Home»Correspondants»المجموعة القصصية »فاكهة النون » الرؤيا الشعرية :مقاربة شعرية بمنهج الحكي الشعري لجان إيف تاردييه.

المجموعة القصصية »فاكهة النون » الرؤيا الشعرية :مقاربة شعرية بمنهج الحكي الشعري لجان إيف تاردييه.

0
Shares
PinterestGoogle+

المجموعة القصصية  » فاكهة النون »

الرؤيا الشعرية: مقاربة شعرية بمنهج الحكي الشعري

ل: »جان إيف تاردييه ».

*- السياق القصصي:

 

تتحكم الرؤيا الشعرية في المشروع السردي الأساسي، » القص الوصفي » لعلي عبدوس ، باعتبارها » كشفا عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى كشف « ، حسب الشاعر الفرنسي رنيه شار(1)،أو » تشكلا لموقف جديد من العالم والأشياء » ،  وك: » بعد متجاوز لكل ماهو مادي وواقعي وجزئي »، مرتبط ب : » منطقة الحلم  التي تتجاوز حدود العقل وحدود الذاكرة « (2) ،كما يرى الطريسي ؛ انطلاقا من كونها  « نظرة ثابثة  تلتقط الأشياء  في مظاهرها الخارجية » ص23، بكل ثقلها  وامتداداتها، وضغوطاتها النفسية والاجتماعية والثقافية ؛ فيتحول التحكم  إلى التقاطات وجدانية  تخلق عوالم جديدة، يتقاسم تجاربها العاطفية المبدع والمتلقي ، تفضي إلى  تكسير بنية السرد عبر جدلية  الدلالي ورجعه الفني،  وتقابل السردي مع الخليلي  ،من خلال التعريج على  عرض حقائق  صادمة حول السلوك الإنساني، وعنف الزمن ،وشراسة المعاش اليومي، وشح المعيش العاطفي، بعد نزوة القيم  من خلال اختراق مجازات القبيح والخرب من النفس البشرية ، بانزياحات الوسامة التصويرية طورا ،و الغزلية العذرية المكشوفة طورا آخر، وبإعمار الروح التي لم تطق الانفصال عن نسبها السماوي ولكنها ظلت لصيقة بنسبها الأرضي؛ ليستحيل الاقتصاص بعد تفجير جوهر اللغة ،من خلال تنويعات  الجملة السردية، الخاطة لمعمار النص ،والمؤثثة لبيته الداخلي  عبر أداة الحفر في نواة تكثيفات  المعنى، والنبش في طبقات تشكلات خطاب  المقصدية، على طريق رسم مشاهد فنية مختزلة لحقول عاطفية ومجالات لغوية، تحيل على بنيته  الإطار الملحمة بموضوعات مؤطرة   بلغة رومانسية شفافة ، متخنة بجراحات التوصيف، ومجترحة لإضمارات الحلم ، وتعقيدات بناء الصورة النوعية، المحولة للغة إلى وعاء حامل  لدلالة  متجددة، ذات وشاحات موحية ،و ظلال رمزية داخل منطق الكلام، و خارج نظام المفهومات ،تولد من إيقاع الرؤيا إيقاعات للسرد، و أنماطا للوصف ،وأشكالا من المعنى، وتنحت من التسريد مسبارا للتخييل ، يخط  تأطيرات للرؤيا ،و يرسم منظورات لشعرية القص، في أفق تحويل  كتابة  الحكاية ،وثابت العجيب  إلى متحول  كتابة التجربة ،  وكتابة الكتابة ، وكتابة  الجسد ،و كتابة هوى النفس… والانفتاح على الجمالية التعبيرية الشعرية  عبر تجريب  شعرية التلميح واختبار بلاغة الإشارة.

 

**- القضية الأجناسية:

يطرح تاردييه أثناء تناوله للمحكي الشعري مسألة « الأجناسية الأدبية »،(3) ويكشف عن سر تفجرالفن السردي بسبب إخفاقات الرواية الواقعية، وسيادة الصورة . وكان هاجس تاردييه هوتلمس جنس أدبي يخلخل المواضعات ،وينفلت من أسر التقنوية، يكون  وسطا بين الشعر والسرد ،يسميه جيرار جنيت « الجنس الجامع » يقول جنيت(4) : ليس النص هو موضوع الشعرية ،بل جامع النص، أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية، التي ينتمي إليها كل نص على حدة. ص5 .على شاكلة رواية »عوليس » لجيمس جويس(5)، الذي »لم يغير أسس الأدب الروائي فحسب ،بل إنه غيرأسس وأساليب الفنون والآداب كلها . »ص5(6) ويضيف المترجم طه محمود طه: »هذه ليست قصة أورواية أوملحمة أومسرحية أو قصيدة أو أغنية هذا عالم بأكمله »ص 9 عوليس جيمس جويس ط2 1994 ترجمة طه محمود طه(7) إذ احتار النقاد في تصنيف هذا العمل الأدبي الرائع بين الرواية والقصيدة نظرا للتقاطعات بين تحديد تودوروف(8) لمعالم الرواية العجائبية داخل جنس الرواية وتنظيرات سوزان برنار(9) لقصيدة النثر. وفي هذا الإطار نضع المجموعة القصصية « فاكهة النون »،للقاص المغربي علي عبدوس. فالسرد الوصفي مهيمن على النص، لكن القاص يستعير من الشعر أدواته التأثيرية ،من غنائية، ولغة تصويرية ،ومجازات…

فالأضمومة تستحضر الوظائف الست بشكل متفاوت ،لكن التنافس يشتد بين هيمنة الوظيفة الشعرية، التي تركزعلى شكل الخطاب ،وتعتبر اللغة غاية في حد ذاتها ،وتسقط المحور الاستبدالي على المحور التأليفي، أي محور الدلالة  والمعجم ،على محور التركيب  انزياحا أو معيارا  ،حيث يعتبر الاستعارة شعرية  (10)و يتجلى ذلك في اختياره لعناوين القصص  فاكهة النون، المرآة المتشظية، ضفتان ، حديقة الأسرار، 48 ،الوهم، لوحات ، ميتافيزيقا الحضور، تنويم  ،أماالكناية  فيربطها جاكوبسون بالواقعية  على نحو ما نلحظ في، لطيفة  ،سفر إلى،  ضجة العاصمة ، الأقدام الحافية  ،طريق النملة،  ورق التوت،  درس ،اعرب لي،  تحرير ،بطاقة هوية،  المقصلة ، اللامنتمي،  خارج الدائرة، هدايا  أل شندويل ، عذراء النخلة… وبين الوظيفة المرجعية  التي تعين السياق و ترتبط بالمحتوى، حيث يطرح متن الأحداث والوقائع والموصوفات عدة تيمات تمس قلب وعقل السارد وتشغله فنيا  كالولاء للعربية وفنونها، والمغامرات العاطفية بلا حدود للسن، والبحث عن أنواع  اللذة  الجسدية والروحية، ترسبات النفس البشرية ، وأحلام المستقبل، و ذكريات المكان والزمان والدراسة ،مشاهد من الواقع ، سلوكيات  نماذج من البشر ، توصيف واقع الأمة ، ونقد آليات السيطرة : الدين، السلطة ،الرغبة، و نقد الطب النفسي ،والأداء التعليمي، والتسيير المخزني ،و نقد الغباء العربي، ونقد  الإقطاعية والإقطاعيين ، ونقد أشكال العنف ضد المرأة…

ترى ماهي تجليات الحكي الشعري ضمن الوظائف الجديدة  داخل أضمومة « فاكهة النون »؟؟؟؟

 

1-الشخوص:

 

إذا كانت الرواية الجديدة تشهد تلاشيا لعنصر الشخصية وتشظيا في وظائفها ،  حيث تحولت إلى بطل مضاد، وإطار للرغبات ، ومستودع للأفكار والانطباعات؛ نظرا لتغليب منظورسردي  يفضي إلى هدم الشخصية، فإن فاكهة النون يهيمن فيها  السارد /المؤلف العليم في عشرين نصا  مثل قصة » المتعة الخالصة « و »لطيفة « و »فاكهة النون » و »سفر إلى » و »المرأة المتشظية  » و »ضجة العاصمة » و »ضفتان » و »حديقة الأسرار » و »الأقدام الحافية « و »طريق النملة » و » ورق التوت » و »48″ و »الوهم « و »اعرب لي » و »تحرير » و »بطاقة هوية » و »لوحات » و »ميتافيزيقا الحضور » و »أل » و »عذراء النخلة » ،ويستبد بصناعة الملفوظ السردي، ويرسم المشاهد ويصنع الحركة ،ويلتصق بمرابع الذكريات ومساقط الهوى، في الطفولة والشباب والرجولة والكهولة ،متمظهرا في ضمير المتكلم، ممتلئا شكلا ،وبحمولة نفسية فيها حضور وزخم وكثافة ، ومتجليا جسديا بشكل مفصل، إلى درجة أن باقي الشخوص تستحيل إلى  » مجرد صور، تخرج من العدم كالظلال.  » كتاب المحكي الشعري ص20. على نحو مانجد في قصة » درس » إذ يصنع أحداثها  » المرحوم » وهي شخصية مجهولة يكتفي السارد العليم المؤلف، بنعتها بصفتين: الكرم والمعزة، ثم شخصية « فقهاء » بصيغة التنكير،  حيث يكتفي بالسخرية منهم ،من خلال كشف بعض السلوكات المعروفة  اجتماعيا عن بعضهم ،كنعتهم بمراقبة الضيوف الوافدين ،والتخابر حولهم فيما بينهم  ،والقول دون الفعل ، والتطفل على الدين دون تمكن …وهو رسم عام غير واضح المعالم لهذه « الشخصية » الواقعية، المنشأة من لحم ودم  ، دون تعيين أوتقييد أوتخصيص ، كالتسمية  ،والإحالة على المستوى الديني ،والانتماء الطبقي والمذهبي ،كما هو الشأن بالنسبة لرئيسهم  الذي صب أحد الضيوف – بإيعاز من السارد- جام غضبه عليه وحول المأتم من مناظرة  للتوعية الدينية إلى مسخرة مذلة، أفضت إلى الانسحاب ، ثم تواطؤ رفقاء الفقه  على شيخهم.وفي نفس الاتجاه تسير شخصية « بائع الدجاج » الذي تحول بفعل النقد والشهادة ، إلى نقطة تقاطع لنماذج البشرية تنعت بالإرهاب ،فبالإضافة إلى الدموية  ،وعدم الرأفة بالحيوان، تقوم هذه الشخصية  باستغلال الدين في التجارة إلى درجة الاحتيال ،  بالإضافة إلى الجشع وإيثار الدنيا على الآخرة، رغم الاستشهاد بالنصوص القرآنية والأحاديث  النبوية .إنها شخصية غريبة الأطوار، إشكالية، سقطت في شرك الرياء، وحب الظهور، وعلى شاكلة شخصية  » عبدو »  العامل الأجير ، الذي  بلغت به وصوليته  خداع  رفقائه الكادحين ، من خلال مقلب التمرد على الشركة الأجنبية، التي تقوم  بالأشغال  وتشغل يدا عاملة أجنبية عن المدينة ،ويبقى أبناء البلد دون عمل لتفترسهم مخالب البطالة، وأنياب الانتظار تحت أشعة الشمس…  إنها شخصية نمطية متواترة ومطردة، في حياة النضال في عصرنا، عصر المصالح ،وإلغاء المبادئ ،سقطت في شرك الانتهازية، والزعامة العنترية الذبابية..وهكذا بقية الشخوص المنفصلة شكلا عن السارد المؤلف العليم  ،مجرد شخصيات هلامية ،صفاتها غير محددة، وعملها مجهول ، وعلاقاتها ملتوية …ليست نابعة من الإدراك، بل هي نابعة من الحلم  » المحكي الشعري ص 24.كشخصية المفتش في درس المعلم ،الذي اقتحم أجواء درس مصنوع من أجله في صمت ،ثم غادره، وهو خارج الدائرة ،دون أن يترك أثرا يحدد طبيعة زيارته، ومرجعياته التربوية والوظيفية … وشخصية » الجزار »الدموية الذي قدمه المعلم للناشئة الصغيرة، سفاحا يقطع دون شفقة  أجزاء بهيمته، دون أن ينته في درس للمحادثة، لم يبدأ أصلا . إنه إقحام غريب لشخصية لم تشبع تفسيرا ،على مستوى عالم المهن، وتربية الاختيارات، في عالم الطفولة البريئ. وشخصية « المريض » في سرير التنويم المغناطيسي، كيف برهن لمعالجه أنه أصح منه ،عندما التحم بواقعه وواقع البشر، بعدما اعتقد الطبيب أن سريره البروكستي ،سيمدد ما تطاول من أحلامه وخيالاته، بعدقطع مريضه الطريق على فرويد ،وغيره من لصوص الشعورالانساني،  واللاشعور الجمعي، بين مروجي أطروحة الوعي واللاوعي ، لينتصر لمؤسسة السحر الاعتقادية على صعيد المجتمع. إنه نوع من النقد لتمثلات علم النفس للإنسان، باعتباره بنية شعورية ،ولاشعورية، وعقد، وفلتات، وزلات…وشخصية « الشيخ المفتي  » ،الذي تصيده أحد « نسور الغرب » في حبائل الطمع، وشرك الفتن  الدنيوية ؛ ليسلب حريته ويغتصب مقر إقامته بالحديد والنار؛ ليكون عرابا على دخول المحتل لبلاده.

هذا وحدد تاردييه عدة سمات للسارد البطل، في المحكي الشعري ص30 يمكن اختزالها في   » شهادة التائه على واقع غير مقيد بشروط ذاتية وموضوعية ،وغير مرتهن بكشف توليدات الشهادة الإديولوجية ، والإنسانية،  والفنية، وسمة  المسلوب الخاضع للطابع القدري للتخيل: » كما هو حال بالنسبة لشخصية « عبدو » ،الذي استسلم لقدر الجشع ،والوصولية ، والانتظارية ،وفشل بشكل عبثي أن يكون مثقفا عضويا؛ ليغير واقعا تبرأ منه قبل أن يتبرأ هو منه . وهكذا  تنطبق  هذه السمات على جل شخوص » أضمومة فاكهة النون  » ،من قبيل « المرحوم »، و »شيخ الفقهاء »، و »بائع الدجاج » ،و »عبدو »…. وذلك تيسيرا لولوج القارئ للعوالم السردية ،والقبض على  المحكي الرئيسي والمحكيات الثانوية، دون » تحليل الشخوص، وفق مقولة العامل أو  الممثل » .ص37 .

 

2-الفضاء :

*- المكان:

 

لقد عمد القاص علي عبدوس في جل نصوصه القصصية، إلى تقنية ابتلاع السارد البطل للشخوص، أو تقزيم حجمها الوظيفي وتحويلها إلى ظلال ،وخواء سيكولوجي .مما جعل المكان بطلا  لإدراك الصور، وتمثيل الوقائع، ودليلا نصيا ينتج أفعال التمثيل ؛ لتحقيق التجلي اللغوي داخل سياق منظومة الوصف ، ولفك شفرة الصور .المحكي الشعري ص 49 ؛  ليتحول إلى أداة « تتوزع فيه بشكل متزامن الأدلة، وتتعقد العلاقات اللازمنية . » تاردييه ص 47.

 من هنا يكثر القاص علي عبدوس من صيغة الزمن الماضي ( أصابني ، انتقلت ،وقعت …ص4 انغمست ، جذبني…ص6 كنت تابعت،تراكمت عليه…ص9 …)،ويحمل المركبات الاسمية إحالات على أشياء بشرية، وجامدة، تكسر منطق الربط الزمني، وتحقق التوقعية المعجمية  لفليب هامون(11)، مثل :(ظل امرأة ،أنت مجنون، وجنتاها طافحتان…ص6-7 و( حصان الفارس،عيناي مطبقتان ،عروس البحر هناك ، تاج كسرى…ص11-12 (الشمس باسمة فخورة، الطاهر الجميل …ص45 ) (أنت مشحون بفكرة ، حياتك مشيدة على العنف ، تأويلاتكم مبنية على عقدة أوديب ص105 )؛ لذا تلجا اللغة إلى التصوير البلاغي ،لا لتقريب المعنى بل لتبعيده ، وإحداث التأمل » ؛ لذلك « لايتمكن القارئ من تصديق الديكور، بل لربما يحال بينه وبين رؤيته . » المحكي الشعري ص56 مثل الوصف العابر للمدينة في قوله : » ظلت المدينة الصغيرة ،هامدة ، ساكنة منذ زمان …ابتلع عبدو شايه، وخبزه على عجل…آليات ضخمة كالجبال ص80 ومابعدها، (كان هناك…في مكان ما …الشمس باسمة ،فخورة ،والقمر بجوارها في ظل بارد …تشبه أشجار التوت…نسيت الطبيعة فصولها …كانت معي هناك سيدة الجميلات…)ص45 ومابعدها إن الفضاء  في بعض قصص المجموعة ، وحسب بورتوف وويلي(12): »سريع ومتقطع وينزع نحو ترميز الأمكنة، دون منحها محتويات نفسية، أو اجتماعية ،حتى أن الكاتب يأبى وصفها . » ص 100 (لم أكن أحس بوجودي المادي ، كنت أحيى نوعا من الإشراق مع نفسي…)ص45  وفي البعض الآخر الفضاء محايد، يستدرج السرد نحو تيمة الرحلة ،فيتكثف حضور الطريق، والتنقل والسفر، ويهيمن منطق الصدفة أوالضرورة ،وفق إيقاع مزدوج يخضع لنظام التقابل المعجمي، بين فضاء إيجابي وحميم وآخر سلبي ومعاد » المحكي الشعري ص56 على شاكلة قوله :( بدا لي الأفق مغلقا بعد رحلة ..طويلة…ظننت أني رتبت دفاتري، وأعدت ربط وشائج الحياة مع عالمي المظلم…ص59 و( بين الشمس والقمر بنيت خيمة قروية وسط حديقة خيالية ، من وبرإبل النابغة وصهيل جواد المتنبي ، وأوتاد الخليل، أقمنا فيها أنا وحورية من طينة اهتمامي…ص31 ) (انتزعت مقعدا في حافلة سريعة…جلست في مقعدي لاهثا…وانطلقت الحافلة…وسافرنا عبر الزمن في ذكرياتنا الداكنة… هناك في النفق الممتد …ظلمة تتخللها ثقوب …سرنا ببطء إلى المخرج المضاء ص13 وما بعدها

