Home»Correspondants»قصة قصيرة / في يوم رمضان

قصة قصيرة / في يوم رمضان

0
Shares
PinterestGoogle+

17/06/2009
قصة قصيرة  » في يوم رمضاني « 

ذ. محمد مباركي

في أولى أيام الشهر الأبرك من فصل شتاء بارد ، تدثرت بمعطفي الصوفي الطويل و حملت حقيبتي الصغيرة و كتبي و قدمت لزيارة أهلي ، أقاسمهم ليالي رمضان المحفورة في ذاكرتي بالنكهة الخاصة في مدينتي ، أحسست بفرحة طفولية تمازج فيها حب الوالدة و العائلة و الصحاب و الحب المنفرد لمدينتي عشيقتي ، هي كما ألفتها ، تفتح ذراعيها لتضمني بين شوارعها و دورها و مقاهيها و حدائقها كأم حنون ، أصل الرحم بمعالمها ، فتهمس لي بألف كلمة ترحاب تتعالى مع الصيحات المبحوحة للباعة ، و أجراس المدارس
و مكبرات المآذن توحد الواحد الصمد .. أردد جملة حفظتها من مدرس، من أبناء المدينة ، نال حقه من سنوات الرصاص الملعونة ، كان يقول رحمه الله
 » طبت يا هذه المدينة العزيزة من هذا الوطن المحبوب »
فهمت كنه كلماته الحزينة لما استبدلت الوطن بأوطان الغير، تبدو لي الآن من مكاني هذا ، كحظائر خنازير، فما أبعدها عن قلبي و ما أبعد قلبي عنها .

****
مررت هذا الصباح بسوق السمك في وسط المدينة القديمة ، إذ اشتهيت نوعا من السمك ، تعده أمي في طبق أشتهيه دوما ، منذ صغري حتى كبري ، بل أحن دائما لأطباق أمي ، رغم زحف الشيخوخة ، أرجوها أن تعد لي طبقي المفضل ، فتذعن المسكينة لرجائي ، و ترضيني كما كانت دائما ،
تشعرني أن محبة الابن الوحيد فوق كل المحبات ..
و أنا أساوم بائع السمك ، شعرت في زحمة المكان ، بيد تغوص في الجيب العميق لمعطفي ، تستل حافظة النقود ، كنت أسرع من اليد ، فأمسكت بها ، وجدتها صغيرة نحيلة لطفل من بائعي أكياس البلاستيك . أذعن لقبضتي القوية و تقلصت قسمات وجهه ، و هم بالبكاء ، و خفض رأسه في حياء أرغمني على ترك اليد الصغيرة ، نهره بائع السمك و كال له قاموسا من الشتائم ، حتى رجوته أن يسكت ، و الطفل قد ولانا ظهره يمشي الهوينى مبتعدا لا يلتفت . راقبته من بعيد ، إذ جلس على أولى أدراج السوق و غاص في تفكير الكبار لا يعبأ بمن حوله ، في وقت حمى وطيس السوق بالصياح و المساومات و السباب .

شدني منظر الطفل كثيرا، فاقتربت منه و طلبت كيسا بلاستيكيا ، مدني إياه و هو لا زال في جلسته ، سلقني بنظرة مشوبة بالخوف ، مددت له ثمن الكيس ، رفض أخذ نصف الدرهم بهزة من رأسه و أراد النهوض ، فرجوته أن يبقى مكانه ، فأحس بالاطمئنان و رسم ابتسامة خفيفة على شفتيه ، مما شجعني على مساءلته عن تصرفه . أطرق إلى الأرض هنيهة ، ثم بدأ بالاعتذار عن تصرفه  » سامحني يا عمي  » . نزلت الجملة بالصوت المنكسر في أعماقي حارقة ألهبت دواخلي ، و راح الطفل يحكي عن إخفاق و انقطاع مبكر عن الدراسة.. و زوج الأم عملاق جبار، يمتهن القمار و العربدة ،كسول لا يعمل ، يقتات من وراء زوجته أم الطفل ، تعمل طباخة في الولائم ، تأتي ببقايا الأكل مختلطا يلتهمه ككلب جائع ، و لا يبقي لهما شيئا ،
و في غفلة منه تدس الأم في فم ابنها لحما أو فاكهة و تضمه بشوق الأمل في الخلاص من هذا البغل ،
و الحنين إلى والده الذي اختفى فجأة ، و مضى إلى حيث لا يدريان ، فتشت عنه في كل الآفاق ،
و أطلقت نداءات عبر أثير الإذاعة الجهوية و القناة الوطنية عبر برنامج  » مختفون  » دون جدوى .
و طلقتها المحكمة ، لتتزوج ثانية من هذا الزير .. كره الطفل كرها لم يعرف له سبب ، و أمره أن يعمل أي عمل ، و أن يسرق حتى . رجته الأم أن يترك الطفل لحاله فهو أصغر من أن يعمل ، لكنه أصر على كلامه بعناد ، مهددا لهما بسلاح الطرد من المنزل .

ثارت ضده يوما فشج رأسها بعصا أخرستها و أعدمت في نفسها فكرة الثورة ثانية .. العصا التي أرعبت الطفل فخرج من المنزل ليعود إليه متأخرا بعد أن ينام البغل و يغادره قبل أن يستفيق ، خرج إلى السوق الأقل جحيما من البيت ، يقتات منه الخبز و الصفعات و اللعنات ، و يتعلم فيه البيع و الشراء و فنون النشل ، و سرعة التخفي أوقات الخطر ، خطر الشرطة و خطر مباغتة زوج الأم له ، يغتصب منه كل الدريهمات التي جمعها ربحا أو نشلا .
كان الطفل ينظر إليه بحقد دفين ، تجسده النظرات المنكسرة و الزفرات المتلاحقة ، أحس أنه يعيش على أمل تخليص أمه منه ، و تمنى أن ينهب الأيام و السنين ، فيكبر و يكبر حتى يصبح يافعا يقصم ظهره أو يسمل عينيه أو يدفنه حيا ، أو يتركه للزمن فالبغال لا فلذات لها .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *