في البحر، لم يكن عالقا بوثاق السمكة ،وهي أطول من مركبه بقدمين ،غير هيكلها العظمي اللامع الذي استدعى فضول الصيادين ..أما هو فقد انصرف الى كوخه متعثرا ،مترنحا عياء، ولا رغبة له عدا الاستغراق في النوم العميق.
لن ينتهي الأمر هكذا ،بكل هذا الفشل المريع؛ لأن الصبي « مانولين » الذي طالما نهاه أبواه عن مرافقة اسانتياغو الى البحر ،حتى لا تصيبه عدوى سوء الطالع، سيفتح باب الأمل مرة أخرى ،وهو يقول للعجوز، بعد أن ضمد له جراحه وقدم له القهوة و الطعام:
سأرافقك الى البحر، فهناك الكثير مما سأتعلمه منك.

ماذا يريد سانتياغو الجزائر؟
تذكرت هذه الرواية الرائعة ،التي لا اكف عن معاودة قراءتها ،وأنا أجيل الفكر في ما يقع في الجزائر اليوم، عساني أنفذ من سخونة الأحداث وتسارعها، وحتى سطحيتها، صوب أعماقها الباردة التي أنتجتها ،والتي تمضي بها قدما صوب مستقر لها.
بدا لي الجنرال العجوز قايد صالح وكأنه يتقمص الى حد ما شخصية سانتياغو ؛لكن بدون جانبها الإنساني العميق، الذي عرف همنغواي كيف يبرزه من خلال محاورة العجوز لنفسه وسمكته والبحر المحيط بهما، هادئا طورا ومضطربا أطوارا.
يمسك قايد صالح ،اليوم، كل نظام الدولة الجزائرية في شباكه؛ وهو الجنرال الذي كان اجبِر على التقاعد ،لولا أن تداركته نية مبيتة للرئيس الداهية بوتفليقة وهو يتسلم حكم الجزائر سنة1999:
تصفية نفوذ الجنرالات الأقوياء باختيار أضعفهم للتحكم في رقابهم.
من هنا أقسم قايد صالح على أن يظل وفيا لشخص بوتفليقة الى آخر رمق.
وهو لا يزال على هذا القسم ، مخلصا لنظام بوتفليقة ،وان استبدل جلد الحمل بجلد الأسد.
انه الآن يجدف وسط بحر الحراك الشعبي ؛ مستميتا من أجل الوصول الى ميناء رئاسيات ،تعيد انتاج نفس النظام .
وعلى غرار العجوز سانتياغو وهو يواجه أنياب البحر ، ليس بين يدي الجنرال سوى القليل من الزاد السياسي لتدبير المرحلة المعقدة.
تكوينه المعرفي والسياسي ضعيف ، وهو دلفين ضمن قروش الصف الأول من الجنرالات، الذين تحكموا في مصير الجزائر المستقلة تحكم الآلهة الاغريقية في اليونان القديمة.
جانب قوته الوحيد يتمثل في كونه قدم وارتقى من خارج دائرة جنرالات فرنسا، الذين توفر لهم كل الدعم ليترقوا سريعا، خدمة لأجندة الاستعمار القديم.
هذا ما يفسر مسارعته لتصفية حساباته مع هؤلاء الجنرالات ومن والاهم؛ مناقضا حتى ما يدعوا له من ضرورة استتباب الأمر والأمن، لمحاربة الفساد.
انه ،بحمله الثقيل وسط بحر الحراك الشامل ، لا يأمن مابه من أسماك القرش ،التي ستحرمه من صيده الثمين ،الذي سقط عليه مائدة من السماء ،تلقفها متلهفا وهو لا يصدق ما يقع له.
لا وقت لديه لينتظر حتى يستتب الأمر ، وتتجدد المؤسسات ،ويُراجع الدستور والقوانين ،لمأسسة محاربة الفساد.
ومن قال بأن من شكل دائما الدرع الواقي للعصابة ، وقطعة من محركها، يمكن أن يتحول الى صالح مصلح؟

دولة البين بين:
ان الأزمة الجزائرية في منتهى المفارقة اليوم؛ فما بين النظام المنهار ،والنظام الجديد الذي يطالب به الحراك ،هناك نظام قايد صالح « الانتقالي ».
وتتعقد الأزمة حينما يرفض سانتياغو الجزائر مطالبة الحراك بمرحلة انتقالية ترتب ، عن حق، لرئاسيات جديدة خرج النسق القديم.
بهذا يكون الجنرال العجوز قد صنع دولته ، مستبقا دولة الحراك.
دولة يخاطب فيها الرئيس الفعلي المواطنين المدنيين ،كل أسبوع ؛لكن من داخل الثكنات.
ثكنات تتوزعها كل المناطق العسكرية الجزائرية، بما فيها القصية جنوبا.
نوع من الديموقراطية العسكرية التي تهدد العسكريين بالعسكريين ؛ والمدنيين بهؤلاء، غير منتبهة ،اطلاقا، للشرط الديموقراطي ،كما يلهج به الحراك في جمعاته المتعاقبة.
وغير مكترثة حتى بآراء كبار السياسيين ،والحكماء المقبولين لدى الشارع.
حتى الدعوة الأخيرة الى الحوار ،وهي مجرد دعوة شكلية ،مرت عبر خشبة هذا المسرح الديموقراطي العسكري الغريب في عالم اليوم؛ مما يعكس ضحالة فكرية سياسية، وانقطاع عن كل التحول الذي حصل في العالم ،بعد انتهاء الحرب الباردة.
يرتدي الجنرال كامل مَخِيطه ومُحيطه المتصلب ،وعتاده العسكري ،ويقول للحراك :اياك أعني .
يركبه لا ليصل الى وجهته وجمهوريته الجديدة، الحلم المستحق؛ بل ليرسخ دولته التي تقع بين بين. بين النظام المنهار والنظام المأمول.
وكأنه الشاعر الأعشى حينما يقول:
عُلِّقتها عرَضا وعُلقت رجلا ** غيري ،وعُلِّق أخرى غيرَها الرجلُ
وعُلقته فتاةً ما يحاولها ** من أهلها ميْتً يهذي بها وهِلُ
فكلنا مُغرم يهذي بصاحبه ** ناءٍ ودانٍ ومحبولً ومحتبلُ

في الرواية يبذل العجوز سانتياغو قصارى جهده ليحمي صيده الثمين من غارات أسماك القرش، التي بدت في هجومها المتكرر، وكأنها تصر على تخليص السمكة؛ حتى وهي تلتهمها.
أما الجنرال فيتقمص الدورين معا: حماية الدولة من العصابة، بعد انهيار النظام؛ لكن بابتلاعها ،من خلال ترحيلها الى الثكنات العسكرية.
تعاورت أنياب البحر سمكة سانتياغو، ولم يصل الى المرفأ غير هيكلها العظمي اللامع.
لكن حينما استغرق العجوز في نوم عميق ، مستسلما لجبروت البحر ووهن الشيخوخة ، تظهر بارقة أمل بظهور الصبي ،واصراره على بعث الأمل من جديد في نفس البطل المنهزم.
سنعاود النزول الى البحر ، لأتعلم منك الكثير.

طبعا من المستبعد جدا أن يقرأ الجنرال هذا الكلام ،ومن باب أولى رواية العجوز والبحر ؛ليقف على عبقرية هيمنجواي ،وهو ينهي روايته بجعل الصبي ما نولين هو كل الأمل الذي سيجعل الصياد العجوز يعاود النزول الى البحر ،لا ليصطاد فقط بل لينقل خبرته الكبيرة الى الصبي.
صبي يعلن أنه مصمم على النزول الى البحر ، ضدا على منع والديه؛ وفي هذا انعتاق من الأبوية المحنطة والمستسلمة لخرافة سوء الطالع.
لا أحد يريد للجزائر الشقيقة مصير السمكة، وان كان ما في شباك قايد صالح دولة تتجه صوب تكريس الأزمة السياسية المفتوحة على كل الاحتمالات ، بعد أن تكرست بها سياسة مأسسة الفساد ؛بدءا من القمة الى السفح.
لم يوصل سانتياغو الى المرفأ غير هيكل هضمي لامع ، أثار فضول كل الصيادين مقدرين حجم السمكة التي استطاع العجوز شد وثاقها.
فهل هذا ما يريده الجنرال ، وهو يصم آذانه حتى لا يستمع الى حراك الشعب الجزائري ومطالبه المشروعة ؟
ان الصبي مانولين ،العازم على خوض غمار البحر، يوجد في قلب كل شباب الجزائر ؛فمتى يثق الجنرال العجوز بقدرة هؤلاء الشباب على حسن تقرير مصيرهم؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.