 

**- الزمان :

 

يرتهن الزمان بالمكان، ويخضع لنظام التقابلات بين اللحظة السعيدة، واللحظة الشقية؛ فيعيد إنتاج بنية الفضاء، ويتحول إلى أداة للحفر تتلاشى بواسطتها  الحدود بين الحكي والوصف ،حيث يتحول إلى حكي مرئي، أو حكاية لزمن جامد أكثر كثافة . » المحكي الشعري ص95  على نحو ما نلمس في سرده :(غصت في ذاكرتي…في وجوهي …في طفولتي…حاولت أن أجمع القطع وأنسق بينها ، لأعيد بناء المرآة…حلقت وعدت إلى الأرض في لمح البصر …ص 17  فيتعرض الحكي بفعل التكثيف إلى تصدعات تحدث اهتزازات في خطية السرد وترددات الحدث، تخلق التوازي بين السرد والشعر، على مستوى التكرار، واندفاع الكتابة  ،وخطية القراءة …ص103 المحكي الشعري . كما يتبدى لنا من خلال هذه المقاطع :( شرعت أمسح دمي… ودموعي… في حجرة معتمة …وسط حي « المحيط »…أوحت لي بلوحات مصارعة الثيران الإسبانية… لونت اللوحة موسيقى « شوبان  » من المحيط… كهدير البحر …وضعت قدمي  اليمنى على الخطيئة الأولى … تبخرت في ضباب العاصمة …دست البرلمان… باب الرواح…  جامعة محمد الخامس …رأيت صومعة حسان…التفت ورائي رأيت سنين عمري…دامت الرحلة خمس ليال ص 22 23 24  وما بعدها  يقول تاردييه في هذا الخصوص  : »بالإيجاز والتقطع يمكن الإمساك بلحظة الكشف للإشكالية المثيرة . »

 فمن خلال المقطع المستشهد به ، يقضي البطل ردحا غير يسير من حياته في العاصمة ،مرتحلا بين فضاءاتها المميزة ، يترك قطعا من ذاته ،ومن ذكرياته ، متوزعة نفسه  بين لحظات السعادة واقتناص فرص اللذة، ولحظات الشقاء وتيقظ الوعي الطلابي وروح المسؤولية ، وصحوة الوازع الديني ومقتضيات السلوك الحضاري؛ فيتحول البطل من مثقف عضوي مختص بتبليغ رسالة التنوير،وإشاعة الوعي، إلى بطل إشكالي يكشف تناقضات النفس ،المتشربة بتطلعات شرائح مجتمعية عريضة ،ونزوعات طبقية نحو امتلاك الزمن والمكان والأشياء واللذة.

 

3-البنية:

 

تتميز البنية في الأضمومة بالنثرية والأفقية ، لكنها تنزع  في المستوى التركيبي نحو العمودية الشعرية، التي تنصرف إلى اكتناه الدلالة ،والاستمتاع  بجمالية اللغة. المحكي الشعري ص115 على طراز مانلحظ في العناوين العريضة :(إذا سمعنا شاعرا…ص3 ، المتعة الخالصة ص 4 ، فاكهة النون ص 9 ، المرأة المتشظية ص 17 ، ميتافيزيقا الحضور ص 90 ) نتبين أن المعمار السردي يشبه كثيرا المعمار الشعري الحر، المؤسس على الأسطر، في إطار بنية دائرية منغلقة ، تلغي الزمن، وتبطل الحركة » حتى يظن أنه » لم يقع شيء سوى الجمل ،وهي تتناغم فيما بينها.  » المحكي الشعري ص120  تأمل كلامه :(أصابعها مستقيمة نضرة ،كموجة طائشة عن مد البحر، أحسست بنعومة راحتها، وحرارتها ، بدت لي شامخة إلى مالانهاية …) ؛ فيضطر القارئ إلى ركوب القراءة العمودية  ؛ليجيب عن السؤال ماذا بعد أثر المعنى ووقع الجمل؟

أما البنية الجدلية فنسجلها في بعض النصوص، ذات الاتجاه الواقعي في السرد ، حيث يتحول » الظاهر إلى موضع سؤال، يقدم معنى جديدا » . المحكي الشعري ص127  على نحو ما نلحظ في أقصوصة « تنويم » ،التي توازي بين الطرح الجمالي والطرح الموضوعي ،المنتقد لأساليب التحليل النفسي الفرويدي حيث يبدو البطل من خلال الاستجواب الإكلينيكي ،أصح من طبيبه المعالج . فيتطابق الداء والدواء ويتعارض المعالج والمريض.

 بينما البنية المتغيرة الحرة أو الطباقية ،فتسود في نصوص أخرى، تتميز » بالبياضات والفراغات والتقاطعات ».. . المحكي الشعري ص131 على شاكلة نص » هدايا »، الذي يثير تيمة الغباء والذكاء عند العرب والغرب بشكل متضاد. ونص « 48 »الذي يطرح بأسلوب كافكاوي الوجود العبثي ،وخواء السياسة بطريقة اقتضائية واستتباعية ،ونص « ورق التوت » الذي يؤبن سقوط الحضارة في مراكزها العتيدة « بغداد  » و »القاهرة « ، ويشيع زمن الرشيد وزمن الفراعنة، مواريا تراب الهجر على الأنس ، والنضارة، حسب قانون الملح والمثلث المعكوس،ونص « حديقة الأسرار »، الذي يبحث بواسطة الانزياحات والخيال، عن الخلاص من المعاناة في نهار دون ليل ،وفي عمق حديقة معلقة بين الأرض والسماء بشكل فانطازي مؤثث بإطار أسطوري.

 

4-الرمز/الأسطورة.

 

إن فراغ البطل في الأضمومة ، يفسح المجال واسعا أمام « الاستعانة بالأنساق الرمزية ؛ للتعبير عن معنى العالم . » المحكي الشعري ص145 ، من خلال ميثولوجيا جديدة تمتح من تمثلات » الذاكرة، والعودة إلى الأصل . » المحكي الشعري ص148 ، ثم  تلبس المعنى القصصي دلالات وأبعادا عميقة، تجعل للقصة قصة أخرى، تفك شفرتها عبر التأويل، والتركيب العمودي   » ،على نحو ما نلحظ في نص « فاكهة النون »، ونص « 48 »، ونص  » الوهم  » ،ونص « لوحات « ، ونص  » ميتافيزيقا الحضور »…حيث يركب السرد أجنحة الخيال والتعالي عن الواقع،وولوج عالم الأسطورة عبر الواقعية مثل أسطورة الرجل والقلعة الشاهقة ،والغزو السماوي ، وأحلام الغاب الرومانسية ، واغترابات الوجودية والعبثية،وقصص زمن غروب الشعر والحضارة،ورحلات البحث عن المعنى المفقود في لوحات الكون والحياة والوجود.

 ؛ لذلك فهذه النصوص القصصية  « لاتعير أهمية كبيرة للحبكة ، وتجنح نحو تفسير النماذج البشرية .  » فيكون للأحداث والشخوص والفضاءات ،معنى حرفي وآخر مجازي . المحكي الشعري ص164 .

5- الأسلوب

 

الأسلوب عند كونراد بيرو(13) : ليس مجرد خرق لقاعدة خارجية عن النص، بل هو العدول أصلا. ص 69  وهذا الخيار الأسلوبي ارتضاه القاص علي عبدوس  في  نص » فاكهة النون »بامتشاقه إزميل اللغة المجازية ؛  لنحت النماذج البشرية، وتصوير المشاهد الرومانسية أو الوجودية العبثية،  من قبيل قوله : (نظرتك الحالمة عود زرياب …اغسلي هوانك في البحر…ردي لي تحيتي… لحظتي ص97 وقوله : (حفرت في السماء حفرا غرستها شجرا ص59 )، (جنود الأرض يطوقون الهواء والمعاني، ويلوحون بنظرة شزراء ،تندم على وجودك بين الذين لايعقلون. ص 35 )، وقوله : ( قتلت الحيرة والظلال الداكنة الممتدة كالأخطبوط …ضمدت جراحها بلمسة سحرية …وبسمة بريئة طاهرة …محوت البرزخ والعجل امتزجت الضفتان ص 29).

إن الإبطاء في الوصف، واستبدال الاسترسال في سرد الحدث بالتصوير على أساس استعاري. المحكي الشعري  ص140 جعل الأضمومة تتبنى بنية صوتية ،تقوم على التوازن و التقفية ، والتقطيع  والتقابلات ،وبنية تركيبية تنوع في أنماط الجمل ،النواة والتفصيلية ،بنعوت، أو مضافات ، تحول التصوير بديلا عن الإيقاع  ، فيبدد النسق الصوتي تلاشي المعنى، ويعود بالمعنى إلى المعنى نفسه . المحكي الشعري ص188. على شاكلة ما نلمس في هذه المقاطع المختارة :( والغياب غير المبرر من فر الدوار والخوار… اختلطت موسيقى المدنس بالمقدس …هاروت وماروت …وريقة دارت …ثم طارت… ثم ضاعت في الدروب…ص28 وقوله :( في بيتي هوت فتهشمت… كسرت شظايا وقطعا من شتى الأحجام والأشكال… تناثرت معها ذكريات عزيزة ص 17) …وقوله :( صنعت إكليلا من سكة التبانة ، وكرسي العرش من اللالئ والأحجار الكريمة التي استوردتها من المريخ دون ضرائب…زرعنا جميع أنواع الزهور…والعطف والحنان والنباهة والاحترام والموسيقى الصامتة والشعر الجميل والإشارات والإيماءات الذكية…ص 31 ).(14)

***- خلاصة :

إن السرد في  أضمومة « فاكهة النون » مفتوح على كل الاحتمالات ،غني بسيناريوهات التصنيف الروائي، أقرب إلى الحكي الشعري ،وأبعد من الشعر السردي، وإن استعار منه اللغة الغنائية،  والسيولة العاطفية ،والتصوير الفني، والاستغراق في انهمامات الذات المبرحة بالهيام الرومانسي… لهذا وفق في تحقيق  المعادل الموضوعي بين الطرح الفكري الخاطف، للقضايا الإنسانية الفردية والجماعية ، والطرح الجمالي المنفتح على المنهج الشعري، وعبر الواقعي، والواقعي الاستتيقي.

*-إحالات :

(1) الشعر الجديد والرؤيا.عن كتاب زمن الشعر أدونيس ط3 1983 دار العودة بيروت.

(2) الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب الدار البيضاء المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع  1987 . للدكتور أعراب الطريسي المزداد الناظور 1946 .

(3) كتاب المحكي الشعري لجان إيف تاردييه الطبعة 1 بوف باريس 1978 . نقلا عن المحكي الشعري للكاتب المغربي عبد الرحيم كلموني.

(4) مدخل إلى جامع النص جيرار جنيت.ترجمة عبد الرحمان أيوب المعرفة الأدبية دار الكتب طبع ونشر دار الشؤون الثقافية العامة آفاق عربية 1999 .

(5) رواية عوليس جيمس جويس ترجمة الدكتور طه محمود طه .

(6) مقدمة ناشر رواية عوليس ص5

(7) مقدمة المترجم الدكتور طه محمود طه ص9

(8) في كتاب مدخل إلى الأدب العجائبي يحدد تودوروف ثلاثة شروط تؤمن طبيعته الفنية وهي : 1- إجبار النص للقارئ على اعتبار عالم الشخصيات عالم أشخاص أحياء وعلى التردد بين التفسير الطبيعي والتفسير الخارق.2-التردد المحسوس في شخصية ما والمثول في الغرض أو الموضوع لتحقيق تماهي القارئ مع الشخصية. 3-تبني القارئ لموقف من النص كرفض التأويل المجازي والاستعاري والتأويل الإنشائي. ص49 .

 

(9)قصيدة النثر « قطعة موجزة بما فيه الكفاية موحدة مضغوطة كقطعة بلور …خلق حر ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجا عن كل تحديد وشيء مضطرب إيحاءاته لانهائية  » للاستزادة انظر سوزان برنار قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ترجمة د زهير مخامس دار المأمون بغداد 1993.

 أما أنسي الحاج في لن دار الجديدة بيروت 1994 الطبعة الثالثة فيشترط ثلاثة شروط في قصيدة النثر : 1- الإيجاز 2-التوهج 3- المجانية.

(10) رومان ياكوبسون صاحب نظرية التواصل في اللغة عرضها في كتابه القيم  » بحوث في اللسانيات العامة » حيث خصص الجزء الأول للبحث في أسس اللغة أما الجزء الثاني فبحث فيه العلاقات الداخلية والخارجية للغة وفي الفصل الرابع من الكتاب » الشعرية واللسانيات »طرح نموذجه التواصلي : مرسل  مرتبط بالوظيفة التعبيرية –مرسل إليه يؤدي الوظيفة الإفهامية – المرجع مرتبط بالوظيفة المرجعية التعيينية –السنن يؤدي وظيفة لسانية واصفة– القناة مرتبطة بوظيفة انتباهية – الرسالة وتتمحور حولها الوظيفة الشعرية الجمالية التي تقوم على إسقاط مبدأ التماثل لمحورالاختيار على محورالتأليف حيث ينتج المستوى الاستبدالي المشابهة والمغايرة والترادف…في حين ينتج المستوى التركيبي المجاوزة بينما التماثل يحقق التوازي وصياغة ثنائيات تمثل أنواعا من الزخرف.وتهدف نظرية التواصل إلى رد الاعتبار إلى العناصرالنصية الداخلية والتأكيد على الاستعارة والكناية. للاستزادة انظر كتاب « مدخل لدراسة النص والسلطة « إفريقيا الشرق البيضاء 1991 عمر أوكان.

(11) فليب هامون في كتاب مدخل إلى تحليل » وصفي »  1911 اتجه إلى » تسريد الوصف وتزمينه واعتباره مكونا خطابيا ووحدة نصية مستقلة لها اشتغال داخلي ووظائف محددة » في الوصف ص28 محمد نجيب العمامي وينجز الوصف باعتباره طاقة استعارية وفق رؤية متشكلة من ذات رائية ونافذة عبارة عن مكان شفاف ومشهد يخضع للتواتر السجلي والمعجمي لأفعال الرؤيا فيما يشبه القائمة أو المدونة المغلقة القابلة للترتيب والتصنيف والطي والنشر والتعليق المكاني والتغريض والحضور الانقضائي في الكلام والغياب وفق نظام وصفي يتحرك فيه الموصف داخل نظام دلالي مشكل للعبة توازن وانسجام وانتشار وتبئير يتوسل التوزع داخل فضاء النسيج النصي لتشكيل البنية المشجرة اعتمادا على تسميات وأسانيد. لمزيد من التفصيل انظركتاب « النص الوصفي » لجون ميشال آدام وبوتي جان أندريه إلى جانب كتاب » الوصفي » لفليب هامون. وافحص رسالة ماجيستير تحت عنوان بنية الوصف ووظائفه في ألف ليلة وليلة للدكتور دياب قديد ومقال « الوصف » للدكتورة سلوى العباسي بنعلي.

(12) بورتوف وويلي كتاب عالم الرواية بوف 1972 ص100

(13) كونراد بيرو الأسلوبية ص69 .

(14) المجموعة القصصية « فاكهة النون » للقاص علي عبدوس شركة مطابع الأنوارالمغاربية الطبعة الأولى 2011 .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *